إضاءة على –

فلسطين الحضريّة

إضاءة على –
فلسطين الحضريّة
مسارات متباينة لتحوّلات مكانية واجتماعية

عرض جدول الأحداث

مدينة نابلس

1987
Source: 
الأرشيف الرقمي للمتحف الفلسطيني, مجموعة Joss Dray Photographs
Author(s): 
Joss Dray

دخلَت فلسطين القرن العشرين وفيها عددٌ من المدن والبلدات الكبيرة ومتوسطة الحجم، وكانت جزءاً من شبكة حضريّة إقليمية.

في أواخر الفترة العثمانية كانت مدن، مثل نابلس ، وبئر السبع ، ويافا ، وعكا ، وحيفا ، مراكز هامّة لشبكات تجارية واجتماعية تشمل دمشق ، وحلب ، وبيروت ، والقاهرة ، ومدناً أبعد. كما كانت مدن أخرى، مثل القدس ، والخليل ، والناصرة ، ومدينة غزة ، مراكز حضريّة هامّة ذات شبكات تواصل إقليمية واسعة. وقد تضمّنت مخططات التنظيم العمراني العثمانية إنشاء نُصُب وأماكن عامة، واستثمارات في البنية التحتية على شكل طرق وسكك حديدية، وتضمّنت كذلك الكثير من مخططات المباني التي أحدثت طفرة بناء. أما المدن الساحلية، مثل يافا، وحيفا، وعكا، فقد اندمجت في الاقتصاد العالمي الرأسمالي المتوسّع والأسواق الإقليمية. كما تم تطوير ميناء يافا من أجل استيعاب الازدهار الذي شهده قطاعا السياحة والحج.

توسّعت المدن الساحلية أكثر بعد بدء الانتداب البريطاني. فقد ازداد تعداد سكان يافا وحيفا نتيجة هجرة الفلاحين من المناطق الريفية الداخلية، وزيادة الهجرة اليهودية، وتأسيس المستعمرات الصهيونية داخل حدود هذه المدن.

وتوسّعت القدس بدورها خلال سنوات الانتداب البريطاني نظراً لأهميتها الحيوية كمركز إداري وديني. وحدث توسّع هامّ في حدود المدينة مع بناء الضواحي الجديدة، في غربها وشمالها وشرقها، لصالح الطبقة الوسطى العليا الفلسطينية. كما شهدت حيفا توسّعاً جغرافياً مع إنشاء الأحياء الجديدة. وكذلك الأمر في مدينة غزة، فقد تأسّست خلال فترة الانتداب أحياء سكنية وتجارية جديدة، سكنتها في الغالب طبقة من التجار والملّاك.

خلال سنوات الانتداب البريطاني، شهدت مدينتا حيفا ويافا الساحليّتان، بالإضافة إلى مدينة القدس الداخلية، ازدهاراً في مجال الحياة العامة الحديثة- بما في ذلك الصحافة المطبوعة، والمؤسسات المجتمعية ذات الطابع السياسي والتربوي والأدبي والاقتصادي، وأماكن الترفيه والتسلية. وكانت تتشكّل في ذلك الحين ثقافة حضريّة حديثة من قبل الطبقة البرجوازية الناشئة، والطبقة الوسطى، والبروليتاريا الوليدة.

ولكن الهجرة اليهودية والاستيطان، خلال فترة الانتداب، أعاقت مسار التطور الحضريّ الفلسطيني في بعض المدن. فكان هذا، على سبيل المثال، وضع يافا التي كانت مستعمرة تل أبيب تلقي بظلالها عليها. وكذلك كان الحال في القدس، حيث كان يجري إنشاء المستعمرات اليهودية في المناطق الغربية والشمالية من المدينة. واستوطن المستعمرون أيضاً في مدينتي حيفا وعكا، ما أنذر بفقدان الأغلبية الديموغرافية والسياسية الفلسطينية فيهما.

كان لـ النكبة تداعيات بالغة التأثير، وبعيدة المدى، على الحياة الحضريّة في فلسطين. ففي المناطق التي سيطرت عليها القوات الصهيونية، فقدت بعض المدن، مثل: حيفا، ويافا، واللد ، وعكا، والرملة ، وبئر السبع، والقدس الغربية ، أغلبية سكانها الفلسطينيين جرّاء الطرد والتهجير القسري. وسرعان ما استعمر المستوطنون الصهاينة هذه المدن، ففقدت طابعها الفلسطيني.

خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين استمرّ الفلسطينيون، الذين أصبحوا بحكم الواقع مواطنين في إسرائيل، بالعيش في جيوب حضريّة منعزلة محاطين بإسرائيليين يهود. وزاد تعداد سكان بعض المدن، مثل الناصرة، جرّاء هجرة النازحين الفلسطينيين وغيرهم من الريف المحيط بها بعد سنة 1948. وبناء على إستراتيجية الدولة بالحفاظ على أغلبية يهودية في الجليل، تم التخطيط لبناء مدينة "نتسيرت عيليت " على أراضٍ فلسطينية مصادَرة في نهاية الخمسينات، بحيث أحاطت بمدينة الناصرة، وحدّت من توسّع هذه المدينة الفلسطينية التي تشكّل أكبر مركز حضريّ للفلسطينيين في المناطق التي تم استعمارها في سنة 1948.

أما في يافا، فنتج عن مصادرة الأراضي لمصلحة المستعمرات الصهيونية، تحويلُ أحياء السكان الفلسطينيين الأصليين إلى غيتوهات، وحشرهم في الأحياء الفقيرة، مثل حي العجمي الذي كان إبّان الانتداب البريطاني حيّاً أنيقاً تقطنه عائلات من الطبقة الوسطى والوسطى-العليا الفلسطينية الناشئة. كما أدّى الاستشراف العمراني (البرجزة) للمناطق القديمة من مدينة يافا، وتحويلها إلى مجمّعات مسوّرة وأماكن للفنانين، إلى تغيير جذري في هوية المدينة. وتعرّض الفلسطينيون الذين بقوا في مدنهم الأصلية بعد سنة 1948 في عكا، والرملة واللد والعديد من المدن والبلدات الفلسطينية الأخرى، إلى العزل والتهميش والمحاصرة. ففي حيفا، على سبيل المثال، تركّز السكان الفلسطينيون في جيب محصور في منطقة وادي النسناس والمناطق المحيطة به.

كما تركت النكبة بصمة هامّة على الجزء غير المحتلّ المتبقي من فلسطين، فامتلأت بعض المدن مثل مدينة غزة باللاجئين، وتغيّرت البنية الديموغرافية والطبقية للمدينة بشكل دائم. ومع وصول الحكم المصري إلى قطاع غزة ، تحوّلت المنطقة إلى معزَل محاصَر، واستمر الوضع كذلك حتى يومنا هذا. أما في الضفة الغربية ، فبقيت القدس، ونابلس، والخليل، وبيت لحم هي المراكز الحضريّة الرئيسية، وبدأت باجتذاب المزيد من المهاجرين من المناطق المجاورة. إلا أن السياسة الأردنية مالت نحو تطوير العاصمة، مدينة عمّان ، التي تقطن فيها حالياً أغلبية فلسطينية. وساهمت موجات هجرة أعداد كبيرة من المتعلّمين والعمّال المَهرة من الضفة الغربية إلى الأردن ودول الخليج في تفاقم حرمان المراكز الحضريّة الفلسطينية من إمكانية التطور والنمو.

أدّى احتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1967 بدوره إلى تحوّلات تذكّر بمصير المدن والبلدات الفلسطينية في إسرائيل بعد سنة 1948. فقد تعرّضت القدس لأهم تحوّل في جغرافيّتها ومؤسساتها السياسية، إذ بدأت مستعمرات استيطانية كبيرة تحيط بالمدينة وتتوغّل في القسم الشرقي، الذي كان في السابق منطقة فلسطينية بامتياز. وهكذا أصبحت القدس الشرقية اليوم عبارة عن مجتمع محاصَر بالمستعمرات اليهودية، والجدار الفاصل، وغير ذلك من أشكال الحواجز الأمنية وحواجز التفتيش. وعلاوة على ذلك، هناك القيود المشدّدة على البناء، والمخططات الإسرائيلية لإيجاد أغلبية يهودية في مدينة القدس "الموحّدة" التي أدّت إلى سحب آلاف أذونات الإقامة من فلسطينيي القدس الشرقية نتيجة لسياسة "مركز الحياة" التي تم تطبيقها في سنة 1995.

هذه التطوّرات بمجملها (القيود على التوسّع الجغرافي والبناء، والتهديد بإلغاء الإقامة)، أفرزت مشهداً من التجمّعات الحضريّة الفرعية في مناطق كانت ريفية سابقاً، مثل كفر عقب ، وعناتا ، وشعفاط . فتحوّلت قرية كفر عقب، وقرية ومخيم شعفاط ، الواقعتان ضمن حدود بلدية القدس الموسّعة، إلى تجمّعات كثيفة لأبنية متعدّدة الطوابق، مع خدمات عامة شبه معدومة للمقدسيين الفلسطينيين الذين يريدون الحفاظ على إقامتهم في القدس وتجنّب دفع إيجارات باهظة في القدس الشرقية. كما تشكّل هذه المناطق أيضاً ملاذاً للمقدسيين المتزوجين من أشخاص يحملون هوية الضفة الغربية ومحرومين من الحصول على إقامة في القدس.

وفي أماكن أخرى من الضفة الغربية، حالت القيود الإسرائيلية الاستعمارية دون توسّع البلديّات ودون منح رخص البناء، بالإضافة إلى هدم المباني التي تم إنشاؤها دون ترخيص (خاصة في القدس وفي ما تعتبره إسرائيل، منذ اتفاقية أوسلو ، المنطقة ج ، التي تشكّل 60% من أراضي الضفة الغربية). وقد أدت هذه القيود إلى توسّع عمودي للمباني في المناطق المتاحة للمدن، غالباً على شكل عمارات سكنية متعدّدة الطوابق أصبحت سمة طاغية على المشهد الحضريّ في نابلس، ورام الله ، والخليل، وغيرها من البلدات الأصغر وحتى القرى.

وكانت المحركات الرئيسية للنهضة العمرانية في الضفة الغربية هي المضارَبات العقارية، والارتفاع الحادّ في أسعار الأراضي المحيطة بالمراكز الحضريّة (في الأغلب في المنطقة أ )، بالإضافة إلى توّفر القروض المصرفية للموظفين من الطبقة المتوسطة. وقد حظي المستثمرون والرأسماليون المحليون والعرب بدعم السلطة الفلسطينية والمؤسسات المالية الدولية ووكالات الإعانة، الأمر الذي يعكس اتجاهاً نجده في المنطقة العربية ككل، يتمثّل في إقامة شراكة ما بين الدولة ورأس المال والسلطات المحلية تصبح هي المحرك الرئيسي للتطور العمراني.

برزت رام الله في القرن الحادي والعشرين كمركز حضريّ رئيسي في الضفة الغربية بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، وتفوّقت من حيث الأهمية السياسية وجذب المهاجرين على مدن القدس، ونابلس، والخليل التي شكلّت تاريخياً المراكز الرئيسية للإدارة والتجارة والإنتاج في الضفة الغربية. وقد سيطر على مدينة رام الله نمط حياة الطبقة الوسطى المعولَمة، وبدأ هذا النمط يجد مريدين له في مدن أخرى.

والتاريخ الحضريّ الفلسطيني هو أيضاً تاريخ مقاومة الاستعمار والتعبئة الشعبية. فقد كانت المدن الرئيسية في فلسطين، مثل القدس، ويافا، وحيفا، مراكز للتنظيم السياسي والاحتجاج إبّان الانتداب. وبعد سنة 1948 أصبحت أنشطة المقاومة في المدن الفلسطينية سابقاً محدودة، بسبب تشرذم ومحاصرة السكان الفلسطينيين. إلاّ أن الناصرة حافظت على مكانتها كمركز للنشاط السياسي الفلسطيني منذ السبعينات على وجه الخصوص. ونشأت في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلال سنة 1967 حركة مقاومة نشطة في المدن والبلدات الرئيسية، بما في ذلك مخيمات اللاجئين التي أصبحت جزءاً من النسيج الاجتماعي الحضريّ. وبرزت البلدة القديمة في نابلس لمقاومتها اقتحامات الجيش الإسرائيلي خلال الانتفاضة الثانية ، وبشكل خاص في الفترة ما بين سنتي 2000 و2005.

حفّز التطور الحضريّ الفلسطيني التحولات الاجتماعية في ديناميّات العلاقات الطبقية، والأنشطة الانتاجية، والتشكيلة الاجتماعية، ونمط الحياة، وتنظيم الحيّز، والعلاقة بين المدينة والريف، وكان انعكاساً لها في الوقت نفسه. وقد صعدت وسقطت مجموعات اجتماعية وطبقية خلال هذه المرحلة التاريخية من التطور الحضريّ تركت أثرها على العالم الاجتماعي لسكان المدن.

قراءات مختارة: 

دوماني، بشارة. "إعادة اكتشاف فلسطين: أهالي جبل نابلس 1700-1900." بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998.

تماري، سليم. "الجبل ضد البحر: دراسات في إشكاليات الحداثة الفلسطينية". رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2005.

تماري، سليم (محرر). "القدس 1948: الأحياء العربية ومصيرها في حرب 1948". بيروت والقدس: مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالاشتراك مع بديل- المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2002.

الخالدي، وليد. "قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876 –1948". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2006.

خمايسي، راسم. "إعادة تشكيل المحيط الحضري المقدسي قلب الدولة الفلسطينية". "حوليات القدس". العدد 16 (2013).

روحانا، نديم وأريج صبّاغ- خوري (تحرير). "الفلسطينيون في إسرائيل– قراءات في التاريخ والسياسة والمجتمع". حيفا: مدى الكرمل- المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، 2017.

هلال، جميل وأباهر السقا. ""قراءة فى بعض التغيرات السوسيوحضرية فى رام الله وكفر عقب". بيرزيت: مركز دراسات التنمية، جامعة بيرزيت، 2015.

Seikaly, May. Haifa: Transformation of an Arab Society 19181939. London: I.B. Tauris, 2002.

 “The Palestinian City’s Cultural, Political, Social and Urban Transformation,”Jadal, nos. 27-28 (2016). Available at mada-research.org

Taraki, Lisa. “Enclave Micropolis: The Paradoxical Case of Ramallah/al-Bireh.Journal of Palestine Studies 37, no. 4 (2008): 620.