إضاءة على –

ألمانيا وقضية فلسطين منذ سنة 1949

إضاءة على –
ألمانيا وقضية فلسطين منذ سنة 1949
الانفصال عن الماضي النازي والتكيّف مع المصالح المتغيّرة

عرض جدول الأحداث

ياسر عرفات وهلموت كول

24 تشرين الأول 1997
Source: 
dpa picture alliance / Alamy Stock Photo

حدثت النكبة الفلسطينية تقريباً بالتزامن مع إنشاء جمهورية ألمانيا الاتحادية ، وغريمتها في الحرب الباردة ، جمهورية ألمانيا الديمقراطية (1949 – 1990). وكان تقسيم ألمانيا على أسس أيديولوجية قد نتج من الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة التي تلت ذلك بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي . وقد قامت قوى الحلفاء الأربع المنتصرة - الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا - بتقسيم ألمانيا المهزومة إلى أربع مناطق محتلة. اتحدت المناطق الغربية الثلاث في سنة 1949 لتشكل جمهورية ألمانيا الاتحادية. ورداً على ذلك، أُعلن في المنطقة التي كان يحتلها السوفيات قيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وبعد نحو أربعين عاماً، مع اقتراب الحرب الباردة من نهايتها، ونتيجة للتغيرات الشاملة في الاتحاد السوفياتي، أدت ثورة سياسية في ألمانيا الشرقية إلى دمج جمهورية ألمانيا الديمقراطية في الجمهورية الاتحادية في سنة 1990. وفيما يلي سيجري التركيز على الجمهورية الاتحادية والتي تُعتبر أيضاً الخليفة القانونية للنظام النازي.

كان موقف الجمهورية الاتحادية في بداية تشكيلها من قضية فلسطين مبنياً على ضرورتين: متطلبات الحرب الباردة التي استلزمت إقامة علاقات ودية مع الدول العربية المستقلة حديثاً، والحاجة إلى نيل الشرعية الدولية وإثبات أن الجمهورية الاتحادية تمثل قطيعة كبيرة مع الرايخ الثالث ، من خلال إقامة علاقات مع إسرائيل التي كانت في حاجة إلى المساعدات.

ألمانيا الغربية وإسرائيل في أوائل الحرب الباردة (1952 – 1965)

تمثّلت الخطوة الأولى في اتجاه إنشاء علاقات بين ألمانيا الاتحادية وإسرائيل في توقيع اتفاقية لوكسمبورغ سنة 1952 بين أول مستشار لألمانيا الغربية، كونراد أديناور ، وأول رئيس حكومة إسرائيلي، ديفيد بن غوريون . وقد نصت تلك الاتفاقية على منح إسرائيل مساعدات اقتصادية كبيرة كتعويضات عن المحرقة . ويشير المصطلح الألماني للاتفاقية – ومعناه حرفياً الاتفاق على تصحيح الأمور من جديد (Wiedergutmachungsabkommen)  – إلى سعي حكومة ألمانيا الغربية للتوصل إلى تفاهم مع إسرائيل. وفي الوقت ذاته، سرّعت الحرب الباردة المتصاعدة إنهاء عملية "إزالة النازية" التي كان الحلفاء الغربيون قد اتبعوها في مناطق احتلالهم. ونظراً إلى بقاء العديد من أوجه الاستمرارية الشخصية والهيكلية، في صفوف النخبة في بون ، بين الرايخ الثالث والجمهورية الاتحادية الناشئة، فإن التعامل مع الدولة الإسرائيلية، باعتبارها الوريث الشرعي لضحايا المحرقة النازية اليهود، بات أكثر أهمية. من جهة أُخرى، قوبلت المحاولات التي قادتها الولايات المتحدة في أوائل خمسينيات القرن العشرين، لإعادة دمج ألمانيا الغربية في التحالف الغربي، كدولة قوية اقتصادياً وتسليحياً، بمشاعر خوف من حلفاء غربيين آخرين، أبرزهم فرنسا التي كانت تخشى عودة التوسع الألماني. وعليه، بدا التوصل إلى تفاهم مع إسرائيل وسيلة لكل من ألمانيا الغربية والولايات المتحدة لتبديد هذه المخاوف، وتسريع تحويل الجمهورية الاتحادية إلى دولة على خط المواجهة في الحرب الباردة. 

كان التطور الاقتصادي الذي حققته إسرائيل خلال العقد الأول من وجودها مستحيلاً لولا اتفاقية لوكسمبورغ؛ فقد تلقّت الحكومة الإسرائيلية مبلغاً قدره ثلاثة مليارات مارك على مدار الأربعة عشر عاماً التالية، تم إنفاقه إلى حد كبير على شراء البضائع الألمانية. وكانت المساعدة الألمانية حاسمة في مجالات مثل الكهرباء وبناء سكك الحديد والشحن والتعدين، وخصوصاً أن فرنسا - الحليف الرئيسي لإسرائيل في ذلك الوقت - لم تكن قادرة على تقديم أي مساعدات اقتصادية كبيرة لهذه الأخيرة.

وعلى الرغم من المقايضة التي كانت اتفاقية لوكسمبورغ قد انطوت عليها، فإن إنشاء علاقات دبلوماسية بين بون وتل أبيب لم يتم في تلك الفترة، إذ كانت ألمانيا الغربية تعتبر نفسها الدولة الألمانية الشرعية الوحيدة وكانت تسعى إلى منع الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية بأي وسيلة ممكنة. وتجسّد هذا المسعى في مبدأ هالشتاين الذي تمثّل في تهديد أي دولة تقيم علاقات مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية بقطع العلاقات معها وبوقف مساعدات التنمية لها. وعليه، فقد حال التخوّف من قيام الدول العربية بالاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية دون إقامة علاقات دبلوماسية بين ألمانيا الغربية وإسرائيل. وقد اقترن هذا الموقف، الذي كان يلاقي دعماً قوياً داخل مؤسسة السياسة الخارجية، بمبادرات الولايات المتحدة آنذاك تجاه مصر الناصرية. لكن، عندما بدأت مصر وبعض الدول العربية الأُخرى تميل نحو الاتحاد السوفياتي، صارت الشخصيات الرئيسية داخل النخبة الألمانية الغربية تبدي اهتماماً أكبر بإسرائيل.

جسدت أحداث سنة 1956 التحالف الناشئ بين بون وتل أبيب. فبينما عارضت الولايات المتحدة بحزم العدوان الثلاثي الإنكليزي – الفرنسي - الإسرائيلي على مصر، وساهمت في إفشاله، اكتفت بإدانة لفظية للغزو السوفياتي لـهنغاريا ، الذي حدث بالتزامن مع العدوان الثلاثي على قناة السويس ، الأمر الذي أشار إلى تقيّد الولايات المتحدة بأسس النظام الدولي القائم ما بعد سنة 1945 في أوروبا. وهو ما كان يعني، بالنسبة إلى بون، أن واشنطن لن تدعم أي نزعة ألمانية، تطمح إلى تغيير أسس هذا النظام الدولي، من خلال المطالبة بكامل ألمانيا وأجزاء من بولندا . وهكذا بدأت شخصيات بارزة (أبرزها كونراد أديناور ووزير الدفاع فرانز جوزيف شتراوس ) تتطلع إلى فرنسا، على أمل الحصول على القدرة النووية الفرنسية، في سياسة صارت تُعرف باسم "الديغولية الألمانية". وأدى هذا إلى حصول تقارب، على نحو غير مباشر، بين ألمانيا الغربية وإسرائيل، التي وقفت ضد النضال التحرري الجزائري، وحصلت من فرنسا على المخططات الأولية لبرنامج الأسلحة النووية الناشئ. ومن ناحية أُخرى، ضمِن لقاء سري بين شمعون بيريس وفرانز جوزيف شتراوس في سنة 1957 أن تقوم ألمانيا الغربية (سراً) بتسليم أسلحة أميركية الصنع إلى إسرائيل، حتى في غياب علاقات رسمية بين البلدين.

نحو سياسة أكثر توازناً (نسبياً) (1965 – 1991)

في سنة 1965، أقامت ألمانيا الغربية علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل. وسبق ذلك تسريبات صحافية بشأن شحنات الأسلحة الألمانية، وكذلك زيارة زعيم جمهورية ألمانيا الديمقراطية والتر أولبريشت إلى القاهرة . بعد ذلك، قطعت جميع الدول العربية، باستثناء المغرب وتونس والنظام الملكي في ليبيا ، علاقاتها مع ألمانيا الاتحادية، الأمر الذي سمح للمؤسسة الألمانية المحافظة أن تشيد علانية بإسرائيل خلال حرب عام 1967 . ومع ذلك، أدى تشكيل حكومة ائتلافية بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي والليبراليين بقيادة ويلي براندت في سنة 1969 إلى إعادة صياغة دور ألمانيا الغربية في الشرق الأوسط .

اتخذت حكومة ويلي براندت موقفاً أكثر حزما تجاه إسرائيل من أسلافها في الحزب الديمقراطي المسيحي . ونظراً إلى أن أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي كانوا قد تعرضوا للاضطهاد على يد النازيين (ومنهم براندت نفسه الذي أُجبر على العيش في النرويج والسويد خلال فترة الرايخ الثالث)، فقد كان حزبهم أقل عرضة لاتهامه بالحفاظ على صلات مع النازية. علاوة على ذلك، اتبع التحالف الاشتراكي الليبرالي سياسة الانفراج تجاه جمهورية ألمانيا الديمقراطية والاتحاد السوفياتي. وكان موقف براندت المستقل مصدر احتكاك مع واشنطن التي أصبحت أهم حليف لإسرائيل بعد انتصارها في حرب عام 1967. وفي مقابل موقف إسرائيل الصريح المناهض للسوفيات، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة هجرة اليهود السوفيات، عبّرت بون عن رغبة في تعزيز علاقاتها بالاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية.

ومع ذلك، كان العامل الأكثر أهمية في السياسة الخارجية الألمانية الغربية الجديدة في الشرق الأوسط هو مسألة إمدادات الطاقة. إذ أدى اعتماد إسرائيل شبه الكامل على الولايات المتحدة وتعنّتها إزاء أزمة الشرق الأوسط إلى تليين موقف دول أوروبا الغربية تجاه الدول العربية التي كانت تعتبر، على الأقل لفظياً، أن عدم التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية  يمثّل العقبة الرئيسية أمام السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. بذلت حكومة براندت جهوداً جدية لإصلاح العلاقات المتضررة مع العالم العربي، وبحلول عام 1974، أعيدت جميع العلاقات الدبلوماسية التي قُطعت في عام 1965. وكانت ألمانيا الغربية قد رفضت، خلال حرب عام 1973 العربية-الإسرائيلية، تحليق طائرات الجسر الجوي الذي أقامته الولايات المتحدة لإمداد إسرائيل بالأسلحة، فوق أراضيها. كما تزايدت اتصالاتها مع منظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب برنامج النقاط العشر الذي تم طرحه سنة 1974 وتبنّى ضمناً حل الدولتين، فضلاً عن اعتراف جامعة الدول العربية بها باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وفي سنة 1980، شاركت ألمانيا الغربية في توقيع إعلان البندقية الصادر عن الاتحاد الأوروبي ، والذي دعا إلى إعطاء الفلسطينيين حق تقرير المصير وإجراء اتصالات مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الأمر الذي رفضته الولايات المتحدة بشكل قاطع في ذلك الوقت.

لم يؤثر اعتراف ألمانيا الغربية بهموم الفلسطينيين وقضيتهم في علاقاتها الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية الواسعة مع إسرائيل. فعلى سبيل المثال، أعقب العملية التي نفذها مسلحون فلسطينيون، وأدت إلى مقتل رياضيين إسرائيليين خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ سنة 1972 ، قيام تعاونٌ مكثف في مجال "مكافحة الإرهاب" بين الجانبين. ولم يكن استعداد بون للتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية مدفوعاً بالمبادئ المعيارية بقدر ما كان ناجماً عن الحاجة إلى توسيع العلاقات مع الدول العربية الغنية بموارد الطاقة، فضلاً عن هدف الحفاظ على استقرار الأنظمة العربية الموالية للغرب في مواجهة القوى الراديكالية ومشاريعها التي يمكن أن تتسبب في اضطرابات داخل هذه الدول. وعلى غرار فرنسا، استخدمت ألمانيا الغربية مسألة تقرير المصير الفلسطيني لتعزيز الصفقات الاقتصادية ومبيعات الأسلحة في المنطقة وإبعادها عن النفوذ السوفياتي. وقد وصلت العلاقات بين ألمانيا الغربية وإسرائيل إلى أدنى مستوياتها في سنة 1981، عندما اتهم مناحيم بيغن ، رئيس الحكومة من الليكود ، مستشار الحزب الاشتراكي الديمقراطي هيلموت شميدت بارتباطه بالنازية، في سياق صفقة بيع أسلحة ألمانية إلى المملكة العربية السعودية .

أدت محاولات بون للبقاء على الحياد، خلال حرب الخليج الثانية في سنة 1991، إلى حدوث توترات؛ فخلال الحرب الإيرانية-العراقية (1980 – 1988)، كانت شركات ألمانية غربية قد باعت العراق مكونات لبرنامج الأسلحة الكيميائية. وعندما هاجم العراق إسرائيل بصواريخ سكود في محاولة للتأثير في التحالف الغربي العربي ضده في أعقاب غزوه الكويت ، سارعت ألمانيا إلى طمأنة إسرائيل بتأكيد التزامها بأمن هذه الأخيرة. وقدمت الحكومة الألمانية الدعم لبناء ثلاث غواصات ألمانية الصنع من طراز دولفين لإسرائيل، ثم وافقت على بناء ثلاث غواصات أُخرى (آخرها يُعتقد أنه تم الاتفاق على تشغيلها في سنة 2023)، مع دعم تمويلها بمقدار الثلت. فضلاً عن ذلك، نصت مذكرة تفاهم موقعة في سنة 2017 بين البلدين على تسليم ثلاث غواصات إضافية بحلول أواخر عشرينيات هذا القرن، على أن تدفع ألمانيا ثلث كلفتها على شكل إعانات لأحواض بناء السفن الألمانية. وهناك شبهات على نطاق واسع في أن إسرائيل، وهي دولة غير موقعة على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ، جهزت الغواصات التي تسلمتها بصواريخ باليستية ذات رؤوس نووية، وهو ما يجعل ألمانيا متواطئة في انتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. وأخيراً، وكما هي الحال مع المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، فإن تسليح ألمانيا لإسرائيل مفيد لصناعة بناء السفن الألمانية المتعثرة.

جمهورية ألمانيا الديمقراطية وفلسطين (1949 – 1990)

على عكس ألمانيا الغربية، لم يكن لألمانيا الشرقية أي علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. فخلال الفترة 1947 – 1949، وتمشياً مع التوجّه السوفياتي، كان الحزب الاشتراكي الألماني الموحد الحاكم متعاطفاً مع الميليشيات الصهيونية ويلقي باللوم على الإمبريالية البريطانية والعائلات العربية الحاكمة في إراقة الدماء في فلسطين. وعلى الرغم من وجود اتصالات على مستوى منخفض مع إسرائيل، لم يتم إقامة علاقات بين البلدين، وذلك بسبب عدم حسم الوضع السيادي لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، وميل إسرائيل نحو الغرب بشكل عام، وألمانيا الغربية بشكل خاص. وفي السنوات التالية، ركزت جمهورية ألمانيا الديمقراطية جهودها على كسب اعتراف الدول العربية، مستغلة عدم ثقة الأخيرة بسياسة ألمانيا الغربية الملتبسة تجاه إسرائيل. وفي أعقاب ظهور منظمة التحرير الفلسطينية كطرف مستقل في أواخر الستينيات، أُقيمت اتصالات بين حركة التحرير الفلسطينية وقيادة جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ونظراً إلى تنافسها مع الجمهورية الفيدرالية، كان دعم جمهورية ألمانيا الديمقراطية للنضال الفلسطيني في السبعينيات والثمانينيات واضحاً بشكل خاص، على عكس دول حلف وارسو الأُخرى مثل رومانيا ، وهي دولة الكتلة الشرقية الوحيدة التي لم تقطع علاقاتها بإسرائيل بعد سنة 1967. وقد منحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية الفصائل الفلسطينية مساعدات عسكرية سخية ودربت العديد من المقاتلين الفلسطينيين على أراضيها. وكان التضامن مع النضال الفلسطيني جلياً في الخطاب العام في ألمانيا الشرقية، وحصل آلاف الطلاب الفلسطينيين على منح للدراسة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. ومع التغيرات التي طرأت على الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات، بذلت قيادة ألمانيا الشرقية جهوداً لإقامة علاقات مع إسرائيل، لكن الدولة نفسها لم تعد موجودة قبل أن تتحقق هذه العلاقات بشكل كامل.

السياسة الألمانية بعد إعادة التوحيد

 ساهمت عملية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في تخفيف معضلات السياسة الألمانية تجاه القضية الفلسطينية. وأمكن لألمانيا الموحدة أن تحافظ على علاقتها الخاصة مع إسرائيل بينما تقوم بتمويل إنشاء المؤسسات الوطنية الفلسطينية. وتمثل فلسطين في برلين بعثة خاصة، كانت موجودة سابقاً في بون باسم الوفد الفلسطيني في ألمانيا الغربية. وكانت جمهورية ألمانيا الديمقراطية قد اعترفت بدولة فلسطين في سنة 1988، لكن هذا الاعتراف أصبح لاغياً وباطلاً عندما أصبحت جمهورية ألمانيا الديمقراطية جزءاً من جمهورية ألمانيا الاتحادية ولم يعد لها وجود كإحدى شخصيات القانون الدولي. وفي سنة 2012، امتنعت ألمانيا عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 67/19 الذي قبل فلسطين بصفتها دولة مراقبة. ومن خلال موقفها القاضي بعدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية، قبل التوصل إلى تسوية نهائية تحظى بموافقة إسرائيل، حالت الحكومة الألمانية، في عهد المستشارة أنغيلا ميركل آنذاك، دون إقرار موقف أوروبي مشترك بشأن هذه القضية.

ومع ذلك، تؤدي ألمانيا دوراً رئيسياً في النزاع باعتبارها حليفاً لإسرائيل وداعماً مالياً لـ السلطة الفلسطينية في آن واحد. وقد أنشأت المؤسسات التابعة للأحزاب السياسية في البوندستاغ الألماني مكاتب لها في الضفة الغربية ، وما زالت تمارس قدراً كبيراً من القوة الناعمة داخل المجتمع المدني الفلسطيني. ومع ذلك، فإن انهيار ما يُسمى "عملية السلام" والانتفاضة الثانية دفعا ألمانيا، من جديد، إلى إعطاء الأولوية لعلاقتها مع إسرائيل. ومع بروزها، بعد إعادة توحيد شطري ألمانيا، بصفتها قوة مهيمنة اقتصادياً بلا منازع على أوروبا، ومشاركتها أيضاً في العديد من التدخلات العسكرية في الخارج، كما جرى في أفغانستان والبلقان ومنطقة الساحل ، راحت السياسة الخارجية الألمانية تكتسب على الساحة الدولية وزناً متزايداً. ونظراً إلى أن هذا الدور الوازن يتطلب، جزئياً، في نظر الأوساط الألمانية الحاكمة، "أساساً أخلاقياً"، وخصوصاً في ضوء التجربة السلبية المتمثلة في استخدام القوة الألمانية خلال القرن الماضي، فإن "أمن إسرائيل" - الذي اكتسب شرعيته أيديولوجياً من خلال تجربة المحرقة – أصبح بالنسبة إلى ألمانيا جزءاً من "مصلحة الدولة العليا" (Staatsräson)، كما عبّرت عن ذلك المستشارة ميركل خلال خطاب ألقته في الكنيست سنة 2009. وعلى الرغم من انتقاداتها العلنية لبناء المستوطنات، فإن ألمانيا الحالية تعد فعلياً أداة تمكين لسياسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني؛ فالعلاقات الاقتصادية والسياسية والمدنية بين الدولتين واسعة النطاق، والتعاون بين الجيشين الألماني والإسرائيلي آخذ في التوسع؛ ومنذ إعادة التوحيد، تعمل ألمانيا على حشد نفوذها داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي لمنع صدور أي إدانة فعالة للسياسات الإسرائيلية. كما أدت عمليات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية (اتفاقات إبراهيم ) إلى إضعاف حافز السياسة الخارجية الألمانية الرئيسي لدعم القضايا الفلسطينية ولو على الصعيد اللفظي، هذا الحافز الذي كان يتمثل في تجنب التداعيات السلبية لمواقفها إزاء القضية الفلسطينية على علاقاتها مع العالم العربي.

خلاصة

كانت جمهورية ألمانيا الاتحادية تاريخياً من أهم حلفاء إسرائيل الإستراتيجيين والحيويين. وقد تصوّرت الأوساط الحاكمة في ألمانيا أن إنشاء علاقة خاصة مع إسرائيل سيعني قطع الاستمرارية متعددة الأوجه بين الرايخ الثالث والجمهورية الاتحادية. وفي مرحلة علاقاتهما المبكرة، كانت الجمهورية الاتحادية وإسرائيل مقيدتين بمعاداة الشيوعية خلال الحرب الباردة، وعدم الثقة في سياسات تكيف الولايات المتحدة الأميركية مع النظام الدولي ثنائي القطب وتوجهها نحو الانفتاح على العالم العربي. وتوترت العلاقات بين ألمانيا الغربية وإسرائيل مع تباين المصالح بين الجمهورية الاتحادية والولايات المتحدة في عصر الانفراج بين الشرق والغرب. ومع تعزز علاقات الولايات المتحدة بإسرائيل، وخصوصاً بعد سنة 1967، سعت ألمانيا الغربية إلى تطوير علاقاتها مع العالم العربي، مدفوعة في المقام الأول بالحاجة إلى صفقات النفط والتجارة والأسلحة. وفي ضوء اندراج السياسة الخارجية لألمانيا الغربية ضمن السياسة الأوروبية، اعترفت بون بالهموم الفلسطينية، لكنها عملت على تشكيل ثقل مضاد للميول الفرنسية الأكثر تأييداً للعرب داخل السوق الأوروبية المشتركة .

ويمكن الادعاء بأنه لم تكن هناك قط سياسة ألمانية محددة بشأن قضية فلسطين، لأن هذه السياسة كانت دائماً مشتقة من الهدف الأوسع المتمثل في موازنة العلاقة الخاصة مع تل أبيب من ناحية وضرورة الحفاظ على العلاقات الاقتصادية الودية مع العالم العربي من ناحية أُخرى. علاوة على ذلك، فإن عملية التطبيع الحالية بين إسرائيل وبعض الدول العربية والتي تستهدف إيران في المقام الأول، تقلل من التكاليف السياسية لمواقف ألمانيا التي تقف موقف المتفرج إزاء الحصار المستمر الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة ، والبناء المستمر للمستوطنات، والضم الزاحف في الضفة الغربية، وتقليص وتقييد حقوق المواطنين الفلسطينيين في داخل إسرائيل. وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال دعم ألمانيا الكامل لحملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية خلال هجومها على قطاع غزة في أواخر سنة 2023، وامتناعها عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار يقضي بوقف إطلاق النار في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

قراءات مختارة: 

Fischer, Leandros. “Deciphering Germany’s Pro-Israel Consensus.” Journal of Palestine Studies 48, no.2 (2019): 26–42. DOI: 10.1525/jps.2019.48.2.26.

Lewan, Kenneth M. “How West Germany Helped Build Israel.” Journal of Palestine Studies 4, no.4 (1975): 41–64. https://doi.org/10.2307/2535601.

Lewan, Kenneth M. “Germany’s Mid-East Policy.” Journal of Palestine Studies 11, no.3 (1982): 135–39. https://doi.org/10.2307/2536078.

Marwecki, Daniel. Germany and Israel: Whitewashing and Statebuilding. London: C. Hurst, 2020.

Scheffler, Thomas (1988). “Die Normalisierung der Doppelmoral: Vierzig Jahre deutsch-israelische

Beziehungen,” PROKLA 18, 73, pp.76–96. https://doi.org/10.32387/prokla.v18i73.1274.

t