تطور موقف الحكومات الإيطالية تجاه القضية الفلسطينية إلى حد كبير منذ تأسيس الحكم الجمهوري بعد نهاية الحرب العالمية الثانية
وسقوط النظام الفاشي. وتطورت بالمثل سياسات الأحزاب الرئيسية التي هيمنت على الساحة السياسية في إيطاليا
خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فقد غيّر حزب الديمقراطية المسيحية
الحاكم والحزب الشيوعي الإيطالي
، القوة المعارضة الرئيسية في البرلمان، موقفهما تجاه القضية الفلسطينية، على نحو عكس تأثير اتجاهات حزبية داخلهما وتطورات دولية معيّنة. ومع ذلك، فقد حاولت إيطاليا، بين سنتي 1948 و1994 (أي في فترة ما يسمى عادة بالجمهورية الأولى)، صوغ مسار مستقل، تميز بالسعي إلى تبني موقف متوازن بين الدعم الغربي السائد لإسرائيل، من جهة، والاعتراف بالحقوق الفلسطينية وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية جيدة مع الحكومات العربية، من جهة ثانية. لكن مع نهاية الجمهورية الأولى وانهيار النظام الحزبي التقليدي في سنة 1994، شهد الموقف الإيطالي بعض التحولات المفاهيمية الأساسية التي جعلت البلد أقرب إلى إسرائيل.
من النظام الفاشي إلى السنوات الأولى للحكم الجمهوري
قبل تأسيس الجمهورية الإيطالية سنة 1946، اتخذ النظام الفاشي مواقف متقلبة تجاه قضية فلسطين والصهيونية
طوال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً. نتجت هذه المواقف المتقلبة من عدة عوامل شكلت السياسة الخارجية للفاشية الإيطالية، بدءاً من تطور معاداة السامية في صفوفها، وسعي النظام لبلورة هوية قومية إيطالية جديدة، وتطلعاته الاستعمارية التي جعلته يدخل في منافسة مع الوجود البريطاني في البحر الأبيض المتوسط
.
كان بينيتو موسوليني
، مثل الكثير من أفراد الطبقة السياسية الأوروبية في عصره، يحمل آراء معادية للسامية منذ بداية حياته السياسية، وتأثرت نظرته إلى الشؤون العالمية بفكرة وجود منظمة دولية يهودية تتمتع بنفوذ قوي. لكن ذلك لم يؤدِ بالضرورة إلى موقف سلبي تجاه الصهيونية؛ في الواقع، بين عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته، أعلن موسوليني دعمه المشروع الصهيوني والتقى بالعديد من القادة الصهيونيين. ونبع ذلك الموقف الإيجابي لـ إيطاليا الفاشية
إزاء الحركة الصهيونية
من فكرة أن العلاقات مع هذه الحركة يمكن أن تكون مفيدة في تقويض الموقف الاستعماري البريطاني في فلسطين والمشرق
. وللسبب نفسه، أقامت الحكومة الإيطالية علاقات مع قيادات فلسطينية في إطار اللجنة العربية العليا
.
استمر موقف روما
تجاه الصهيونية في التأثر بالآراء العنصرية الفاشية التي اكتسبت مكانة بارزة مع تزايد أهمية البعد الاستعماري لسياسات إيطاليا الخارجية، ولا سيما بعد غزو إثيوبيا
في 1935-1936. وأدت الحاجة إلى تعريف "العرق الإيطالي" إلى التشكيك في وضع اليهود الإيطاليين، وساهم التداخل الفاشي بين الهويتين اليهودية والصهيونية في تغيير الموقف تجاه الحركة الصهيونية. وعلى الرغم من صغر حجم أفراد الجالية اليهودية الإيطالية، فإن النظام أثار مشكلة هويتهم المزدوجة المحتملة، وطبّق على الصهيونية الصورة النمطية (الكليشيه) المعادية للسامية التي تفترض وجود منظمة دولية يهودية ذات نفوذ مفرط. إلاّ إن العلاقات مع الحركة الصهيونية استمرت حتى بعد عدوان إيطاليا على إثيوبيا؛ وكان النظام يعطي الأفضلية للاتصالات مع الصهيونيين التحريفيين، من أنصار زئيف (فلاديمير) جابوتنسكي
الذين كانوا، من جانبهم، يعربون، في كثير من الأحيان، عن إعجابهم بالفاشية الإيطالية. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وانضمام إيطاليا إلى قوات المحور
في سنة 1940، حوّلت سياسة روما الخارجية تركيزها نحو الحرب وطموحاتها التوسعية.
عندما أقيمت دولة إسرائيل في سنة 1948 وحلّت النكبة
الفلسطينية، كان عمر الجمهورية الإيطالية يبلغ عامين فقط، وكان الشغل الشاغل للحكومة الإيطالية هو إعادة إعمار الدولة التي مزّقتها الحرب. ولم يكن ما حدث في فلسطين يشكل أولوية في السياسات الخارجية الإيطالية، في حين اقتضت توجهات الدولة والنظرة إلى مكانتها في البحر الأبيض المتوسط اتباع نهج حذر في التعامل مع هذه المسألة لتجنب المساس بالعلاقات مع الحكومات العربية. وعلى الرغم من أن إيطاليا لم تعترف رسمياً بإسرائيل إلاّ في سنة 1950، فإن الحركة الصهيونية وجدت بعض الدعم لدى مكونات الطيف السياسي الإيطالي كافة، وخصوصاً داخل اليسار.
ترك إرث التواطؤ الإيطالي في إبادة يهود أوروبا، وكذلك المشاركة اليهودية في حرب العصابات ضد الاحتلال النازي الفاشي، أثره في نظرة اليسار إلى المشروع الصهيوني. كما ساهمت الهوية الاشتراكية للتيار الصهيوني السائد، وتخيّل الكيبوتسات بصفتها تجمعات ثورية في تعزيز تعاطف اليسار الإيطالي. فعلى سبيل المثال، أشار الفيلسوف والناشط الشيوعي الإيطالي البارز توني نيغري
إلى أن زيارة الكيبوتسات الإسرائيلية لعبت دوراً مهماً، في الخمسينيات، في عملية تثقيفه السياسي وتوجهه اليساري الراديكالي.
كما كشف بعض أعضاء الحزب الشيوعي الإيطالي والحزب الاشتراكي الإيطالي
عن وجهة نظر استشراقية إلى قضية فلسطين، وذلك عندما وضعوا رواداً صهيونيين "ثوريين" في مواجهة بورجوازية عربية مالكة للأراضي. ولعل هذا ما يفسر السبب الذي دفع بعض الناشطين اليساريين الإيطاليين، قبل إعلان قيام إسرائيل رسمياً، إلى مساعدة بعض اليهود الإيطاليين على الهجرة إلى فلسطين على الرغم من القيود التي فرضتها بريطانيا على الهجرة اليهودية.
خلال خمسينيات القرن الماضي، اعتمدت إيطاليا، في إطار سعيها للحصول على موقع جديد في منطقة البحر الأبيض المتوسط، على ما سمي "التحالف الجديد عبر الأطلسي
"، وهو ما استلزم جعل إيطاليا حجر الزاوية في تموضع جديد لـ الناتو
في البحر الأبيض المتوسط على أساس علاقات أكثر ودية مع الحكومات العربية. ومن الواضح أن هذه السياسة خدمت الأهداف الإستراتيجية الإيطالية، مثل تلك التي تتعلق بتوفير إمدادات الطاقة: ويُعد إنريكو ماتي
، رئيس الوكالة الوطنية للمحروقات
، أحد الداعمين الرئيسيين لهذا النهج من خلال سعيه إلى إبرام عقود أكثر إنصافاً مع الدول المنتجة للنفط. ونتج عن هذا التوجه بالضرورة موقفٌ أكثر برودة نوعاً ما تجاه إسرائيل، مقارنة بمواقف الدول الأوروبية الأُخرى تجاهها، وهو الموقف الذي تعزز بعد أزمة السويس سنة 1956
والعدوان الثلاثي الإسرائيلي والفرنسي والبريطاني على مصر
.
ساهمت أزمة السويس في إحداث تغييرات كبيرة في موقف اليسار الإيطالي تجاه القضية الفلسطينية. وبدت إسرائيل متحالفة على نحو متزايد مع "الإمبريالية الدولية" ومع المعسكر الغربي في الحرب الباردة
. وعلى الرغم من أن الحزب الشيوعي الإيطالي لم يشكّك مطلقاً في شرعية إسرائيل، فإن الأصوات التي تنتقد سياساتها صارت تحظى بمساحة أكبر داخل الحزب، كما انعكس ذلك في الآراء التي تم التعبير عنها في صحيفة الحزب L’Unità . وبعد حرب عام 1967
، تبنى الحزب الشيوعي، وعن قناعة أكبر، تلك التحليلات التي رأت في التوسع الإسرائيلي السبب الرئيسي للصراع المستمر مع الدول العربية. وبدا له أن عزم إسرائيل على الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها خلال الحرب يثبت ذلك، وبالتالي بدت تل أبيب
واقفة بوضوح إلى جانب المعسكر الإمبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة
. وفي هذا السياق، أثّر ظهور حركة وطنية فلسطينية مستقلة بصورة أكبر في الرأي العام اليساري في إيطاليا. ومع بروز منظمة التحرير الفلسطينية
، صار مجتمع الطلاب الفلسطينيين في إيطاليا نشيطاً للغاية في مناصرتها ودعمها. كما بدا عالم اليسار "غير البرلماني" الإيطالي المتعدد الأوجه متقبلاً جداً لخطاب منظمة التحرير الفلسطينية، وبدأت تنظيماته تنظر إلى نضال الفلسطينيين باعتباره فصلاً آخر من النضال من أجل التحرر الوطني الذي خاضته كلٌ من الجزائر
وكوبا
وكانت تخوضه فيتنام
أيضاً.
الموقف الإيطالي المتوازن
عززت حرب عام 1967 وظهور الكفاح الفلسطيني المسلّح النهج الحذر الذي اتبعته الحكومة الإيطالية تجاه القضية الفلسطينية. فمن ناحية، بدا أن اهتمام إيطاليا بتطوير دور دبلوماسي أنشط قد يحظى بفرص جديدة بالنظر إلى النتائج التي أدت إليها الحرب. ومن ناحية أُخرى، صارت إيطاليا على نحو متزايد مسرحاً لعمليات مسلّحة فلسطينية بالإضافة إلى عمليات يقوم بها جهاز الموساد
الإسرائيلي. وفي هذا السياق، أقامت الحكومة الإيطالية، ولا سيما وزارة الخارجية التي كان يتولاها في تلك السنوات ألدو مورو
، اتصالات أقوى مع منظمة التحرير الفلسطينية. وكما حدث مع حكومات أوروبية أُخرى، ذُكر آنذاك أن الحكومة الإيطالية اتفقت مع الفصائل الرئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية، على صفقة (معروفة باسم لودو مورو
) اُعطيت بموجبها المنظمة حرية أكبر لممارسة نشاطاتها السياسية في البلد في مقابل الامتناع عن تنفيذ عمليات مسلحة على الأراضي الإيطالية.
وانطوت السياسات الإيطالية تجاه القضية الفلسطينية على موقف، وُصف بأنه مؤيد للعرب ومؤيد للفلسطينيين مقارنة بمواقف دول أوروبية أُخرى. لكن بعد سنة 1973، لم يبدُ أن الموقف، الذي سعت إيطاليا لأن يكون متوازناً، قد اختلف بصورة ملحوظة عن ذلك الذي تبنته الحكومات الأوروبية الأُخرى. فقد تأثرت اقتصادات دول أوروبا الغربية على نحو كبير بالصدمة النفطية الأولى في أعقاب حرب تشرين
الأول/ أكتوبر 1973 بين إسرائيل ومصر وسوريا
. وبفضل المقاطعة التي فرضتها منظمة أوبك
وقرارها الرامي إلى خفض الإنتاج تمّ ربط قضية فلسطين بالإمداد النفطي الإستراتيجي للدول الأوروبية من الشرق الأوسط. وحث هذا الأمر أعضاء المجموعة الاقتصادية الأوروبية
على تنمية علاقاتها مع الدول العربية من أجل إيجاد أرضية مشتركة أكبر حول القضايا السياسية والاقتصادية الحساسة.
وفي حين عملت المجموعة الاقتصادية الأوروبية و جامعة الدول العربية
على تعميق إطار الحوار الأوروبي العربي، عملت الدول الأوروبية منفردة على بناء علاقات أوثق مع الشركاء الإستراتيجيين العرب. وفي اتصالاتها مع الدول المنتجة للنفط، مثل الجزائر وليبيا
والمملكة العربية السعودية
، بدت إيطاليا أكثر تقبلاً للطلبات العربية بشأن القضية الفلسطينية. ونتيجة لذلك، ظلت الحكومة الإيطالية طوال سبعينيات القرن الماضي تدعو صراحة إلى تنفيذ شامل لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة
رقم 242
، وتحديداً الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلتها سنة 1967. وفي الوقت نفسه، اعترفت إيطاليا أيضاً بالطابع الوطني المتميز لنضال الفلسطينيين و"سعيهم لإقامة وطن لهم"، وفق تعبير ألدو مورو، وصوتت إيطاليا لمصلحة دعوة ياسر عرفات
لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1974 وقبلت بتمثيل دبلوماسي رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية على أراضيها في السنة نفسها.
بلغت الجهود الإيطالية والأوروبية نحو التقارب مع الدول العربية ذروتها في إعلان البندقية سنة 1980
، الذي جاء في أعقاب عدة بيانات صدرت في السنوات السابقة عن المجموعة الاقتصادية الأوروبية، واتجهت من خلالها أوروبا الغربية نحو الاعتراف الكامل بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الفاعل السياسي المعني بالحل الدبلوماسي للصراع العربي- الإسرائيلي، وذلك خلافاً للموقفين الأميركي والإسرائيلي. لقد دعا إعلان البندقية صراحة إلى إدراج منظمة التحرير الفلسطينية في جميع المفاوضات السلمية استناداً إلى قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و338
. وعلى الرغم من التحول الإيطالي والأوروبي التدريجي نحو موقف أكثر وعياً بالأولويات العربية والفلسطينية، فإن هذه المبادرات لم تحقق نتائج تذكر، وظل الثقل الفعلي لسياسات روما هامشياً، كما أظهرت ذلك عملية السلام المصرية الإسرائيلية التي جرت بوساطة أميركية منفردة.
في أواخر السبعينيات، شهدت إيطاليا صعوداً حاسماً لـبيتينو كراكسي
بصفته شخصية سياسية مركزية، أولاً كأمين عام للحزب الاشتراكي الإيطالي في سنة 1976، ثم كرئيس للحكومة في سنة 1983. ففي الحزب الاشتراكي الإيطالي، جسد بيتينو كراكسي تحولاً عاماً في موقف الحزب من قضية فلسطين، وتمثل ذلك في التخلي عن الخط التقليدي للحزب المؤيد لإسرائيل لمصلحة موقف أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين. وبصفته رئيساً للحكومة، واصل الجهود الإيطالية لمصلحة الحل الدبلوماسي للصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. كان نشاط كراكسي الدبلوماسي مدفوعاً بالعديد من المبادرات الدولية التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي للبنان
وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت
سنة 1982، بما في ذلك خطة ريغان
ومبادرة فاس
. إذ حاولت الحكومة الإيطالية ممارسة بعض التأثير على منظمة التحرير الفلسطينية بهدف تعزيز تقاربها مع الأردن
ومشاركتها في وفد فلسطيني أردني مشترك محتمل. بيد أن الظروف الدولية لم تكن تسمح بانخراط منظمة التحرير الفلسطينية في العملية الدبلوماسية، إذ عارضت إدارة رونالد ريغان
والحكومة الإسرائيلية بقيادة الليكود
في ذلك الوقت بشدة الاعتراف الرسمي بمنظمة التحرير. وأظهر بيتينو كراكسي استقلالية كبيرة في سياساته الخارجية، كما تجلّى في "أزمة سيغونيلا
" كما عُرفت سنة 1985 عندما رفضت الحكومة الإيطالية تسليم الخاطفين الفلسطينيين لسفينة الركاب أكيلي لاورو إلى الولايات المتحدة، بعد أن قام الطيران العسكري الأميركي بإجبار طائرة مصرية كانت تقلهم على الهبوط في قاعدة سيغونيلا
الجوية الإيطالية في صقلية
. بيد أن مواقفه الجريئة في الشؤون الخارجية، لم تمكّن السياسات الإيطالية من تحقيق نتائج مهمة تجاه القضية الفلسطينية خلال عقد الثمانينيات.
في أوائل التسعينيات، شهدت السياسة الإيطالية اضطرابات كبيرة حين أدت فضيحة فساد غير مسبوقة إلى نهاية ما يسمى الجمهورية الأولى واختفاء أحزابها الرئيسية، ولا سيما الحزب الاشتراكي الإيطالي والحزب المسيحي الديمقراطي. كما كان انهيار الاتحاد السوفييتي
إيذاناً بتحول الحزب الشيوعي الإيطالي في مرحلة ما بعد الشيوعية إلى الحزب الديمقراطي اليساري
. ومع ظهور الجمهورية الإيطالية الثانية ونشوء جهات فاعلة سياسية جديدة، حدث أيضاً تحوّل جوهري في الموقف الإيطالي تجاه قضية فلسطين.
التحول نحو إسرائيل
مع انطلاق الجمهورية الإيطالية الثانية في منتصف التسعينيات، بدأت حكوماتها في مراجعة سياساتها تجاه القضية الفلسطينية. فخلال النصف الثاني من ذاك العقد، برز الحزب الديمقراطي اليساري بصفته القوة الرئيسية، في العديد من الحكومات الائتلافية، التي تعهدت بتصحيح الموقف الإيطالي التقليدي الذي كان يُنظر إليه على أنه قريب أكثر مما يلزم من المصالح العربية والفلسطينية. من المؤكد أن إطلاق عملية أوسلو
للسلام كان له دور في دفع الحكومة الإيطالية إلى اتخاذ موقف وُصف بأنه أكثر توازناً. ومع ذلك، فإن التحوّل الجذري في السياسات الإيطالية لم يحدث إلاّ في سنة 2001، عندما تولى سيلفيو برلسكوني
رئاسة الحكومة للمرة الثانية. فقد جعلت حكومته السياسة الخارجية الإيطالية أقرب بكثير إلى سياسة واشنطن
، في الوقت الذي أطلقت إدارة جورج دبليو بوش
العنان لما سمته "الحرب على الإرهاب" في الشرق الأوسط. ونظرت كل من الولايات المتحدة وإيطاليا إلى الصراع غير المتكافئ في نطاق الانتفاضة الثانية
باعتباره فصلاً آخر من الحرب التي يخوضها الغرب ضد "الإرهاب الإسلامي". ونتيجة ذلك، عمّقت روما اتصالاتها مع حكومات اليمين الإسرائيلية على حساب اتصالاتها مع قيادة السلطة الفلسطينية
.
وقد ساهم في بلورة هذا التحوّل في السياسة الخارجية طبيعة تشكيلات الحكومات نفسها والتحولات الأيديولوجية لبعض مكوناتها الرئيسية. فقد هدف قادة حزب التحالف الوطني
- أليانزا ناتسيونالي - اليميني المتطرف، وريث الحركة الاجتماعية الإيطالية
التي تأسست على يد فلول النظام الفاشي بعد الحرب العالمية الثانية، إلى اكتساب صدقية ديمقراطية متجددة عن طريق قطع علاقاتهم ظاهرياً مع ماضيهم الفاشي، وسعوا لإقامة علاقة أوثق مع الجالية اليهودية الإيطالية، وذلك عبر إظهار موقف مؤيد قوي لإسرائيل، وتنمية علاقات قوية مع المؤسسة السياسية والثقافية الإسرائيلية. وقام زعيم هذا الحزب جيانفرانكو فيني
بعدة زيارات إلى إسرائيل، عبّر خلالها عن تنصّله من الفاشية، واعتذاره عن الجرائم الفاشية التي ارتُكبت ضد اليهود في إيطاليا. ومن ناحية أُخرى، وجد التحول المؤيد لإسرائيل بيئة ثقافية مواتية مع انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا في وسائل الإعلام والمجتمع الإيطالي. إذ تكوَّن لدى المجتمع الإيطالي تصور سلبي متزايد عن الإسلام بسبب الخطابات الشعبوية التي بررّت مشاركة إيطاليا في "الحرب على الإرهاب" التي شنتها الولايات المتحدة، فضلاً عن العداء المتزايد تجاه المهاجرين الآتين من دول ذات أغلبية مسلمة. وفي مثل هذا السياق الاستقطابي، قُدمت إسرائيل في أكثر الأحيان باعتبارها نقطة متقدمة في الدفاع عن مصالح الغرب والحضارة الغربية في منطقة مضطربة، وقوة فاعلة على خط المواجهة في المعركة من أجل "الديمقراطية". وعلى خلفية هذه التطورات السياسية والثقافية، عززت إيطاليا علاقاتها مع إسرائيل من خلال توقيع مزيد من اتفاقيات التعاون، ودعم المواقف الإسرائيلية على الساحة الدولية، والحد من علاقاتها مع السلطة الفلسطينية.
على الرغم من التطورات التي شهدتها الأحزاب المهيمنة على السياسة الإيطالية بعد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وعلى الرغم من انهيار حكومة سيلفيو برلسكوني الأخيرة في سنة 2011، فإن موقف إيطاليا تجاه القضية الفلسطينية لم يتغير بصورة كبيرة. في الواقع، تعزز الاتجاه المؤيد لإسرائيل بشكل أكبر مع تحول الحزب الديمقراطي اليساري إلى الحزب الديمقراطي
وتبنيه برنامجاً سياسياً أقرب إلى الوسط بمجرد عودته إلى الحكومة في إطار ائتلافات متعددة على مدى العقد الماضي. وأشاد بعض ممثليه الرئيسيين، مثل رئيس الجمهورية الإيطالية آنذاك جورجبو نابوليتانو
، بالحركة الصهيونية، وشبّه معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، وانخرط بنشاط في المناقشات التي صارت تدور حول "معاداة السامية الجديدة". بينما أكد رئيس الحكومة ماتيو رينزي
من الحزب الديمقراطي، في سنة 2016، دعمه الثابت لإسرائيل وأدان حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات
، ولم يكرر الموقف الإيطالي الرسمي الداعم لحل الدولتين.
بالنسبة إلى حكومات يسار الوسط الإيطالية، لم تكن القضية فلسطين أولوية بسب هيمنة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي
ومسألة الهجرة على جدول أعمالها. ومع ميلان كفة الميزان السياسي الإيطالي نحو اليمين، بالتوازي مع تعزز التوجّه نحو اليمين في إسرائيل، وجدت الأحزاب الإيطالية مثل رابطة الشمال
أو إخوة إيطاليا
(أحدث وريث لخط الحركة الاجتماعية الإيطالية والتحالف الوطني) أرضية أيديولوجية مشتركة مع اليمين الإسرائيلي. وصارت الخطابات القومية والعنصرية تغذي البرامج السياسية للأحزاب اليمينية الإيطالية الكبرى التي لا تتردد في الإشارة إلى دعمها الحكومات الإسرائيلية ذات التوجهات المماثلة، علماً بأن الحكومات الإيطالية من جميع التوجهات السياسية تمسكت، على مدى السنوات العشر الماضية، بإطار أوسلو للسلام البائد إلى حد كبير، وحافظت، تماشياً مع الحكومات الأوروبية الأُخرى، على دعمها اللفظي لحل الدولتين.
في كانون الثاني/ يناير 2020، حذت الحكومة الإيطالية، التي قامت حينها على أساس الائتلاف بين حركة الخمس نجوم
والحزب الديمقراطي، حذو حكومات أوروبية أُخرى بتبنيها تعريف معاداة السامية الذي صاغه التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست
، والذي تعرّض لانتقادات واسعة النطاق كونه يخلط بين معاداة السامية وانتقاد سياسات دولة إسرائيل. وقد استُند إليه، في كثير من الأحيان، لمنع تنظيم نشاطات عامة تناقش الوضع الحالي في إسرائيل/ فلسطين وكذلك لمهاجمة أفراد يبدون تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، وهو ما أثار مخاوف بشأن احترام حرية التعبير. وقد أظهر هذا الموقف، الذي ترافق مع الدعم الرسمي لإطار أوسلو، نهجاً إيطالياً أقل وضوحاً على نحو متزايد في التعامل مع القضية الفلسطينية.