خطاب أحمد الشقيري، رئيس وفد فلسطين،
أمام اللجنة السياسية الخاصة التابعة للأمم المتحدة
نيويورك، 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1963
أود قبل أن أشرع في الحديث عن هذه المشكلة المحزنة، وهي مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، أن أستميح اللجنة عذراً، وصبراً، في التقديم لخطابي هذا ببعض الملاحظات الأولية، التي تمس موضوع البند المدرج على جدول الأعمال، الذي تتولى اللجنة دراسته، في الصميم.
وأود قبل كل شيء، أن أعرب لك يا سيدي الرئيس، ولأعضاء اللجنة الموقرة عن صادق تقديرنا لتفضلكم بالسماح لنا بإلقاء هذا الخطاب على مسامعكم. ويود وفد فلسطين أن يهتبل هذه الفرصة، ليسجل هنا اعترافه بالجميل، لأن اللجنة قد سمحت لشعب فلسطين، بهذه الفرصة لكي يعبر عن آرائه في هذه القضية، التي يعتبرها جوهرية بالنسبة إلى قضيته القومية. فنحن نعرف أننا من الناحية الرسمية، نظهر أمام هذه اللجنة، بحكم سماح يحمل طابع الامتياز، لا ممارسة لحق يتمتع به أعضاء الأمم المتحدة وحدهم. ونحن ندرك، أننا لا نسمع هنا إلاّ صوتنا، من دون أن يكون لنا حق الاقتراع، ولكننا من الناحية الفعلية والعملية، بل ومن ناحية مصلحة أمن العالم وسلامه، نظهر هنا بحكم الحق والعدالة، بل بحكم حقنا الواضح الصريح.
فقد ذكر الدكتور ديفيز في عبارة صريحة واضحة، في الخطاب النبيل الذي ألقاه على مسامع لجنتكم الموقرة بالأمس أن "لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين أثرها في استقرار الشرق الأوسط وسلامه، ومن ثم في استقرار العالم كله وسلامه". هذا ما قاله الدكتور ديفيز، ممثلكم المعتمد في المنطقة، بل وكيلكم النبيل فيها، بعبارة متزنة واضحة. وإذا صح قوله هذا، وهو صحيح حتماً، إذ لا يتطرق الشك إليه على الإطلاق، فإننا نمثل أمامكم هنا، في هذه اللجنة، لا بحكم حقنا فحسب، بل وبحكم الضرورة المطلقة للحفاظ على السلام والاستقرار لا في المنطقة وحدها، بل وفي العالم أيضاً على حد تعبير الدكتور ديفيز في خطابه بالأمس. فنحن، بحكم الواقع، الفريق الرئيسي في القضية، ونحن أعضاء وفد فلسطين، إذ نمثل لأول مرة في الأمم المتحدة في دورتها هذه، نمثل هذا الفريق الرئيسي، أي شعب فلسطين، أصحاب الحق الشرعي في البلاد، وأصحاب الحق الشرعي في الوطن، الذي هو وطن الآباء والأجداد، جيلاً بعد جيل منذ أقدم عصور التاريخ. هذا هو وفد فلسطين، الذي يمكثل أمامكم الآن ممثلاً شعب فلسطين.
أجل نحن الفريق الرئيسي في هذه القضية، ولا ريب في أن المصير النهائي لشعب فلسطين، هو الذي سيقرر القضية الرئيسية المعروضة عليكم والنابعة عن هذه المشكلة، وهي الحرب أو اللاحرب، والسلام أو اللاسلام. وسيقرر مصير شعب فلسطين النهائي، ومستقبله، هذه القضية.
ولكن دعوني أذكر لجنتكم الموقرة، بالعبارات الطنانة الرنانة التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة، والموجهة إلى جميع الشعوب صغيرها وكبيرها. فقد تضمنت الصفحات الأولى من الميثاق، بل مقدمته، تعهد جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتطبيق التكافؤ في الحقوق وتقرير المصير على جميع الشعوب، كما تعهدت "باحترام الحقوق الإنسانية، والحريات الأساسية للجميع دون تمييز في العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين"، وأعرب الميثاق أيضاً عن تصميم الدول الأعضاء على "تأكيد الإيمان بالحقوق الإنسانية الأساسية" والإيمان بكرامة الإنسان وقيمة الإنسان، وحق جميع الناس المتكافىء من رجال ونساء، مهما كانت الأمم التي ينتمون إليها صغيرة أو كبيرة". وإذا ما أخذنا هذه المبادىء الأساسية بعين الاعتبار، وأحللناها محلها من التقدير، فسيكون من الإجحاف الصارخ بحق العدالة، أن تبحث قضية اللاجئين من دون حضور ممثليهم، أو أن ينكر على الشعب الفلسطيني حقه في أن يشترك في بحث قضيته. وقد سمعت هناك من يقول بالأمس إننا لا نمثل أحداً. وأنا لا أشير بقولي هذا إلى أي وفد، ولكن هناك من زعم بأننا لا نمثل أحداً. ولكننا نمثل على الأقل اللاجئين أنفسهم. إذ أين هو شعب فلسطين؟ ومن يمثل شعب فلسطين؟ وأني لأود أن أؤكد لكم، بأننا أعضاء الوفد الفلسطيني، نمثل شعب فلسطين، فنحن هنا بحكم حقنا لا نتيجة عطف أو إشفاق. ولو طبق ميثاق الأمم المتحدة في عام 1947 تطبيقاً صحيحاً، لكنا نحتل الآن مقاعدنا هنا بينكم، كممثلي دولة مستقلة تمام الاستقلال. من الدول الكاملة العضوية في الأمم المتحدة. ولكن لما كان الميثاق قد تعرض للتنكر، فنحن أمامكم هنا كمسترحمين، لا مقعد لنا في صفوفكم، وقد جئنا إلى هنا نتيجة العطف، وإن كنا قد جئنا بالفعل، لمصلحة السلام والأمن الدوليين. ونحن نؤكد وجودنا هنا، لأننا العامل الرئيسي الذي يستطيع أن يفرض السلام أو الحرب في الشرق الأوسط، وهذا يعتمد أول ما يعتمد على مصير اللاجئين ومستقبلهم بصورة خاصة، وعلى مصير الشعب الفلسطيني ومستقبله بصورة عامة. ولا ريب في أن مستقبل الشرق الأوسط كله، يعتمد عليهم في إقراره، وتخطيطه.
وقد نجرؤ فنقول، أن ليس في وسع الأمم المتحدة أن تقضي وتصدر أحكامها غيابياً. فليس في وسع القاضي، أن يفصل في أية قضية، إذا تغيب عن حضورها الفريق الشاكي أو المتظلم. ومن حقي أن أذكركم بأن الأمم المتحدة، هي أرفع محكمة دولية. وكثيراً ما أطلق عليها، وفي هذا ما فيه من حق، اسم "برلمان الإنسان". ولذا فإن من حق الإنسان أن يقرّر مصيره في حضوره لا في غيابه. وليس هذا الحق، قاعدة من قواعد الزكانة أو ميزة من مزايا الشمول، التي تهدف المنظمة الدولية إلى التميز بها، بل هو قاعدة من القواعد الأولية في العدالة، ولا سيما أن الموضوع المعروض عليكم الآن هو ثمرة أعظم ظلم صارخ عرفه تاريخ الإنسان لا مثيل له ولا سابق.
وأني لأرجوك يا سيدي الرئيس، كما أرجو أعضاء اللجنة الموقرة أن تحملوا ما أقوله في خطابي هذا، على أنه الصدق بعينه، لا مواربة فيه ولا مبالغة. أجل أيها السادة، إن مأساتنا هي أكثر مأساة في التاريخ مدعاة للألم والسى، وليس لها من نظير ولا سابق. وقد بين لكم المستر ديفيز في تقريره، أن مصير اللاجئين الفلسطينيين، يؤلف صفحة مؤسية في التاريخ الإنساني. ولم يصدر مثل هذا القول على لسان عربي. وهو لا يؤلف اتهاماً نابعاً عن مصادر عربية، بل هو اتهام وحكم موجه من المستر ديفيز الذي يصف مشكلة اللاجئين بأنها صفحة مؤسية في التاريخ الإنساني. ولكن ترى أي تاريخ؟ إنه ليس تاريخ القرون الوسطى، حيث يتوقع المرء أن يقرأ فيه صفحات مؤلمة مؤسية، ولا تاريخ القرون القديمة، حيث يتوقع المرء أن يقرأ صفحات مفجعة، ولكنه التاريخ الحديث، الذي وقع تحت سمع الأمم المتحدة وبصرها، وفي أيامها وعصرها. ولا ريب في أن وجود مأساة من هذا النوع والطراز هو في حد ذاته مأساة في حق سلطان الأمم المتحدة، وفي حق ميثاقها الذي ينطوي على أرفع المبادىء والمثل.
ولعل من المفجع حقاً، بل من المهين لكرامة الأمم المتحدة وإدراكها، أن يزعم الوفد الإسرائيلين من فوق منبرها، أن ليس ثمة مشكلة خاصة بفلسطين على الإطلاق. وأنا لا أنسب هذا القول إلى الوفد الإسرائيلي، فقد سمعتم أيها السادة، من فوق هذا المنبر بالذات، ممثل إسرائيل، وهو يزن كل كلمة يقولها، عامداً متعمداً، بأن ليس ثمة ما يسمى بمشكلة فلسطين. ولعل الحقيقة هي أن هذا التضليل الإسرائيلي المتعمد، هو المفتقر إلى الوجود، إذ إن المستر ديفيز نفسه، أشار إلى مشكلة فلسطين، أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة.
وقد دأبت قضية فلسطين على الظهور بشكل واضح بين المشاكل العالمية في سجلات الأمم المتحدة وتاريخها منذ عام 1947. وإذا كنتم في حاجة إلى دليل لتفنيد تضليل الوفد الإسرائيلي، فإن هذا الدليل ماثل أمامكم في القضية للبحث الآن. ولا ريب في أن اجتماعنا هنا، وفي هذه القاعة في هذا الصباح اليوم، هو الدليل على وجود مشكلة فلسطين. ولو لم تكن هناك مشكلة، لما اجتمعنا هنا في هذه القاعة لبحث قضية اللاجئين، التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من مشكلة فلسطين ذاتها. ولا ريب في أن إنكار وجود المشكلة الفلسطينية هو في حد ذاته زراية بالأمم المتحدة، وهزء بها بل وسخرية دولية لا يمكن العالم المتحضر أن يتسامح بسماعها. فهناك مشكلة قائمة منذ خمسة عشر عاماً، وهناك مليون ومائتا ألف من اللاجئين يعيشون حياة التشرد في الخيام والمعسكرات بعد أن اقتلعوا من جذورهم في وطنهم وديارهم، وبعد أن سرقت إسرائيل كل ما يملكونه. ولا ريب في أن يجرؤ إنسان على الادعاء بعد كل هذا بعدم وجود ما يسمى بمشكلة فلسطين، هو في رأيي مهزلة ما بعدها مهزلة، ولا يمكن الجمعية العامة التسامح بقبولها، لأن فيها استهانة صارخة بإدراك الأمم المتحدة نفسها.
فالبند المدرج على جدول الأعمال، يتعلق بمشكلة "710، 1,210" من اللاجئين الفلسطينيين، طبقاً للأرقام التي وضعها الدكتور ديفيز نفسه. وليست المشكلة والحالة هذه مشكلة لاجئين، بل مشكلة شعب بأسره يحيا حياة اللجوء. ولكن يبدو أن هذه المأساة الإنسانية هي من التفاهة وعدم الأهمية والصغر في عيون إسرائيل، بحيث لا تستحق أن تؤلف بنداً للبحث في الأمم المتحدة، ولا تستطيع أن تقيم الدليل على وجود "مشكلة فلسطين". وكلنا يعرف أن هذه المشكلة قد أثارت حرباً في عام 1948. بكل ما في الحرب من مآسٍ وشرور، بالإضافة إلى ما أثارته من حرب العدوان الثلاثي في عام 1956، وعلى الرغم من هذه الحرب، ومن ذلك العدوان، فإن إسرائيل تجد نفسها الشجاعة، لأن يقف ممثلها من فوق هذا المنبر العالمي، ليعلن أن لا وجود لمشكلة فلسطين.
أما الحقيقة، الحقيقة الصارخة، فهي أن مشكلة فلسطين قائمة في الأمم وخارجها، وأن هذه المشكلة ستظل قائمة في الأمم المتحدة وخارجها، إلى أن يعود شعب فلسطين إلى دياره ووطنه.
وليس بدعاً، على أي حال، أن تنكر إسرائيل وجود مشكلة فلسطين فإن إسرائيل التي اقتلعت شعب فلسطين من أرضه، وسرقت منه وطنه ودياره، وأنكرت عليه حق العودة، تجد من السهل عليها، أن تنكر وجود ما يسمى بمشكلة فلسطين.
وغني لأجد نفسي مضطراً إلى أن أؤكد هنا بشكل قاطع، بأننا سنمثل هنا في الأمم المتحدة، طالما أن قضية فلسطين ستظل قائمة، ومهما كان الشكل أو الصورة التي تظهر فيها. ولا ريب في أنكم تعرفون أن المثول في الأمم المتحدة، هو الإجراء الذي ألفت الأمم المتحدة اتباعه في معالجة جميع المشاكل العالمية. وقد ألفنا أن نسمع في مختلف اللجان، بأن لا مناص من تأكيد مثول الأمم المتحدة في كل مشكلة من المشاكل العالمية. وغدا وجود الأمم المتحدة إجراء دولياً مألوفاً، ولذا علينا أن نؤكد وجودنا في هذه المنظمة. وسنواصل المجيء إليها من الباب الذي تدخل إليها منه المظلومة إلى أن نستطيع الوصول إليها من باب الدول الأعضاء ذات السيادة الكاملة، بعد أن تصبح فلسطين كلها، مستقلة كل الاستقلال، وذات سيادة كاملة.
وأنا أعرف أن لهذا الحرم العظيم، حرم الأمم المتحدة مدخلين، أحدهما للدول الأعضاء ذات السيادة العامة والاستقلال التام، وهو المدخل الذي تلجون أنتم منه، وثانيهما للشعوب المضطهدة، والمغلوبة على أمرها، وهو الذي ندخل إليها منه اليوم، والذي طالما دخل منه كثيرون منكم في ما مضى، عندما كانت بلادكم مضطهدة مظلومة. ولقد ولج كثيرون من الساسة في هذه المنظمة، من هذا الباب في الماضي إلى أن تحررت بلادهم، وتحققت لهم الحرية، واعترف العالم بكيانهم الدولي، وتحقق لهم الاستقلال الكامل عن طريق حركات التحرير التي خاضوها، أجل مروا ببوابة الشعوب المضطهدة التي جئنا نحن منها هذه المرة. وكلنا أمل في أننا لن نصل إلى هنا في المستقبل عبر هذه البوابة، بل سنفد إليها عن طريق البوابة الأخرى التي تأتون منها، كممثلي دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وأن نحتل مقعدنا الكريم بينكم، بعد أن نخلع منه مضطهدنا الذي سرق منا وطننا وديارنا.
وقد لا أجد حاجة لتذكير لجنتكم الموقرة، بأن الوفد الفلسطيني لا يظهر هنا اليوم كما يظهر المشتكون العاديون من أصحاب الدعاوى الذي يمتون إلى بلاد قد تتمتع أو لا تتمتع بالحكم الذاتي، ونحن لم نأت هنا طالبين تعديل خطأ في مشروع دستور، كما لم نأت هنا طالبين إطلاق سراح بعض مسجونينا السياسيين أو تصحيح بعض القضايا والأوضاع المحلية، ولم نفد هنا طالبين النصفة من مجرد انتهاك لحقوقنا الإنسانية، فقد نظرت هذه المنظمة منذ قيامها في عدد كبير من الشكاوى المتعلقة بانتهاك الحقوق الإنسانية بالنسبة إلى عدد من الأفراد، وأعود فأكرر، إلى عدد من الأفراد ليس إلاّ، كقضية الكردينال مندزنتي1 وقضية الحد عشر طياراً أميركياً.2 وليس هذان الحادثان إلاّ مجرد مثالين وددت أن أذكركم بهما، ليس إلاّ. وتذكرون ولا شك أن الجمعية العامة، أغرقت نفسها بين هاتين الحالتين في مناقشات لاهية، ومجادلات عاطفية.. ومشاورات ملحة، وقد دبّ النشاط ودبت الحماسة في مجلس الأمن مؤخراً، باستثناء بعض أعضائه كالمغرب والاتحاد السوفياتي وفنزويلا، وغيرها، لمجرد مصرع مزارعين إسرائيليين، وتميزت مناقشاته في موضوعهما بالإثارة والحماسة.
أما بالنسبة إلى الموضوع الذي نبحثه اليوم، فإني أود أن أردد على مسامعكم، بأن المشكلة لا تتعلق بفرد أو بمجموعة من الأفراد، ولا يتعلق هذا الموضوع أيضاً، بمجرد انتهاك عادي للحقوق الإنسانية، والخطر يهدد شعباً بأسره، شعباً من اللاجئين الذين شردوا من وطنهم ووطن آبائهم وأجدادهم، وليست القضية مجرد انتهاك للحقوق الإنسانية بل إنكار مطلق لها، بكل ما في الإنكار من معان وجذور وقواعد. وكانت المشاكل التي عالجناها هنا في الأمم المتحدة، تتعلق بانتهاك الحقوق الإنسانية بالنسبة إلى فرد أو مجموعة أو عدد من الأفراد، أما مشكلتنا اليوم المعروضة أمامكم فليست مجرد انتهاك بل إنكار كامل، وبغي قاطع وافتقار كلي إلى الحقوق الإنسانية بكاملها، ولعل هذا هو سبب خطورة هذه المشكلة التي نعالجها في هذه الدورة من دورات الأمم المتحدة.
وتتعلق القضية بالحق الفطري لكل شعب في أن يعيش في وطنه. تماماً كما تعيش الأمم المائة والعشرة الأعضاء في هذه المنظمة في أوطانها. وقد ذكرت هذا الرقم لا نتيجة خطأ أو إدراك أو نسيان، وإنما ذكرته عامداً ومتعمداً، وذلك لأننا لا نعترف بإسرائيل، ولا نعترف بوجودها، بل لا نعترف، بل لا نعترف، كما أوضح لكم المستر ديفيز بالأمس بمنتهى البلاغة والفصاحة، بأن لها أي حق، حتى حق الوجود.
وليست هذه هي عواطف الوفد الفلسطيني أعرضها على مسامعكم، وإنما أود أن استرعي انتباهكم إلى تقرير المستر ديفيز، حيث تحدث عن مشاعر شعب الوطن العربي كله بالنسبة إلى وجود إسرائيل، وليس في هذا القول أي اصطناع أو مبالغة. أجل، ليس في هذا الحديث من المستر ديفيز أي زيف. فقد قال بعبارة واضحة جلية، إن الشعب العربي كله، لا مجرد ساسته أو لاجئيه، ولا شعب فلسطين بمفرده، بل الشعب العربي بمختلف فئاته وطبقاته في وطنه الممتد من المغرب غرباً إلى الكويت شرقاً، يشترك في شعور عميق من السخط والمرارة، بالنسبة إلى وجود إسرائيل وإلى حقها في الاستمرار والبقاء، هذه هي خلاصة تقرير المستر ديفيز وزبدته. وهو رجل يعيش كما يعيش أعضاء لجنة التوفيق، وراء أبواب مغلقة في الطبقة الثامنة والثلاثين أو الثانية والثلاثين من مبنى الأمم المتحدة. إنه رجل عاش المشكلة، وتحدث إلى أصحابها وأهلها في معسكراتهم، وقد عاشها بقلبه، ثم جاء إليكم هنا، ليقول لكم بمنتهى الوضوح، إنها مشكلة شعب بأسره، لا مشكلة عدد من الموظفين. حقاً إنها النتائج التي وصل إليها رجل نبيل، ينظر إلى الأمور نظرة موضوعية لا النتائج التي توصلت إليها لجنة التوفيق التي تعيش مجمدة هنا، لا حراك فيها، في طابق من طوابق الأمم المتحدة، لتقدم إلى الجمعية العامة تقريرها الذي تسميه "تقرير العمل". ومن المذهل حقاً أن يحمل هذا التقرير مثل هذه التسمية، إذ من الزراية بالأمم المتحدة نفسها أن تسمي اللجنة تقريرها "بالتقرير الواحد والعشرين عن أعمال اللجنة"، وهذا يعني أن اللجنة قدمت عشرين تقريراً قبله عن أعمالها، ولكن من حقنا أن نتساءل عن العمل الذي حققته في تقاريرها هذه..
أو ليست هذه مهزلة؟ فاللجنة قائمة بموجب القرار الذي اتخذته الجميعة العامة في عام 1948 للنظر في موضوع اللاجئين، وقد قدمت حتى الآن واحداً وعشرين تقريراً عن أعمالها، زعمت فيها التقدم في العامل وإني لأعتقد أن الواجب يدعو إلى تصحيح هذه التسمية، وليس من حقي هنا، أن أقترح تعديلاً للتسمية، فأنا لا أمثل دولة هنا، ولكن من حقي أن أقول إن التقرير يجب أن يسمى على هذا النحو.. "التقريرالواحد والعشرون عن فشل لجنة التوفيق" لا عن عملها أو تقدمها، ولا ريب في أننا نمتهن عبارة "التقدم" من جذورها وفي كل مضامينها ومعانيها، عندما نزعم أن هذا التقرير الواحد والعشرين عن تقدم اللجنة في عملها، ولو تمكنت اللجنة في كل تقرير من تقاريرها أن تذكر نجاحها في إعادة لاجىء واحد إلى وطنه، لقلت أمام هذا الحفل، بأن واحداً وعشرين لاجئاً من لاجئينا، قد أعيدوا إلى ديارهم، بفضل ما بذلته لجنة التوفيق من جهود.
وقد طلبت الفقرة الحادية عشرة من قرار الجمعية العامة رقم 194 "3" في لجنة التوفيق منذ عام 1948 أن "تسهل أمر العودة للاجئين" سواء أرادت إسرائيل أم لم ترد. وها هي اللجنة تظهر أمام اللجنة العامة، في هذه الساعة قبل الأخيرة، لتخلق جواً خاصاً يتيح للجنة أن تعمل، وأن تزاول نشاطها في جو متجمد، لتزعم أنها تقدم إلى الجمعية العامة تقريرها الواحد والعشرين، وإني لذاهل من هذه الجرأة، بل ومن هذه الشجاعة، هنا في الأمم المتحدة، حيث يفهم الناس ما تعنيه كل عبارة من معان واضحة وخفية، إننا لا نفهم هذه الشجاعة، وفي متناول أيدينا، هنا في مكتبة الأمم المتحدة، معاجم نستطيع أن نعثر فيها على ما تعنيه كلمة "التقدم" والنجاح.
حقاً إنه لشيء مؤسف، أن تزعم وكالة من وكالات الأمم المتحدة أن أعمالها التوفيقية في غضون السنوات الخمس عشرة الماضية، كانت ناجحة. من حقها أن تدعي النجاح، ولكنه النحجاح في الفشل وخيبة الأمل. وقد اتفق مع اللجنة في تسميتها هذه، ولكني أضيف بأنها نجحت في الفشل بل وفي تحقيق التدهور واليأس. هذا هو نجاحها كما نفهمه نحن وليس ثمة أي معنى آخر نستطيع أن نفهمه، وليس من حق هذه الهيئة، أن تجد أي معنى آخر.
ونحن نؤكد وجودنا هنا في الأمم المتحدة، في ضوء طبيعة المشكلة كحق لنا، وكإسهام في خدمة العدالة الدولية، وإملاءات السلام والاستقرار العالميين، وإذا ما وضعنا ميثاق الأمم المتحدة أمامنا كالشرعة الدولية السامية، فإن من حقنا المقدس أن نسمع صوتنا، وإن واجبكم المقدس في أن تصغوا لما نقول.
والنقطة الثاني التي أود عرضها على مسامعكم، هي بيان حقيقة هذا الوفد الفلسطيني الماثل أمامكم، لأنها نقطة أثيرت بالأمس، فما هو هذا الوفد يا ترى؟ لا ريب في أن كلمة واحدة أو كلمتين، في هذا الصدد تكفيان لإعطائكم فكرة أفضل عما يعنيه تقرير المستر ديفيز، وعمّا عناه في بيانه الذي ألقاه على مسامعكم بالأمس، إذ إن الطريقة التي ألف فيها هذا الوفد، وطبيعة أعضائه تمثل تمثيلاً حياً خلاصة تقرير المستر ديفيز.
لن أبدأ بالإشارة إلى نفسي، إذ إنني لست بالوافد حديثاً إلى الأمم المتحدة، فقد عملت كرئيس للوفد السوري عدة سنوات، كما عملت رئيساً للوفد السعودي سنوات عدة أخرى، ويشغل صديقاي بل أخواي، هذين المقعدين الآن.
وكنت دائم الحديث عن نفسي كلاجىء من اللاجئين، وهأنذا أتحدث الآن لاجئاً من اللاجئين، ولا يضيرني مطلقاً أن أكون من اللاجئين، ولذا ما كنت أحس قط بالزراية من كشف هذه الحقيقة التي لا أخجل منها، أما العار والخجل، فهما من نصيب الدول الاستعمارية التي جعلت مني ومن مواطنيّ أمة من اللاجئين، ومن حقي الآن أن أنتقل إلى الحديث عن بقية زملائي من أعضاء الوفد.
وعلي أولاً أن أوضح إلى اللجنة أنهم جميعاً من الفلسطينيين بلحمهم ودمهم وعظامهم وأعصابهم، إنهم فلسطينيون في كل شيء؛ فقد ولدوا في الأرض المقدسة، ونشأوا على ثراها، لأنها أرض آبائهم وأجدادهم مذ وعي التاريخ نفسه، وفي وسع اللجنة أن تثق من أنهم ليسوا من المهاجرين الذين وفدوا إلى البلاد بحماية حراب الإنكليز، وعلي أيضاً أن أؤكد للجنة، بأن زملائي ليسوا غرباء عن الأرض ولا عن أهلها، أو مستعمرين جاؤوا من كل زاوية من زوايا المعمورة، يحيط بهم طوفان من المساعدات المالية الأميركية، لا وألف لا. إنهم مواطنون شرعيون في فلسطين، تشدهم جذورهم إلى ثراها، وتربطهم حياتهم إلى تاريخها.. فالمساكن التي يقيمون فيها ملك لهم، وإني لأود من اللجنة أن تفهم ما أعنيه بأنها "ملك لهم".
ومزارعهم ملك لهم، وقد زرعوا هم بساتينهم وبياراتهم، وكانوا هم وآباؤهم وأجدادهم، الذين أقاموا ما في بلادهم من مساجد وكنائس، وقد أقاموا مدنهم وقراهم بكدهم وعرق جبينهم، وبكد أسلافهم وعرق جبينهم. أجل، إنهم لم ينزعوا من أي شخص ما يملك، ولم يسرقوا أحداً ماله، ولكننا كنا ضحايا افظع سلب وسرقة عرفهما التاريخ، ولن أسمي السارق، فهو أشهر من أن يعرف، ولن أطلب إدانته إذ إن النبي العظيم موسى، قد أدانه عندما خاطبه بقوله: "عليك ألاّ تسرق جارك، وإلاّ أدنتك بقولك".
وينتمي زملائي من ناحية مساكنهم، إلى أماكن متفرقة من فلسطين فبعضهم جاء من القدس، حيث توجد كنيسة القيامة، ويوجد مسجد الأقصى، شاهدين حيين على الأخوة القومية بين المسلمين والنصارى في فلسطين، وهي أخوة تنعكس في تشكيل وفدنا. وقد جاء بعضهم من الجليل، ولا ريب في أنكم جميعاً تعرفون ما هو الجليل، ولا سيما إذا كنتم قد تعلمتم "الإنجيل" في مدارسكم وأنتم صغار، أنكم تعرفون ما يعنيه الجليل وقداسة الجليل، الذي شهد معجزات السيد المسيح. وجاء بعضهم من الجنوب من المناطق الواقعة على طرق الحجيج العريقة التي تؤدي إلى الأماكن المقدسة في مكة. وجاء بعضهم من الساحل، ملتقى الطريق القديمة التي تربط قارات العالم الثلاث، أجل جئنا جميعاً من فلسطين، لأننا من أهلها، في حاضرنا وفي مستقبلنا. وقد تبدلت إقامة الكثيرين منا بعد عام 1948، وتبدلت عناويننا، وحصل كثيرون منا على هويات جديدة، وجوازات سفر أخرى، وزاول الكثيرون منا مهناً وطرائق في الحياة غير التي كنا نزاولها. وبين زملائي سيدتان بارزتان لهما شأنهما في الحركة النسائية، فهما اثنتان، ولكنهما أكثر من اثنتين.. وبين زملائي وزير سابق، وأعضاء في البرلمان، ونقيب للمحامين ومزارع وملاك وطبيب ورئيس بلدية ومحام في لندن، جاء إلينا منها مباشرة، ومع ذلك فنحن فلسطينيون، وسنظل فلسطينيين في كل شيء، سنظل لاجئين، وإن كان القدر قد شاء لنا ألاّ نكون في عداد اللاجئين الذين ترعاهم قوائم المستر ديفيز.
ولعل هو هذا الشيء الوحيد الذي يميز أعضاء الوفد الفلسطيني في تشكيله الحالي عن المليون والمائتي ألف من اللاجئين الذين يعيشون في معسكراتهم، فنحن جميعاً من اللاجئين الذين يحملون نفس الأهداف القومية، والذين يستبد بهم الحنين إلى وطنهم وديارهم، ولا يفرقنا عن الآخرين سوى شيء واحد، وهو أننا لا نعيش على مساعدات المستر ديفيز، أي على الإحسان الدولي. فنحن لا نزال نعتز بكرامتنا ولا نعيش على الإحسان، ولكن هذا شأن القدر، ولو شاء غير هذا، لكنا نعيش على صدقات المستر ديفيز، في المخيمات، عاجزين عن إسماع اصواتنا إلى هذه اللجنة. أجل، شاء القدر ألاّ تضمنا قوائم المساعدات، ولكن على اللجنة أن تثق من أن أهدافنا وأهداف الآخرين واحدة، إنها التصميم الذي لا يتطرق إليه وهن على العودة إلى وطننا وديارنا بشرف وعزة وكرامة.
ويمت أعضاء الوفد الفلسطيني إلى الفلسطينيين في الأردن وفي غزة، وفي سورية ولبنان وليبيا والأميركيتين الشمالية والجنوبية.. وعلى الرغم من أننا جئنا من بلاد مختلفة يضمها الوطن العربي، إلاّ إننا نؤلف شيئاً واحداً، فنحن رجل واحد، كرس نفسه لفلسطين حتى آخر نبضة في عروقه، وها هو شأن كل مواطن من مواطنينا، سواء أكان يعيش في الخيام أم في المعسكرات، في الكهوف أم في المدن والقرى.
إننا نعد عشرين رجلاً، وهو عدد كبير بالنسبة إلى أي وفد، ولكن هذه أيضاً ظاهرة غريبة، تتسم بها المأساة التي نعيشها جميعاً، إنها ناحية أخري من نواحي المأساة، بل الكارثة التي وصلنا إليها، فقد تفرق أهلنا في كل صقع وزاوية من الوطن العربي، وبات التمثيل الواسع النطاق، ضرورياً ليتفق مع توزعنا الواسع على الأرض العربية.
ولكن، وعلى الرغم من تفرقنا جئنا وفداً واحداً، يمثل شعباً واحداً، هو شعب فلسطين، الحرة لا المجزأة، المستقلة لا المقسمة، وهنا يكمن الحل.. الحل الصحيح لمشكلة لاجئي فلسطين، إنه الحل الذي يقوم على وحدة الأرض المقدسة، وإني لأصر على وحدة الأرض المقدسة لأنها تفقد قداستها إذا تجزئت، فالقداسة لا تجزأ.
وعندما أتحدث عن الوطن والديار، فإني لا آتي بشيء جديد على البند المدرجعلى جدول الأعمال، ولا أحاول أن أقحم قضايا لا علاقة لها بموضوع البحث، فالوطن والديار عبارات تؤلف المعالم الأساسية لتقرير المستر ديفيز، المدير العام للوكالة الدولية، المعروض الآن للبحث في هذه اللجنة، وقد أشار المستر ديفيز إلى الظلم الفظيع الذي حاق باللاجئين من جراء فقدهم لوطنهم وديارهم، وهكذا فإن ضياع الوطن والديار هو لباب المشكلة التي تبحثها اللجنة، أما الغوث والمأوى والتعليم المهني والخدمات الطبية والرعاية الاجتماعية، فكلها فروع للمشكلة وإن كانت ضرورية لحياة اللاجىء اليومية. إنها الجوانب الهامشية للمشكلة، أما اللباب، والجوهر، والأساس، فهو الديار للأفراد والوطن للشعب. هذه هي المشكلة الحقيقية التي تواجه اللجنة، بل هذه هي القضية الحقيقية التي واجهت الأمم المتحدة منذ تعرضت لبحث هذه المشكلة، وفي وسعك أن تتيقن يا سيدي الرئيس أنها ستظل القضية البارزة أمام الأمم المتحدة إلى أن يعود اللاجئون إلى ديارهم وأوطانهم، ولا ريب في أنها كانت السبب الذي حفز المستر ديفيز على أن يقول في تقريره: "وما زالت الصورة التي رسمت في التقارير السنوية للسنوات الأربع الماضية عن حالة اللاجئين وأوضاعهم وأفكارهم وعواطفهم، واحدة، لم تتغير على الإطلاق".
ولا ريب في أن هذه الكلمات التي صدرت عن المستر ديفيز في صيغة عامة، تنطوي على نفاد الصبر، وقد أعرب المستر ديفيز عن نفاد صبره إلى الجمعية العامة بالأمس عندما أعلن استقالته من منصبه.
ولا تعني هذه الاستقالة أن المستر ديفيز قد حقق رسالته وبغيته، فنحن نعرف أن في الإمكان إنهاء عمل أية وكالة، عندما تحقق الغاية التي ألفت من أجلها وتؤدي رسالتها، لكن استقالة المستر ديفيز لم تكن ثمرة عمل تحقق أو مهمة استكملت. إنها وليدة نفاد الصبر، ولكن لم هذا النفاد؟ وما الذي حمل صبر المستر ديفيز على أن يفرغ؟ إن هناك أسباباً عدة لا يستطيع هو البوح بها، ولكن في وسعنا نحن، أبناء فلسطين أن نبحث في عقل المستر ديفيز وقلبه، لنعثر على السبب في فروغ صبره بعد الخدمات النبيلة التي قدمها طوال خمس سنوات متعاقبة، وقد جاء إلى الجمعية العامة فارغ الصبر ليعلن استقالته. إنها ليست بالاستقالة الناجمة عن الرضا بإكمال الرسالة، بل الاستقالة الناجمة عن اليأس من أدائها. إنها ليست ناجمة عن تحقيق تقدم أو نجاح، كما تزعم لجنة التوفيق، بل ناجمة عن الفشل، والفشل المستمر، وهل لي أن أقول بأن المستر ديفيز قد أعرب في تقريره عن نفاد صبره؟. في وسعنا أن نتيقن من ملله من البيان الذي ألقاه بالأمس، أجل لقد مل وأصابه السأم من القضية التي أوكلت إليه.
ولعل هذا هو السبب الذي دفعه إلى أن يحيلكم إلى تقاريره الأربعة السابقة جامعاً إياها بعضها إلى بعض، ونحن نشعر بأن المستر ديفيز، قد ثار على تحدي إسرائيل، بل على تحديها الدائم المستمر.
وفي الوقت الذي احالكم ديفيز فيه إلى تقاريره وراح يوجه إلى هذه الجمعية إنذاراً مرعباً، إنه إنذار نهائي، يوجهه قبل أن يتخلى عن العمل، وقد أراح ضميره، واستقل برأيه، أجل لقد قرر أن يوجه إنذاراً مقتضباً إليكم في بضع كلمات، ليقول لكم إن قضية اللاجئين الفلسطينيين هي اليوم أكثر تعقيداً من أي يوم مضى، فبعد خمسة عشر عاماً من الجهود المضنية التي بذلها المستر ديفيز وأسلافه الكرام من أمثال لابوس وبلاندفورد وغيرهما، يقف المستر ديفيز أمامكم ليعلن أن المشكلة أكثر تعقيداً من أي يوم مضى.
هذا هو الإنذار النهائي الموجه إلى الجمعية العامة، وهو إنذار يجعل من بيان لجنة التوفيق، التي ادعت أن المشكلة تسير في طريق الحل، وأن المحادثات التي أجرتها على أرفع المستويات ما زالت تسير في طريقها وفي أجواء طيبة للغاية، يجعلها أمراً مضحكاً ومثيراً للسخرية، فقد نفى المستر ديفيز هذه الادعاءات عندما أعلن في إنذاره، أن المشكلة أعقد اليوم من أي وقت مضى. وكان أكرم بلجنة التوفيق وأشرف لها، لو أنها سارت على غرار نزاهة المستر ديفيز وصدقه، ولو أنها جاءت إليكم هنا لتقول إن المشكلة أكثر تعقيداً من أي وقت سبق، ولو أنها قالت لكم بأن السبب في هذا التعقيد، هو تحدي إسرائيل وغرورها، لأنها تتجاهل تنفيذ قرارات الجمعية العامة، التي أكدتها سنة بعد سنة، طيلة خمسة عشر عاماً، ولو وقفت لجنة التوفيق هذا الموقف، لكان ذلك أكثر انسجاماً منها مع روح الأمم المتحدة، ولكان حرياً بها أن تحذو حذو المستر ديفيز وأن تأتي إليكم لتقول.. فشلنا.
كان فشلنا ناجماً عن عصيان إسرائيل المتعمد والمستمر، وعن رفضها قبول المبادىء التي انطوى عليها قرار الأمم المتحدة بإعادة اللاجئين.
ولا ريب في أنكم تذكرون أن لجنة التوفيق كانت قد أوضحت في الفقرة الثالثة عشرة من تقريرها الثالث، بأن إسرائيل رفضت مبدأ العودة رفضاً باتاً، ولكن هذه اللجنة ذاتها، تأتي بعد خمسة عشر عاماً من قولها هذا، فتلعن على مسامعكم بأن كل شيء هادىء على الجبهة الغربية، أو هذه الدبلوماسية الهدوء التي دعت إلى القول بهدوء الجبهة الغربية؟ ولكني لا أعرف أية جبهة تعنيها، أهي في الغرب أم في الشرق أم في مكان آخر في أجواء الفضاء؟
ولا ريب في أن هذه الأقوال التي أقتبسها من تقرير المستر ديفيز توضح لكم بجلاء ما بعده جلاء، بأن المشكلة المعروضة عليكم، هي مشكلة وطن وديار قبل كل شيء، فهي في جوهرها ليست مشكلة مؤن توزع، إنها ليست مشكلة سكر أو صابون أو زيت أو لاجئين، إنها مشكلة وجودنا القومي، إنها مشكلة وجود أو عدم وجود قبل كل شيء.
هذا هو لباب تقرير المستر ديفيز، وأرى لزاماً علي أن أعلن هنا، وبصوت جهوري على مسامع الوفد الأميركي، بأن المستر ديفيز واحد من قلائل من الشخصيات الأميركية العامة الذين يقاومون الضغط الصهيوني بعزيمة صادقة، وإصرار ثابت محتفظين بحقهم في أن يقولوا ويعملوا بوحي أفكارهم المستقلة وموضوعيتهم الحرة.
وعندما أقول هذا، أنا لا أعني شعب الولايات المتحدة، حتى ولا أولئك الجالسين أمامي في الشرفة يتابعون مناقشات هذه اللجنة والذين سمحوا لأنفسهم بأن يضحكوا من قولي هذا، فنحن لا نشكو شيئاً من شعب الولايات المتحدة لأن هذا الشعب يستحق إعجابنا لكرمه وتسامحه وعدالته، ولكننا نشكو من سياسة الولايات المتحدة، فعندما نستمع إلى ما يقال في إذاعاتها، ونشهد ما يقال على شاشات تلفزيونها، وعندما نقرأ ما تقوله صحافتها، وما يصدر عن شيوخها ونوابها وحكام ولاياتها من أقوال هنا، في الولايات المتحدة، ولا سيما ما يتعلق منها بموضوع اللاجئين، وبما يدور في الجمعية العامة من مناقشات يخيل إلينا، أن إسرائيل قد انتقلت إلى هنا، وأنها عبرت المحيطات، لتستقر هنا في نيويورك.
هذا هو الانطباع الذي يتولد لدينا، عندما نستمع إلى كل هذه الدعايات الجوفاء، بكل ما فيها من جلبة وصخب، وإلى هذه البيانات تصدر من هنا وهناك، عن مختلف الأحزاب، وعن مجلسي النواب والشيوخ متحدية الناحية الإنسانية في مشكلة اللاجئين. إنها تخلق جواً من المرارة وخيبة الأمل، يجعل شعب فلسطين، ينكر أن هذه هي أرض الولايات المتحدة، ويؤمن بأنها إسرائيل، انزلقت عبر المحيطات لتستقر هنا وتقيم مقرها الرئيسي في نيويورك على مقربة من حرم الأمم المتحدة. ولا ريب في أنها رحمة الله وحده، هي التي أتاحت لنا مكاناً هنا له حصانته ومناعته وامتيازاته، حتى بالنسبة إلى المتوسلين المستدعين من غير أعضاء الأمم المتحدة. أجل إنها رحمة الله أقامت على هذه الضفة من النهر، هذا الحرم الدولي، حيث نستطيع أن نعبر عما نفكر فيه بحرية، وإن حالت الإذاعة والتلفزيون والصحافة دون نشره في اليوم التالي، وإن شوهه رجال مجلس الشيوخ والكونغرس، متنكرين للاجئين في صراعهم من أجل الحياة، ومن أجل قضيتهم القومية.
هذه هي الحقيقة، الحقيقة التي يجب أن تقال هنا في "برلمان الإنسان" إذ إنه المكان الوحيد الذي يستطيع فيه اللاجئون أن يبسطوا قضيتهم وأن يقولوا كل ما يجول في ضمائرهم وخواطرهم، وليس ثمة من أعضاء في الكونغرس، يستطيع اللاجئون الاتصال بهم، وليس لهم شيوخ "أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي" يتحدثون إليهم. وليس لهم أمثال المستر ترومان الذي قال ذات يوم، بأن ليس ثمة عرب في دائرته الانتخابية، أجل ليس لنا إلاّ هذه الأمم المتحدة، هذا العالم المتحضر، ونحن نؤمن بالمجتمع الدولي، الذي لا بد أن يرى العدالة مع مضي الزمن، ويزيل الظلم الذي أحاق بشعبنا وجعلنا شعباً مت اللاجئين، أجل شعباً بأسره من اللاجئين. ومن الزراية بالإنسانية في عصر الأمم المتحدة، أن يقتلع شعب بكامله من جذوره في وطنه، وأن يظل هذا الشعب خمسة عشر عاماً ينادي مطالباً بالعودة، وأن تؤكد الجمعية العامة سنة بعد سنة ودورة بعد أُخرى، حقه في العودة، من دون أية عودة، وأن يظل هذا الشعب يعيش حياة التشرد والإبعاد. إنها جريمة لا يمكن أن تقع في عصر الأمم المتحدة.
ولست في حاجة إلى أن أعرض على مسامعكم سلسلة من السوابق في فقه القانون لأؤكد حقنا في الحياة، فمن حقنا أن نعيش كحقكم أنتم في العيش، وليس ثمة من تمييز في عالمنا اليوم، بين الشعوب صغيرها وكبيرها، ولا يمكن أن تكون ثمة تفرقة على أساس الجنس أو الدين أو اللغة، ويجب ألاّ تكون أسيويتنا أو فلسطينيتنا، سبباً في أن نحرم من الوجود، وأن يضن علينا بحقنا في الحياة داخل وطننا.
أجل، لن أعرض على مسامعكم سلسلة طويلة من السوابق والشواهد القانونية لأؤكد حقنا في الوجود، حقنا في الحياة، حقنا في العيش في وطننا وديارنا. ودعوني أذكركم أيها السادة، أن فكرة الوطن، هي أقدم فكرة في العالم، وأكثرها عراقة. فقد كان للإنسان وهو في عصر الوحشية البدائية بيت يسكنه في جذع شجرة، أو يحفره في قلب الصخور، أو كهف يلجأ إليه. إنها أكثر الأفكار عراقة في التاريخ، يعود عهدها إلى عصور أقدم من الحضارة ومن عصبة الأمم المتحدة، إذ كان لكل إنسان الحق في أن يعيش في بيته سواء أكان هذا البيت كهفاً أم جذع شجرة. هذه هي الفكرة العريقة، وإننا نطالب بحقنا في أن نعيش في بيروتنا على أرض وطننا.
وكل ما نريده هو أن ننعم في بيوتنا بما تنعمون به في بيوتكم، وأن نمارس في وطننا الحقوق التي تمارسونها في أوطانكم، فنحن نؤلف شعباً كشعوبكم، وكما أكدتم حقكم القوي في تقرير مصيركم، فنحن نتطلع إلى ممارسة حقنا القومي في تقرير مصيرنا. إننا نتطلع إلى ممارسة حقنا. والعدالة شيء لا يمكن تجزئته، ولا يمكن الأمم المتحدة أن تنادي بعدم التمييز في الوقت الذي تطبق فيه التمييز بكل معانيه.
ومن حق الشعب الفلسطيني أن يتمتع كغيره من الشعوب بجميع الحقوق المقدسة التي تضمنها ميثاق الأمم المتحدة ولا ريب في أن هذا الشمول العالمي، هو ما عناه رجل عظيم، رجل تحبونه كلكم، وتتناقلون كلماته، وكأنها من الأناجيل، رجل اعتبر سلوكه وعمله في الحياة كمرشد، عالمي، يوجه الناس إلى سلوكهم الشري، هو جون دون.3 عندما قال: "كلما مات إنسان شعرت بأني خسرت شيئاً إذ إنني جزء من الإنسانية، ولذا لا تسأل إذا ما سمعت أجراس الكنيسة تقرع حزناً معلنة وفاة إنسان، إذ إنها تعني ضياع شيء منك"، هذه هي الكلمات النبيلة التي أطلقها إنسان نبيل، ولو طبقناها على اللاجئين، لعنت شيئاً مماثلاً.. إذ تصبح على هذا النحو.
"إن كل تشريد لإنسان، تشريد لي، إذ إنني جزء من الإنسانية، ولذا لا تسأل عن الذين توزع عليهم حصص الغذاء، إذ إنها تعطى إليك".
هذه ليست استعارات بيانية، أو استنتاجات سوداوية. إنها استعارات يمكن أن تتحول إلى واقع في كل زمان ومكان، بل ضد كل أمة من الأمم، وإني لأبتهل إلى الله صادقاً، ألا يعرض إليها اية أمة من الأمم الممثلة في هذه الندوة. وإذا كان لا بد للنظام العالمي من أن يقوم على النزوات، وعلى التحدي، والقوة، فإن كل شعب من الشعوب قد يتعرض لاقتلاع جذوره، واغتصاب ممتلكاته، وطمس بلادهن على حد تعابير المستر ديفيز التي استخدمها في تقريره الموضوع بين أيديكم.
ومن حقي أن أقول لكم جماعة وأفراداً، إنه إذا لم يكن لشعب فلسطين حق في وطنه ودياره، فليس لأي شعب آخر، أي حق في أي شيء، وآنذاك تصبح الحياة الدولية عائمة في محيط من الاضطراب والفوضى. وأستميحكم العذر في بيان الأسباب..
وفي وسعي أن ألخص قضيتنا الآن في مجموعة من الأسس الواضحة المطلقة.
أولاً: إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين جزء لا يتجزأ من مشكلة فلسطين ولا يمكن البحث عن حل لها إلاّ ضمن إطار القضية الفلسطينية كلها، وعلى أساس حق أهل فلسطين في تقرير مصيرهم.
ثانياً: كانت مشكلة فلسطين، ثمرة حتمية لمؤامرة جرى تخطيطها بين الصهيونية وقوى الاستعمار العالمي. ولا يمكن حل مشكلة فلسطين، كقضية استعمارية، إلاّ ضمن إطار المخطط العام لتصفية الاستعمار، وهو المخطط الذي رسمته الأمم المتحدة في عهدها الأخير.
ثالثاً: كان تشريد اللاجئين الفلسطينيين الثمرة المباشرة لقيام إسرائيل، تماماً كالعلاقة بين السبب والنتيجة. وكان لا بد لإسكان شعب غريب في البلاد، من إبعاد أهلها الأصليين وسرقة ديارهم واقتلاع جذورهم من وطنهم.
رابعاً: إن شعب فلسطين بوصفه المالك الشرعي لبلاده، مصمم على ممارسة حقه الكامل، على الصعيدين القومي والشخصي.
إن شعب فلسطين مصمم، بكل ما في التصميم من إصرار، على استعادة دياره، وأراضيه، ومزارعه، ومدنه وقراه، بل على استعادة وطنه، وتراث أجداده، منذ وعى التاريخ ذاته. ونحن في تصميمنا هذا سنناضل من دون لين أو هوادة، ولن نكون وحيدين إطلاقاً. وستمدنا الشعوب العربية وهم إخوة لنا وأهل، بكل عون ممكن، إذ إن قضيتنا في جوهرها، قضية عربية عامة، وسيهب لنصرتنا كل إنسان شريف كريم، سواء أكان رجلاً أم امرأة، إذ إن قضيتنا هي قضية الإنسان في شرفه وكرامته. وستهرع جميع الشعوب المحبة للسلام والحرية إلى تأييد قضيتنا بمختلف السبل، وأنا أعني ما أقول، أجل بمختلف السبل، التي لا أتردد في بيانها بصراحة وجلاء، إذ إن قضيتنا هي قضية السلام والحرية.
ومن هنا يتبين لكم أن القضية التي تواجه الأمم المتحدة الآن، قضية واضحة وجلية. إنها التساؤل عن موقف المنظمة الدولية. فالقضية التي تواجهكم، قضية حاسمة، بل قضية مصير، وإن عليكم أن تردوا على هذا التساؤل، ومن حقنا أن نلحف عليكم بهذا الرد.
إن عليكم أن تردوا على سؤالنا، سؤالنا الواضح الصريح: أتريدون السلام أن الحرب؟ والخيار في متناول أيديكم. وإني لأناشدكم أن تختاروا السلام ولا شيء غير السلام، على أن يقوم على العدل ولا شيء غير العدل. هذا هو أملنا، وهذا هو رجاؤنا، بل هذه هي صلاتنا وابتهالنا.
المصدر: أحمد الشقيري. "الأعمال الكاملة: كلمات وخطب". المجلد السادس. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006. ص 493 - 530.