خطاب الملك حسين
بشأن فك ارتباط الأردن بالضفة الغربية
عمّان، 31 تموز/ يوليو 1988
بسم الله الرحمن الرحيم
"والصلاة والسلام على رسوله العربي الأمين"
أيها الأخوة المواطنون،
أحييكم أطيب تحية، ويسعدني أن أتحدث إليكم، في مدنكم وقراكم ومضاربكم، في مصانعكم ومعاهدكم ومكاتبكم ومؤسساتكم. يسعدني أن أتحدث إليكم حيثما كنتم على ثرى وطننا الأردني العزيز، وأن أخاطب فيكم العقل والقلب معاً، وقد باشرنا، بعد الاتكال على الله وفي ضوء دراسة عميقة مستفيضة، باتخاذ سلسلة من الإجراءات لدعم التوجه الوطني الفلسطيني وإبراز الهوية الفلسطينية، متوخين منها مصلحة القضية الفلسطينية والشعب العربي الفلسطيني.
ويأتي هذا القرار، كما تعلمون، بعد ثمانية وثلاثين عاماً من وحدة الضفتين، وبعد أربعة عشر عاماً من قرار قمة الرباط باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبعد ستة أعوام من قرار قمة فاس التي أجمعت على قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين كأساس من أسس التسوية السلمية ونتيجة لها.
ويقيننا أن قرارنا باتخاذ هذه الإجراءات لا يفاجئكم. فالكثيرون منكم ترقبوه. والبعض منكم طالبوا به قبل اتخاذه بزمن. أما مضمونه، فقد كان للجميع، ومنذ قرار قمة الرباط، محل نقاش وبحث واجتهاد.
ومع ذلك، فيمكن للبعض أن يتساءل لماذا الآن؟ لماذا نتخذ القرار اليوم ولم نتخذه غداة قرار قمة الرباط؟ أو غداة قمة فاس مثلاً؟
وجوابنا [عن] ذلك يقتضينا الرجوع إلى عدد من الحقائق التي سبقت قرار الرباط، وإلى الاعتبارات التي انطلق منها النقاش والبحث حول الشعار الهدف الذي رفعته منظمة التحرير الفلسطينية وعملت لكسب التأييد له، عربياً ودولياً، وهو هدف إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، الذي يعني، فضلاً عما يعنيه من تطلع المنظمة لتجسيد الهوية الفلسطينية على التراب الوطني الفلسطيني، انفصال الضفة الغربية عن المملكة الأردني الهاشمية.
أمّا الحقائق التي سبقت قرار الرباط، فقد قمت، كما تذكرون، باستعراضها أمام الأخوة القادة العرب في قمة الجزائر غير العادية في حزيران [يونيو] الماضي. ولعله من المهم التذكير بأن من أبرز هذه الحقائق التي ذكرت كان نص قرار الوحدة بين الضفتين في نيسان [أبريل] العام 1950. ويؤكد هذا القرار، في جزء منه، على "المحافظة على كامل الحقوق العربية في فلسطين، والدفاع عن تلك الحقوق بكل الوسائل المشروعة، وبملء الحق، وعدم المساس بالتسوية النهائية لقضيتها العادلة، في نطاق الأماني القومية، والتعاون العربي، والعدالة الدولية".
كما كان من بين هذه الحقائق ما طرحناه العام 1972 من تصور للبدائل التي يمكن أن تقوم عليها العلاقة بين الأردن والضفة الغربية وقطاع غزة، بعد تحريرهما. وكان من بين هذه البدائل قيام علاقة أخوّة وتعاون بين المملكة الأردنية الهاشمية والدولة الفلسطينية المستقلة في حالة اختيار الشعب الفلسطيني لذلك. وهذا يعني، ببساطة، أننا أعلنا موقفنا الواضح حول تمسكنا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على ترابه الوطني، بما في ذلك حقه في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة، قبل قرار قمة الرباط بأكثر من عامين. وهذا الموقف هو الذي سنظل متمسكين به إلى أن يحقق الشعب الفلسطيني أهدافه الوطنية كاملة غبر منقوصة، بمشيئة الله.
أمّا الاعتبارات التي كان ينطلق منها البحث دائماً، حول علاقة الضفة الغربية بالمملكة الأردنية الهاشمية، على خلفية دعوة منظمة التحرير لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، فيمكن حصرها في اعتبارين اثنين، هما:
أولاً: اعتبار مبدئي يتصل بقضية الوحدة العربية، باعتبارها هدفاً قومياً تلتقي عليه أفئدة الشعوب العربية وتتطلع إلى تحقيقه.
وثانياً: اعتبار سياسي يتصل بمدى انتفاع النضال الفلسطيني من الإبقاء على العلاقة القانونية بين ضفتي المملكة.
وجوابنا [عن] تساؤل: لماذا الآن؟ ينبثق هو الآخر عن هذين الاعتبارين وعن خلفية الموقف الأردني الواضح الثابت تجاه القضية الفلسطينية كما بيّنا.
أما بالنسبة [إلى] الاعتبار المبدئي، فإن الوحدة العربية بين أي شعبين عربيين أو أكثر هي حق الاختيار لكل شعب عربي. هذا هو إيماننا. وعلى أساس ذلك تجاوبنا مع رغبة ممثلي الشعب الفلسطيني في الوحدة مع الأردن العام 1950؛ ومن منطلقه نحترم رغبة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، في الانفصال عنّا في دولة فلسطينية مستقلة. نقول ذلك ونحن في منتهى التفهم؛ ومع ذلك سيظل الأردن معتزاً بحمله رسالة الثورة العربية الكبرى، متمسكاً بمبادئها، مؤمناً بالمصير العربي الموحد، وملتزماً بالعمل العربي المشترك.
أما بالنسبة [إلى] الاعتبار السياسي، فقد كانت قناعتنا، ومنذ عدوان حزيران [يونيو] العام 1967، أن الأولوية الأولى لعملنا وجهودنا ينبغي أن تنصب على تحرير الأرض والمقدسات من الاحتلال الإسرائيلي. وعليه، فقد ركزنا، كما هو معروف، كل جهودنا، عبر الواحد وعشرين عاماً من الاحتلال، باتجاه هذا الهدف؛ ولم يكن في تصورنا أن المحافظة على العلاقة القانونية والإدارية بين الضفتين يمكن أن تشكل عقبة على طريق تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة. ومن هنا، لم نجد، خلال الفترة التي انقضت قبل اتخاذنا إجراءاتنا، ما يستوجب اتخاذها، وبخاصة أن موقفنا الداعي والمؤيد لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره كان واضحاً لا لبس فيه.
وفي الفترة الأخيرة، تبين أن هناك توجهاً فلسطينياً، وعربياً، يؤمن بضرورة إبراز الهوية الفلسطينية، بشكل كامل، في كل جهد أو نشاط يتصل بالقضية الفلسطينية وتطوراتها. كما اتضح أن هناك قناعة عامة بأن بقاء العلاقة القانونية والإدارية مع الضفة الغربية، وما يترتب عليها من تعامل أردني خاص مع الأخوة الفلسطينيين تحت الاحتلال من خلال المؤسسات الأردنية في الأرض المحتلة، يتناقض مع هذا التوجه، مثلما سيكون عائقاً أمام النضال الفلسطيني الساعي لكسب التأييد الدولي للقضية الفلسطينية، باعتبارها قضية وطنية عادلة لشعب مناضل ضد احتلال أجنبي.
وإزاء هذا التوجه المنبثق حتماً عن رغبة فلسطينية خالصة، وتصميم عربي أكيد على نصرة القضية الفلسطينية، أصبح من الواجب أن نكون جزءاً من هذا التوجه، ونتجاوب مع متطلباته. فنحن، أولاً وآخراً، جزء من أمتنا، حريصون على نصرة قضاياها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وما دامت هنالك قناعة جماعية بأن النضال من أجل تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة يمكن أن يدعم بفك العلاقة القانونية والإدارية بين الضفتين، فلا بد أن نؤدي واجبنا ونفعل ما هو مطلوب منا؛ فكما تجاوبنا مع مناشدة القادة العرب لنا في قمة الرباط العام 1974 لمواصلة التعامل مع الضفة الغربية المحتلة من خلال المؤسسات الأردنية دعماً لصمود الأخوة هناك، فإننا نتجاوب، اليوم، مع رغبة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ومع التوجه العربي لتأكيد الهوية الفلسطينية الخالصة في سائر عناصرها، شكلاً ومضموناً، ضارعين إلى الله أن يجعل من خطوتنا هذه إضافة نوعية [إلى] نضال الشعب الفلسطيني المتنامي من أجل الحرية والاستقلال.
أيها الأخوة المواطنون،
هذه هي الأسباب والاعتبارات والقناعات التي حدت بنا للتجاوب مع رغبة منظمة التحرير الفلسطينية ومع التوجه العربي العام المنسجم مع هذه الرغبة. إذ لا يمكن أن نستمر في هذا الوضع المعلّق الذي لا يمكن أن يخدم الأردن، كما لا يمكن أن يخدم القضية الفلسطينية. وكان لا بد من الخروج من نفق المخاوف والشكوك إلى رحاب الصفاء والوضوح، حيث تنتعش الثقة المتبادلة وتزهر تفاهماً وتعاوناً ومحبة لصالح القضية الفلسطينية، ولصالح الوحدة العربية التي ستظل هدفاً عزيزاً تلتقي على السعي إليه وعلى تحقيقه سائر الشعوب العربية.
على أنه ينبغي أن يفهم، بكل وضوح، وبدون أي لبس أو إبهام، أن إجراءاتنا المتعلقة بالضفة الغربية إنما تتصل فقط بالأرض الفلسطينية المحتلة وأهلها، وليس بالمواطنين الأردنيين من أصل فلسطيني في المملكة الأردنية الهاشمية بطبيعة الحال. فلهؤلاء جميعاً كامل حقوق المواطنة، وعليهم كامل التزاماتها، تماماً مثل أي مواطن آخر مهما كان أصله. إنهم جزء لا يتجزأ من الدولة الأردنية التي ينتسبون إليها ويعيشون على أرضها ويشاركون في حياتها وسائر أنشطتها. فالأردن ليس فلسطين، والدولة الفلسطينية المستقلة ستقوم على الأرض الفلسطينية المحتلة بعد تحريرها بمشيئة الله، وعليها تتجسد الهوية الفلسطينية، ويزهر النضال الفلسطيني، كما تؤكد ذلك الانتفاضة المباركة المظفرة للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال.
وإذا كانت الوحدة الوطنية في أي بلد من البلدان عزيزة غالية، فهي بالنسبة لنا، في الأردن، أكثر من ذلك. إنها قاعدة استقرارنا، وسبب نمائنا وازدهارنا، وأساس أمننا الوطني، ومبعث ثقتنا في المستقبل، مثلما هي تجسيد حي لمبادئ الثورة العربية الكبرى التي ورثناها ونعتز بحمل رايتها، ونموذج معاش للتعددية البنّاءة، ونواة سليمة لأي صيغة عربية وحدوية أشمل.
وعليه، فإن صون الوحدة الوطنية أمر مقدس لا تهاون فيه، وأي محاولة للعبث بها، تحت أي لافتة أو عنوان، لن تكون إلاّ مساعدة للعدو لتنفيذ سياسته التوسعية على حساب فلسطين والأردن سواء بسواء. ومن هنا، فإن تدعيمها وتمتينها هو الوطنية الحقة، والقومية الأصيلة. ومن هنا، أيضاً، فإن المسؤولية المحافظة عليها تقع على عاتق كل واحد منكم، فلا يكون بيننا متسع لفتان ذي ضلالة، أو خوّان ذي غرض. ولن نكون، بعون الله، إلاّ كما كنا على الدوام، أسرة واحدة متماسكة، تنتظم أفرادها الأخوة والمحبة والوعي والأهداف الوطنية والقومية المشتركة.
ولعل أهم ما ينبغي التذكير به، ونحن نؤكد على ضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية، هو أن المجتمعات المستقرة، المنتجة، هي المجتمعات التي يسودها النظام والانضباط. فالانضباط هو النسيج المتين الذي يمتد بين أبناء الشعب جميعاً، ويشدهم بعضاً إلى بعض في بنيان واحد منسجم منيع، يسد الطريق على الأعداء، ويفتح آفاق الأمل للأجيال المقبلة.
إن التعددية البناءة التي يعيشها الأردن منذ تأسيسه، ويشهد بسببها التقدم والازدهار في كل مناحي الحياة، لا تزيد فقط من إيماننا بقدسية الوحدة الوطنية، بل أيضاً بأهمية دور الأردن القومي، من خلال طرح نفسه نموذجاً حياً لاندماج فئات عربية مختلفة على أرضه في إطار مواطنة صالحة وشعب أردني واحد. إن هذا النموذج الذي نعيشه على أرضنا، هو الذي يمنحنا الثقة في حتمية تحقيق الوحدة العربية بمشيئة الله. وإذا ما تمعّنا في روح العصر، فإن تأكيد الذات الوطنية لا يتعارض مع تحقيق صيغ وحدوية مؤسسية يمكن أن تنتظم العرب جميعاً. فهنالك أمثلة حية قائمة في وطننا العربي تثبت ذلك، مثلما هنالك أمثلة حية قائمة في أقاليم أجنبية. ولعل من أوضحها المجموعة الأوروبية التي تتجه، اليوم، نحو تحقيق وحدة أوروبية سياسية، بعد أن نجحت في تحقيق التكامل الاقتصادي بين أعضائها. وكما هو معروف، فإن الأواصر والصلات والمقومات التي تجمع بين العرب هي أكثر بكثير من تلك التي تجمع بين الشعوب الأوروبية.
أيها المواطنون؛ أيها الأخوة الفلسطينيون في الأرض الفلسطينية المحتلة،
وتبديداً لأي ظنون يمكن أن تنشأ عن إجراءاتنا، نود أن نؤكد لكم بأن هذه الإجراءات لا تعني تخلّينا عن واجبنا القومي، سواء تجاه النزاع العربي – الإسرائيلي أو تجاه القضية الفلسطينية؛ كما أنها لا تعني تخلياً عن إيماننا بالوحدة العربية. فالإجراءات نفسها، كما ذكرت، قد اتخذناها، في الأصل، تجاوباً مع رغبة منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ومع القناعة العربية السائدة بأن مثل هذه الإجراءات ستسهم في دعم نضال الشعب الفلسطيني وانتفاضته المباركة. وسيواصل الأردن دعمه لصمود الشعب الفلسطيني ولانتفاضته الباسلة في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما تسمح به طاقاته. ولا يفوتني أن أذكر بأننا حينما قررنا إلغاء خطة التنمية الأردنية في الأرض المحتلة، بادرنا في نفس الوقت بالاتصال مع مختلف الحكومات الصديقة والمؤسسات الدولية التي أعربت عن رغبتها في الإسهام بالخطة، لحثها على الاستمرار في تمويل مشاريع التنمية في الأرض الفلسطينية المحتلة من خلال الجهات الفلسطينية ذات العلاقة.
فالأردن، ايها الأخوة، لم، ولن، يتخلى عن دعم ومساعدة الشعب الفلسطيني، إلى أن يبلغ غاياته الوطنية بإذن الله. فما من أحد، خارج فلسطين كان، أو يمكن أن يكون، له ارتباط بفلسطين أو بقضيتها أوثق من ارتباط الأردن أو ارتباط أسرتي بها. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، فإن الأردن دولة مواجهة وحدوده مع إسرائيل هي أطول من حدود أي دولة عربية معها، بل هي أطول من حدود الضفة الغربية وقطاع غزة مجتمعين معها. كما أن الأردن لن يتخلى عن التزامه بالمشاركة في عملية السلام، التي أسهمنا في إيصالها إلى مرحلة تحقيق الإجماع الدولي على عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، للتوصل إلى تسوية سلمية شاملة عادلة للنزاع العربي – الإسرائيلي، وتسوية القضية الفلسطينية من جميع جوانبها. ولقد حددنا موقفنا في هذا المجال، وكما يعلم الجميع، بالمبادئ الستة التي سبق وأن أعلناها على الملأ. وأن الأردن، طرف رئيسي في النزاع العربي – الإسرائيلي وفي مسيرة السلام، وهو يتحمل مسؤولياته الوطنية والقومية على هذا الأساس.
أشكركم، وأكرر تحياتي وتمنياتي القلبية لكم، سائلاً المولى القدير أن يمنحنا العون والهداية، ويوفقنا إلى ما فيه مرضاته، وأن يكتب لأخوتنا الفلسطينيين النصر والفلاح؛ إنه نعم المولى ونعم النصير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المصدر: "شؤون فلسطينية". العدد 185 (آب/ أغسطس 1988)، ص. 139-142. نقلاً عن الدستور، عمّان، 1/8/1988.