مذكرة كونيغ
1 آذار/ مارس 1976
مقدمة:
1. سادت الدوائر المسؤولة عن السكان العرب، حتى قبل وقت قصير للغاية، آراء تقول أن قبول هذا الجزء من السكان بوجود دولة إسرائيل هو قبول كامل، وأن أكثريتهم تمر في مراحل متقدمة من التماثل مع الدولة والاندماج في مؤسساتها المختلفة. هذا، على الأقل، ما اتضح من خلال "المهتمين" [بالشؤون العربية من بين اليهود] والمقربين إلى المراكز الاجتماعية للعرب – سكان الدولة ومواطنيها.
2. وقعت أخيراً عدة حوادث هزت هذه الفرضيات، ووضعت علامة سؤال كبيرة على ولاء جزء كبير من أولئك السكان للدولة ووجودها بالذات.
لقد ظهرت حقاً شكوك بشأن طريقة التفكير في شؤون العرب في إسرائيل ومعالجتها قبل بضع سنوات، لأسباب ستوضح فيما يلي، ولكنها كانت متعارضة مع مفاهيم "المستعربين" ولذلك أسكتت حالاً. ويبدو لنا أنه لا نقاش الآن حول ضرورة البحث في "بديهيات"، كانت تعتبر أسساً مسلماً بها حتى الفترة الأخيرة.
3. بعد إقامة الدولة، وجد الباقون من السكان العرب أنفسهم دون زعامة. وتكونت أقلية وجدت نفسها ملزمة بالتكيف مع واقع الدولة اليهودية، التي تعيش في حالة حرب مع جيرانها العرب، فتثبت قوتها إزاءهم، من خلال استعمال القوة ضدهم.
أما الحكم العسكري، الذي أصبح أولئك السكان تحت إشرافه، فقد عزز سلطة "الوجهاء"، واندمج بذلك قي بنية المجتمع العربي القائم على الحمائل والعائلات. وأدى إلغاء الحكم العسكري إلى اهتزاز نفوذ "الوجهاء"، ومن دار في فلكهم. وأدى اهتزاز ارتباط الفرد بالمؤسسة – أي الحكم العسكري – إلى شعور جيل الشباب بالقوة التي يمنحه إياها مجتمع ديمقراطي من ناحية، وتحول المجتمع العربي من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، مع ما يتبع ذلك من النواحي الاجتماعية.
وبالإضافة إلى ذلك، أجبر تمرد جيل الشباب، أحياناً، الجيل القديم على الانضمام إلى معسكر المتمردين، وجعل من الدولة هدفاً لنضالهم، إذ لم تكن إلى قد أعدت بعد وسائل ضمان ارتباطهم بالمجتمع اليهودي والدولة بشكل سليم ومثمر. يضاف إلى ذلك أننا شجعنا، من ناحيتنا، على الخروج عن الطوق، بمحاولتنا كسب المتمردين إلى جانبنا "بوسائل" مختلفة.
خلال الخمسينات، كان المجتمع العربي مرتبطاً من الناحية الاقتصادية بالاقتصاد اليهودي، الذي انفتح تدريجاً أمام العرب على مصراعيه، نتيجة هرب العمال اليدويين اليهود من العمل في مجال الأشغال اليدوية. وأدى ذلك إلى نشوء شريحة ميسورة اقتصاديا، أصبح حسن سير اقتصاد الدولة متوقفاً عليها، إلى حد بعيد.
4. مع إلغاء الحكم العسكري، أوكلت الدولة تصريف الشؤون العربية إلى متحدثين بالعربية [من بين اليهود]، فاختاروا العناصر الشرسة [من بين العرب] وجعلوا منهم زعماء، فكان أن دعم هؤلاء مراكزهم وقواهم للحصول على منافع مادية لهم وللمقربين منهم. وقد قاموا بذلك متجاهلين المشكلات اللاجتماعية في الوسط العربي من ناحية، وغير مهتمين بخلق نموذج مواطن عربي موال للدولة – نتيجة انعدام التخطيط، من ناحية ثانية.
وكانت معايير تقويم العاملين في المجال العربي، على المستوي السياسي والعسكري، وفي الشرطة، وفي المجال المدني، هي محاكاتهم العقلية العربية. ولم تلاحظ على هؤلاء العاملين دائماً علائم المقدرة على التفكير والتنفيذ بمستوى السكان الذين يفترض بهم أن يعالجوا مشكلاتهم. وقد حدث ذلك بدلاً من المحافظة على مستوى التفكير المستقل والقدرة على تحليل الظواهر المزعجة من ناحية، ومحاولة حل المشكلات من خلال تفكير موضوعي يؤمن المصالح اليهودية – القومية على المدى البعيد، من ناحية ثانية.
5. إن واقع لواء الشمال، حيث تعيش أكثرية عرب إسرائيل، ومجاورته وتداخله مع السكان اليهود فيه، يظهر ويؤكد ويجسد بشكل واضح المشكلات التي نشأت حديثاً، وتلك المتوقعة على المدى القريب والبعيد. ولعل أكثر الظواهر إقلاقاً في هذا الشأن، فقدان اليهودي العادي صبره تجاه المواطن العربي، وفي بعض الأحيان، يمكن ان نلحظ عداء، قد يدفع بعد تحرش بسيط إلى انفجار غير مرغوب فيه، وتصعب السيطرة عليه، وتكون له نتائج وأصداء سلبية في البلد، وخصوصاً في الخارج.
(انظر قرارات منظمة الطلبة العرب الجامعيين في حيفا بشأن عدم القيام بحراسة مساكن الطلبة، عندما سمح لهم بدفع بدل حراسة).
ثم إن اختلال التوازن السكاني في هذه المناطق هو أمر يتوجسه كل فرد يهودي ويسبب له القلق، ويشكل منطلقاً قوياً للشعور الانفعالي لدى السكان اليهود.
وفي إطار هذه المذكرة، سنشير إلى عدد من المسائل المعقدة، من خلال شرح أرضيتها، ونقدم توصيات لحلها.
أما المواضيع التي ستبحث فهي:
أ) المشكلة الديمغرافية، ومظاهر الشوفينية العربية.
ب) الزعامة العربية وتأثيرها.
ج) الاقتصاد والعمالة.
د) التعليم.
هـ) فرض القانون.
أ.- المشكلة الديمغرافية ومظاهر الشوفينية العربية
1. يبلغ التكاثر الطبيعي لدى السكان العرب في إسرائيل نحو 5,9 % في السنة، مقابل تكاثر طبيعي للسكان اليهود بمعدل 1,5 % في السنة.
ويصبح هذا التكاثر مشكلة حادة على نحو خاص في لواء الشمال، الذي يضم عدداً كبيراً من السكان العرب. فقد بلغ عدد السكان العرب، في منتصف 1975، في لواء الشمال نحو 250 ألف نسمة، بينما بلغ عدد اليهود نحو 289 ألف نسمة. وإذا نظرنا بحسب الأقضية، نرى أن نسبة العرب في الجليل الغربي تبلغ نحو 67 % من السكان. وفي قضاء يزراعيل [أي البصرة] تبلغ نسبتهم نحو 48 % من السكان. وخلال سنة 1974، زاد عدد السكان اليهود في لواء الشمال 759 نسمة، بينما زاد عدد السكان العرب 9035 نسمة. وبحسب الزيادة هذه، ستصل نسبة السكان العرب في هذا اللواء إلى ما يزيد على 51% سنة 1978.
ويشعر الشوفينيون – وهذا تقديري أيضاً بالنسبة إلى السكان العرب – أن تكاثرهم في الجليل خطر علينا يتهدد سيطرتنا بالذات على المنطقة، ويفتح المجال لدخول قوات عسكرية من الشمال إلى إسرائيل، ويؤثر في تعاظم الشعور القومي لدى عرب إسرائيل واستعدادهم لمساعدة تلك القوات.
2. حصل لدى السكان العرب في إسرائيل زخم قومي منذ حرب الأيام الستة. فسياسة الاتصال الحر مع الضفة الغربية وسياسة الجسور المفتوحة أدت إلى تجديد الاتصال بين عرب يهودا والسامرة وفلسطينيي شرق الأردن من جهة، وعرب إسرائيل من جهة أخرى، وخلقت أساساً للوقوف بهامات مرفوعة، وأرضية لشعارات النضال القومي في إسرائيل. هذا التطور الحتمي تلقى قوة دفع إضافية بسبب نتائج حرب يوم الغفران، وتدعم بسبب الأحداث السياسية الدولية التي عبر عنها بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كحاملة للواء النضال من أجل القضية الفلسطينية.
ويتردد في الآونة الأخيرة ذكر قرار الأمم المتحدة بشأن حدود إسرائيل سنة 1947، والذي تقع، بموجبه، أقسام كبيرة من هذه المنطقة خارج حدود دولة إسرائيل.
لم يعد العربي الإسرائيلي سلبياً، فقد انتقل إلى حالة التعبير الشوفيني عن قوميته، وإن كلامياً فقط في هذه المرحلة. وقد ظهر هذا في عدة أحداث هذه أبرزها:
أ) في أثناء زيارة رئيس الحكومة إلى الناصرة قبل سنة.
ب) الهتاف بشعارات تأييد لمنظمة التحرير الفلسطينية في أثناء التظاهرات والمناسبات الأخرى.
ج) موقف الطلبة العرب في الجامعات من موضوع الحراسة.
د) التعبير عن الشعور القومي عن طريق الاقتراع في انتخابات بلدية الناصرة التي جرت في 9/12/1975.
هـ) تطوع سكان الناصرة غير العادي وغير المتوقع لمساعدة بلدية الناصرة، بتسديد أقساط مستعجلة لخزينة البلدية، الأمر الذي يساعد حزب راكح، في هذه المرحلة، على تسيير إدارة المدينة.
و) اجتماع احتجاجي شعبي في قرية سخنين بتاريخ 14/2/75 وقد أعلن رئيس بلدية طمرة في هذا الاجتماع أن على إسرائيل أن تخشى عرب إسرائيل أكثر مما تخشى العرب خارج الحدود.
ز) القرارات التي اتخذت خلال اجتماع عقد في الناصرة يوم السبت 6/3/76 وهي:
1- إعلان الاضراب العام لدى سكان إسرائيل العرب ليوم واحد، وإعطاء ذلك اليوم اسم "يوم الأرض".
2- دعوة السكان العرب إلى عدم الاكتفاء بالاحتجاج السلبي بل "الاحتجاج عن طريق النضال، وانهاء النضال فقط في آخر الطريق ..."
3- الاضراب عن الطعام أمام مباني الأمم المتحدة بأسلوب الاحتجاج نفسه الذي يجرى بشأن سجناء صهيون.
4- قولهم أن "بيت الحكومة من الزجاج وعلينا أن نكون أول من يرميه بالحجارة لتحطيمه".
5- قول رئيس بلدية معليا – مسعد قسيس – المعتبر شخصاً "إيجابياً، وهو نائب سابق لقائمة تابعة للمعراخ في [اجتماع الناصرة المذكور]: "... ما هو حق إسرائيل المعنوي في مصادرة الأراضي في هذه المنطقة التي تقع بموجب قرار التقسيم من عام 1947، خارج دولة إسرائيل".
وتعتبر هذه الظاهرة جديدة نسبياً، وتشير إلى رغبة جزء مهم من السكان في الاحتجاج ضد الحكم الاسرائيلي ولو بنبرة منخفضة. وهذه حقيقة خطرة جداً مقابل سلوكهم في الماضي.
إن عهد انتصارات الفلسطينيين في العالم، وانجازات الشوفينيين في إسرائيل، يشيران إلى اتجاه نحو مواجهة مكشوفة مع المشكلة العربية في إسرائيل. ولسوف يزداد هذا الاتجاه حدة ما دام حزب راكح منفرداً في حمل لواء معارضة مؤسسة الحكم الاسرائيلية. (يجب أن نذكر هنا أن كلمة "إسرائيل" لا تظهر في اسم حزب راكح وليست هذه مجرد صدفة).
3. توقعات
أ) إن ازدياد السكان العرب (من 150,000 نسمة سنة 1948 إلى ما يزيد على 430,000 نسمة سنة 1975) يعطي الشوفينيين العرب إحساساً بالقوة والأمل، بأن الوقت يعمل لمصلحتهم. خصوصاً في منطقة كشمالي البلاد، حيث يتواصل الوجود العربي تواصلاً مادياً على مساحات واسعة مشكلاً حاجزاً مانعاً.
ب) تعطي سيطرة حزب راكح على مؤسسات "شبه حكومية"، كالمجالس المحلية، قاعدة شرعية لنشاطات قومية شوفينية سياسية علنية وسرية، من خلال تبني الأساليب التي كانت متبعة في التجمعات السكانية اليهودية "قبل تأسيس الدولة"، وتبني أساليب شيوعية مألوفة في العالم. والواقع أن هناك عدداً من المجالس المحلية التي باتت تقع تحت سيطرة راكح، وفي رأينا أن هذه المجالس غير مستغلة، عن سابق تعمد، للقيام بالوظائف المذكورة، بسبب غياب أطر كافية للتنفيذ، وبسبب فقدان الامكانات التنظيمية الكافية لذلك. وفي رأينا أن عدد الطلاب في جامعات أوروبا الشرقية الحاصلين على منح من راكح يتزايد باستمرار بغرض أعداد هذه الأطر.
ج) هناك خوف جدي من أن تنفذ، خلال العقد المقبل، عملية استيلاء عربية، من الناحية الديمغرافية والسياسية، على عكا ومنطقة الناصرة.
د) يجب الأخذ في الحسبان أنه قد يطلب في إحدى مراحل العمل السياسي المعادي بهذا الشكل أو ذاك، إجراء استفتاء عام في شمالي البلاد في الوقت الذي يشكل فيه العرب أكثرية السكان.
وسيحدث هذا العمل يتوجيه من الخارج، لكن القائمين به قد يكونون يساريين – شوفينيين من أوساط السكان العرب في الدولة.
هـ) قد يحدث في مرحلة معينة تنفيذ عمل استفزازي مخطط له عن طريق راكح و/ أو عن طريق عرب، لإحداث هيجان لدى عناصر يهودية غير منضبطة، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى عرض موضوع عرب إسرائيل على المنابر الدولية، ومن شأنه أيضاً أن يدفع المعتدلين من بين عرب إسرائيل إلى حالة يضطرون فيها إلى تأييد خطوات متطرفة داخل الدولة وخارجها.
و) بدأت تظهر عمليات منظمة لشراء العرب عقارات في مناطق الشمال، ويظهر ذلك بشكل بارز في الناصرة العليا وعكا، كما يظهر بشكل مثير للقلق في مرج ابن عامر.
4- اقتراحات
أ) يجب توسيع الاستيطان اليهودي وتعميقه في المناطق التي تبرز فيها الكثافة السكانية العربية، ويزيد فيها عدد السكان العرب على عدد السكان اليهود بدرجة تفوق الحد المقبول، ويجب درس إمكان تخفيف عدد السكان في التجمعات السكانية العربية القائمة.
يجب توجيه اهتمام خاص إلى مناطق الحدود في شمالي غربي الدولة ومنطقة الناصرة. ولا بد من أن يخرج التوجه وسرعة التنفيذ عن إطار المألوف وعما كان متبعاً تجاه هذه المواضيع حتى الآن. وبالمقابل لا بد من تطبيق قوانين الدولة بغرض تقييد "عمليات الاستيطان" العربية في أجزاء الدولة المختلفة.
ب) ولا بد من الاهتمام بإيجاد زعامة يهودية قومية وثابتة في الناصرة العليا [اليهودية] وفي عكا، قادرة على مواجهة التطورات الخطرة المتوقعة.
ج) اتباع سياسة الثواب والعقاب (ضمن القانون) بالنسبة إلى القادة والتجمعات السكانية التي تفصح عن عداء للدولة الصهيونية بأية صورة من الصور.
د) من أجل تجريد حزب راكح من "الريادة" في حمل لواء النضال القومي وتمثيل عرب إسرائيل، ولإعطاء متنفس للمترددين، فإنه يجب تأسيس حزب شقيق لحزب العمل، يتم التركيز فيه على مبادئ المساواة والإنسانية والثقافة واللغة والنضال الاجتماعي ورفع علم السلام في المنطقة. وعلى المؤسسات الحكومية أن تهيء نفسها من أجل أن يكون لها وجود خفي في هذا الحزب وأن تتحكم فيه.
هـ) يجب اتباع سياسة تنسيق كامل ومطلق بين الوزارات والهستدروت والسلطات المحلية خصوصاً في المستوى التنفيذي على الطبيعة والإصرار على التنفيذ بصورة صارمة.
و) بذل كل جهد ممكن من أجل التوصل إلى اجماع قومي بين كافة الأحزاب الصهيونية حول موضوع عرب إسرائيل، بغرض إخراج هذا الموضوع من مجال الصراعات السياسية الداخلية.
ب – الزعامة العربية وتأثيرها
1- إن المجتمع اليهودي الديمقراطي المفتوح، الذي وجد العرب الباقون في البلد أنفسهم فيه بعد قيام الدولة، لم يستوعبهم، لا لجهة نمط التفكير، ولا لجهة التقاليد والانفتاح. ثم إن اليهود الذين أوكلت إليهم مهمة إدارة شؤون هؤلاء السكان العرب، بهدف جعلهم مخلصين للمجتمع اليهودي الذي قام في دولته، لم يفلحوا في إنجاز ذلك. وعلى العكس، هناك، من جانب، دلائل واضحة على أن كل الخطوات أتبعت من أجل الحفاظ على طابعهم المميز وعزلهم، وبالمقابل كانت محاولات لتلقي الاهتمام بصورة انتقائية، والحصول على معاملة عطوفة ومميزة.
ومع ذلك سمعنا، صباحاً ومساءً، تصريحات عن المساواة والاندماج وغير ذلك، ولكن الأفعال كانت مناقضة تماماً. فلم تأخذ هذه السياسة في الحسبان، الطبيعة العربية الشرقية السطحية غير المتعمقة والتي تتميز بعمل الخيال أكثر من عمل العقل.
والتعبير الحاد لهذه السياسة المتناقضة هو "تتويج" ممثلين وزعماء للسكان العرب. وحتى اليوم لا يوجد أي مسؤول عربي "إيجابي" منتخب على المستوى المحلي.
يمر المجتمع العربي في إسرائيل بمخاض الانتقال من مجتمع زراعي ذي أسس مترسخة منذ أجيال إلى مجتمع صناعي، وإلى تحطيم الأطر العائلية والدينية والاجتماعية، وبالاضافة إلى ذلك يعاني الضياع القومي.
ويتميز هذا الضياع بالخطورة، ويضع كل فرد أمام قرارات حاسمة وأحياناً مصيرية. وفي هذه المراحل، يحتاج مجتمع فترة الانتقال إلى قادة قادرين على أن يكونوا نموذجاً شخصياً، وأن يمتلكوا الصفات التي تمكنهم من الإجابة عن أسئلة المرتبكين المخلصين، وسوقهم إلى الحل المعقول على الصعيد الشعبي والشخصي.
ولكن كما ذكرنا في المقدمة، لم يكن هذا الاختبار هو الأساس للحصول على شهادة "زعيم" بل أن الشخص العنيف ذا السطوة، الذي قلما يكون إنساناً مستقيماً، هو الذي يصبح ممثلاً لرافعي لواء عرب إسرائيل.
2- إن الجيل الثاني الذي تربى في المجتمع الإسرائيلي، ويحاول أن يكتسب، ولو بصورة سطحية فقط، أساليب الحياة الإسرائيلية، لا يستطيع تقبل هؤلاء الزعماء. لقد كان من الممكن ملاحظة علامات على ذلك منذ عشر سنين، وكان على المسؤولين المختصين بهذه المواضيع، أن يخلقوا شخصيات مقبولة من الجيل الثاني، وأن يخلقوا مع ذلك إخلاصاً بجاه الدولة. وفي رأينا أنه إذا كان هذا التقصير قد نجم عن عجز أو تعمد، فإن نتائج ذلك قد تنطوي على كارثة. إن أحد الدوافع الأساسية للتردي الراهن هو التحفظ على هذه الزعامة ( أنظر انتخابات بلدية الناصرة).
3 – توقعات
أ) سوف يتصاعد الصراع بين ذوي المناصب المختلفة والجيل المتمرد، بينما سيكون الأوائل معتمدين في الأساس على الأجهزة الحكومية والهستدروتية والحزبية.
ب) ستكون النتيجة أن الصراع على السلطة والمنصب سيتحول إلى صراع ضد مؤسسة الحكم والدولة، وستنتقل الأكثرية باستمرار إلى جانب المتمردين.
ج) سوف تستغل العناصر المعادية للدولة هذه الأزمة الاجتماعية بشكل واسع، وستجيرها لمصالحها، وستستغل انعكاسات ذلك كله من على منابر مختلفة في الداخل والخارج باعتباره نضالاً اجتماعياً وقومياً.
د) في رأينا، إذا استمر التدهور على الوتيرة الحالية، فسينجح حزب راكح بعشرة نواب في الانتخابات المقبلة للكنيست.
4 – اقتراحات
أ) يجب اتخاذ خطوات جريئة يجري بموجبها تغيير معظم العاملين في القطاع العربي، التابعين للأجهزة الحكومية والشرطة والأحزاب، بمن في ذلك واضعي السياسة.
ب) يجب التخلص من "الزعامة" العربية الحالية التي لا تمثل السكان العرب، وتأكيد عدم تضامن الحكم معها.
ج) على أولئك الذين ستوكل إليهم المهمة، البدء مباشرة بتكوين شخصيات جديدة ذات مستوى ثقافي واستقامة شخصية، وتتمتع بمواهب قيادية، ومساعدتها على تأسيس حزب عربي كما ذكرنا أعلاه.
د) يجب تعيين لجنة خاصة (من الاستخبارات العامة) مهمتها رصد السلوك الشخصي لقادة راكح والشخصيات السلبية الأخرى، ونشر هذه المعلومات أمام جمهور ناخبيهم.
هـ) اتخاذ خطوات فردية ضد كل شخصية سلبية في كل المؤسسات والمستويات.
ج – الاقتصاد والعمالة
1- شمل النمو والرخاء الاقتصادي اللذان عرفهما سكان الدولة خلال سنوات وجودها السكان العرب أيضاً. وفي الحقيقة يبرز هذا الأمر بشكل واضح، في ضوء كون معظم الذين بقوا في حدود الدولة بعد معارك 1948 – 1949 هم من الفقراء. إن الفارق الشاسع بين العرض والطلب على الأيدي العاملة في الاقتصاد بكل فروعه، خصوصاً فرع البناء وورش إصلاح السيارات وكل الأعمال اليدوية بشكل عام، واعتماد فروع اقتصادية كثيرة، على هذه الأيدي العاملة، أعطيا شعوراً بالقوة لعرب إسرائيل، الأمر الذي استغلته الجهات المهتمة بذلك.
2- أدت المساعدة المتبادلة المألوفة حتى اليوم بين أفراد العائلة، وعدم وجود وعي بشأن توظيف المال في مشاريع انتاجية أكبر من المشاريع متوسطة الحجم، إلى تراكم فائض أموال نقدية كبير جداً في أيدي السكان العرب، وقد جرى إخفاؤه عن سلطات الضرائب المختلفة. ويجب التأكيد على أنه بينما يشكل عدد السكان العرب 14 % ولا تحصل لديهم ظاهرة "اقتلاع" الأيدي العاملة عن طريق التجنيد للخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات، فإن مجموع الضرائب التي يدفعها السكان العرب هو 1,5 % فقط. وهكذا يؤمن السكان العرب بصورة أساسية، مستقبلهم الاقتصادي. كذلك فإن تركيب الأعمار (نصف السكان شباب عامل) له مدلول مهم: دخل عال لكل عائلة. وبالإضافة إلى ذلك هناك منح حكومية (التأمين الوطني) للعائلات التي يزيد عدد أولادها عن الاثنين (95 % من العائلات العربية في إسرائيل).
3- هناك موضوع بارز بشكل خاص في المنطقة الشمالية، بسبب التجمع السكاني العربي الكبير فيها، وهو المشاريع التي تقيمها الدولة في المنطقة وتستثمر فيها أموالاً ضخمة بغرض زيادة عدد السكان اليهود. وعملياً يصل عدد العمال العرب في هذه المشاريع إلى نسبة تتراوح بين 25 % و 50 %.
هذه الطمأنينة الاجتماعية والاقتصادية، تحرر الفرد والعائلة من القلق والهموم اليومية، وتمنحهم من حيث يدرون أو لا يدرون متسعاً من الوقت للتفكير في أمور "اجتماعية – قومية". وهذه الأفكار تستغلها عناصر معادية لتوليد ظواهر الغليان والتذمر على أنواعها ولخلق شعور بالقوة وبوجود إمكانات الاحتجاج الشعبي.
4 – توقعات
أ) تجميع الأموال، وخصوصا السوداء منها [المهربة من الضريبة – المترجم] في أيد غير مرغوب فيها، وهي تقدر بمئات الملايين، وبالإضافة إلى الضرر الاقتصادي الناجم عن ذلك، قد تشكل هذه الأموال أساساً للتبرعات التي تجمعها عناصر معادية (ذكرنا كيف جرى التطوع لدفع الأقساط لبلدية الناصرة).
ب) قد تؤدي كثرة عدد العمال العرب في المصانع والمشاريع، إلى تسريع عملية الاحتكاك بين اليهود والعرب، ومن شأن ذلك أن يتطور إلى اصطدامات غير مسيطر عليها وبالإضافة إلى ذلك هناك احتمال سيطرة حزب "راكح" على لجان العمال.
ج) إن تركيز السيطرة على قطاعات اقتصادية معينة، يمكن العرب من الاضراب أو عدم التعاون، مما سيؤدي إلى أضرار اقتصادية بالغة للدولة، وسيؤدي، خصوصاً، إلى أضرار سياسية عن طريق إبراز وزنهم كعامل مهم في اقتصاد الدولة.
د) هناك صعاب آخذة في التفاقم بالنسبة إلى استيعاب مستخدمين يهود، خصوصاً في الشمال حيث يتركز الاهتمام على زيادة عدد السكان اليهود على أنواعهم.
5 – اقتراحات
أ) يجب وضع اتفاقات ملائمة مع كل إدارة مشروع أو معمل خاضع ل "قانون استثمار رأس المال" في المناطق الحساسة (كما ذكرنا أعلاه) فلا يزيد عدد العمال العرب فيها على نسبة 20 %.
ب) على سلطة الضرائب اتخاذ خطوات سريعة لتوسيع الجباية وتنفيذها بصورة صارمة ودون أي استثناء.
ج) يجب التوصل إلى تسوية مع مصادر التسويق المركزية للمواد الاستهلاكية على أنواعها، يكون من شأنها تحييد الوكلاء العرب ووضع العقبات أمامهم، خصوصاً في منطقة الشمال، لمنع اعتماد السكان اليهود على الوكلاء العرب، سيما في أوقات الطوارئ.
د) على الحكومة إيجاد طريقة يمكن بواسطتها تجنب إعطاء المنح للعائلات عديدة الأولاد لدى السكان العرب أما بربط المنحة بالوضع الاقتصادي، أو مصادرة هذه الأموال من التأمين الوطني وإعطائها للوكالة اليهودية أو المنظمة الصهيونية، لتكون مخصصة لليهود فقط.
هـ) العمل لإيجاد وضع تهتم فيه تهتم فيه المؤسسات المركزية بمنح الأولوية للأطر والأفراد اليهود مكان العرب.
د - التعليم
1- إن أهم تغيير بارز في مفاهيم السكان العرب وسلوكهم يعود إلى تعميق شبكة التعليم وتوسيعها في وسطهم.
إن التحسن في الوضع الاقتصادي والأمن الاجتماعي لدى الفرد والعائلة، دفع عدداً كبيراً من الطلبة إلى المدارس الثانوية ومعاهد الدراسة العليا. وأدى هذا الاتجاه إلى تطبيق رسم التعليم المتدرج (66 %) في المدارس الثانوية. إن الدعم المالي وسياسة المنح لطلبة الجامعات اللذين خلقا مجتمعاً طالبياً مثقفاً ولو بصورة سطحية وريفية، يشكلان "الخميرة" لكل حركة قومية، خصوصاً في ظروف كظروف عرب إسرائيل. هذا هو الوضع الحاصل (أنظر أحداث الجامعات). لقد كان على المسؤولين في هذا القطاع توقع هذه الاحتمالات. وينبغي من الآن فصاعداً التخطيط الدقيق من أجل التنسيق بين الأجهزة المختلفة، والقيام بالنشاطات الواجبة إزاء جماعات الخريجين على أنواعهم.
2- وضع أسس تفضيلية (علامات منخفضة) لقبول الطلبة العرب في مختلف الجامعات والمعاهد العليا والمواضيع التي يتوجهون إليها (الآداب، العلوم السياسية، علم الاجتماع) وكذلك عدم الاهتمام بهم واستحالة إيجاد إمكانات لاستيعابهم في العمل، كل ذلك أدى إلى وجود مجموعة كبيرة من المثقفين المتذمرين ممن يحسون بحاجة نفسية عميقة تدفعهم إلى البحث عن متنفس لتذمرهم. ويجد هذا التذمر تعبيره في معاداة مؤسسة الحكم الاسرائيلية والدولة.
وتتخذ هذه المشكلة طابعاً خطراً جداً إذا ما أخدنا بعين الاعتبار أن عدد الخريجين يزيد على 5700 خريج، وأن عدد الطلبة العرب في المعاهد العليا اليوم يصل إلى نحو 2500 طالب.
3- توقعات
أ) سوف يتعمق الشعور بالتذمر، كما سيستمر ازدياد عدد الخريجين المتذمرين في الوقت نفسه، وذلك بسبب صعوبة الاعتراف الموضوعي بالتخلف المهني.
ب) عند أخذ الطبيعة الشرقية بعين الاعتبار، وبسبب الدينامية الاجتماعية، فإن هذا المجتمع سينتقل من الانكفاء على الذات إلى التعبير الخارجي، ويجب أن لا نتجاهل إمكانات التنظيم والانتقال إلى العنف، فقد أصبحت الدلائل الأولية على ذلك قائمة.
ج) رفع لواء النضال الاجتماعي والشوفيني والتأييد العلني لمنظمة التحرير الفلسطينية وحتى لمنظمات أكثر تطرفاً.
د) هناك احتمال معقول لنجاح بعض القادة على أساس أنهم أبناء المجتمع المحلي التقدمي الذي نشأوا فيه، وما من شك في أن بعض هؤلاء سيتمتع بكفاءات قيادية.
هـ) يجب عدم تجاهل الصعاب التي ستواجه الحكومة عندما تريد اتخاذ التدابير ضدهم في الأوقات الحرجة وذلك بسبب مستواهم الشخصي.
4 – اقتراحات
أ) يجب الاحتفاظ بمقاييس موحدة بالنسبة إلى اليهود والعرب إزاء قبول الطلبة في المعاهد العليا، وكذلك بالنسبة إلى إعطاء المنح الدراسية.
وسينشأ عن الحرص على هذه القواعد الموحدة انتقاء طبيعي يقلل بشكل كبير عدد الطلاب، والخريجين ذوي المستوى المنخفض، مما سيسهل إمكان استيعابهم في أعمال بعد انهائهم الدراسة.
ب) يجب تشجيع توجيه الطلبة إلى المواضيع التقنية والمواضيع الأساسية وعلوم الطبيعة، لأن مستوى الرسوب فيها مرتفع، كما أنها لا تسمح إلا بالقليل من الوقت للاهتمامات القومية.
ج) تسهيل سفرهم إلى خارج البلاد بغرض التعليم، ووضع العراقيل في طريق عودتهم وانخراطهم في العمل، فمن شأن مثل هذه السياسة أن تشجع هجرتهم.
د) اتخاذ تدابير صارمة على كافة المستويات، ضد المحرضين على أنواعهم في أوساط المعاهد العليا.
هـ)إعداد خطة مسبقة لاستيعاب القسم الأكبر من الخريجين بحسب مؤهلاتهم. ويمكن تطبيق هذه السياسة، بحسب المهلة التي يخطط بها المنقذون لخطواتهم (عدة سنوات).
هـ - فرض القانون
1- إن وجود القانون وتطبيقه بواسطة السلطة يعبر عن المصلحة الشعبية للمجتمع وتفضيلها على مصلحة الفرد. وفي إطار هذا الموضوع يكون الحرص على الأمن الداخلي بكل ما ينطوي عليه من معان، هو بمثابة مصلحة قومية ومبدأ يهودي سام.
إن تطبيق قوانين الدولة في مجتمع يجري بناؤه، كما هو الحال في إسرائيل، إنما هو مشكلة يجب من أجل حلها اتخاذ جانب اللين والحذر ومنتهى الحكمة، ولكن إلى جانب ذلك على السلطة التنفيذية العاملة في القطاع العربي أن تؤكد مراعاة القانون وتطبيقه ومنع التدهور.
ولقد سبق أن نوهنا بالأساليب التي اتبعت مع السكان العرب، وبالازدواجية التي غلبت على الخطوات المتخذة بصددهم. ولدى السكان العرب الآن وعي أساسه بعض الوقائع التي تفيد بأن بإمكان المرء أن يزوغ من قوانين الدولة إذا ما أقام العلاقات الملائمة مع الأشخاص الملائمين. وبالإضافة إلى ما تسببه هذه العادات من ضرر بالمصلحة العامة، فإن العرب الاسرائيليين ينظرون إليها كعلامات ضعف في الحكم الاسرائيلي، مما يجعلهم يتوقعون المزيد من التنازلات، فيما إذا مارسوا المزيد من الضغط (النماذج على ذلك كثيرة).
2- من الصعب إيجاد تفسير مقبول للجباية المنخفضة لكافة أنواع الضرائب، لدى السكان العرب مقابل ما يجبى من السكان اليهود. كما هو الحال بالنسبة إلى البناء غير القانوني. إن عدم مراعاة القانون في هذا المجال قد يؤدي إلى إلحاق أضرار خطرة بالأمن الداخلي في مناطق واسعة في شمالي البلاد وكذلك في المنطقة الوسطى منها.
يجب أن نتذكر وأن نتعلم من تجارب دول أخرى ذات أقليات قومية، أن الليبرالية الزائدة وغير المراقبة لا تؤدي إلى الهدف المطلوب بل إلى العكس. ولا تنطبق هذه القاعدة على مجتمع كانطباقها على مجتمع الأقلية العربية في إسرائيل (كما فصلنا أعلاه).
3- توقعات
أ) ينتج عن انتهاك القانون في مجتمع قائم على القانون، دينامية انتهاك يتطلب وقفها فيما بعد جهوداً مضنية.
ب) لا بد من لفت الانتباه إلى أنه مع الوقت، قد يؤيد يهود كثيرون، بسبب دوافع مختلفة، مجتمعاً يخالف القوانين. وإذا ما حاولت السلطة إجبارهم على تطبيق القانون فإنهم سيتهمونها بـ "الاضطهاد".
ج) يجب عدم تجاهل نسبة السكان العرب البالغة 14%، إذ أن مخالفة هذه النسبة من السكان للقانون قد تتخذ طابع "التمرد".
د) قد تثير أطراف معادية داخل الدولة وخارجها، موضوعة أن تطبيق القوانين التي لم تطبقها السلطات خلال فترة طويلة، إنما تعتبر ضرباً من الاضطهاد القومي وغير ذلك.
4- اقتراحات
أ) يجب ارشاد كل العاملين في القطاع العربي إلى عدم التغاضي عن مخالفة القوانين وعلى وجوب تطبيقها كما جاءت في النص الحرفي.
ب) يجب اتخاذ تدابير قضائية ضد موظفي الدولة والمؤسسات الأخرى الذين لا يؤدون واجبهم في تنفيذ القوانين.
ج) تقديم دعاوى وتنفيذ عدد من الأحكام خصوصاً في مواضيع ضريبة الدخل والبناء غير القانوني لكي يرتدع السكان العرب عن التفكير في إمكان التهرب من السلطات القانونية.
د) يجب تعزيز وجود قوات الشرطة والأمن على أنواعها في الشارع العربي، من أجل ردع أوساط متطرفة و "محايدة" قد تنجر إلى أعمال التمرد والتظاهرات.
...بعد 30 آذار/ مارس
اقتراح رقم 2
1- تتمة لمذكرتي السابقة، وفي ضوء تطورات وأحداث يوم الثلاثين من آذار وما أعقبه، أرى من واجبي تحليل ذلك وتقويمه، وعرض التوقعات المحتملة في المستقبل القريب، وعرض عدد من المقترحات التي أرغب في تنفيذها عاجلاً.
إن النجاح الكلي للإضراب في القطاع العربي هو حقيقة يجب درسها جيداً وأخذها كحقيقة قائمة وكمنطلق لكل بحث في هذا الموضوع.
لقد كان لنجاح الاضراب وحجمه عدة أسباب يجب الوقوف عليها وهي:
أ) يستحيل تحديد نسبة أو عدد العرب الذين حضروا إلى العمل خارج أماكن سكناهم.
مع ذلك فإن الاضراب كان كاملاً داخل القرى والمدينتين، التي يتركز فيها السكان العرب.
ب) كانت سيطرة منظمي الاضراب على مؤسسات التعليم بكافة أنواعها في القطاع العربي، بما في ذلك المؤسسات الكنسية، مطلقة.
ج) بدأت حملة الاقناع بضرورة الاضراب، من جانب مصادر "رسمية" كرؤساء مجالس محلية وشخصيات عامة تعتبر عادة معتدلة ومتعاونة مع السلطة الاسرائيلية. ولا بد من الاعتراف بأن هذه الأوساط فعلت ما فعلته بتأثير الانطباع المتكون لديها بأن موظفين حكوميين كباراً يقفون إلى جانبها، وأن "تدخل" السكان العرب سيقنع الحكومة بأن تمتنع عن تنفيذ المصادرة [مصادرة الأراضي]. وقد تنافسوا، لهذه المناسبة، على إطلاق التصريحات المتطرفة مفترضين أن من يكون كلامه أقوى ستكون مكاسبه أكبر.
د) في مرحلة متأخرة جداً، وبعد أن اكتشفوا خطأهم، لم يستطع الزعماء الرسميون العرب – أي رؤساء المجالس المحلية وغيرهم – التراجع، إذ أن التدهور الذي تسببوا به جرفهم هم أيضاً. إن محاولات اليهود الحيلولة دون الاضراب لم تنجح. وأدت إلى تباين عميق بين السكان العرب وممثليهم المنتخبين بمجرد حدوث الاضراب والأحداث التي رافقته.
هـ) قام منظمو الاضراب بحملة إرهاب شديدة ضد مخالفي الاضراب وصلت إلى جد استعمال العنف ونجحوا في ذلك. كما أن وعود السلطة بتأمين حماية كاملة لكل من يخالف الاضراب لم تكن موثوقة وامتنع السكان عن الاعتماد عليها.
2- مع أن الاضراب بكل ما سبقه ورافقه خطط له ونظم على يد راكح، فإن الحزب حرص على عدم إبراز نفسه في هذا الدور بغرض الامساك بزمام القيادة عملياً في أوساط الفاشيين، وحتى يصبح في الوقت نفسه القائد لكل نشاط فاشي عربي في أوساط عرب إسرائيل، في المستقبل.
ولا بد من الاهتمام بهذا الموضوع ودراسة دوافعه وعناصره:
أ) إن حركة منظمة التحرير الفلسطينية، التي تشكل حركة تحرر قومي لعرب فلسطين، لم ترسم في برنامجها أهدافاً اجتماعية، فعدا جناح صغير وهامشي – جماعة جورج حبش – لا يوجد أي جناح يهتم بهذه المواضيع جدياً أو يشملها بتصريحاته.
ب) دفع الحزب جماهير غير منتمية له إلى صدام علني وعنيف مع قوات الأمن، والتسبب بأكبر عدد ممكن من الاصابات بين الجمهور، بغرض خلق مشاعر الحقد والنقمة لدى السكان، وتوتير السلطة تجاه السكان المعادين.
ج) هناك عملية تقليدية ومألوفة لدى حركات التحرر في آسيا وأفريقيا، وهي الربط بين النضال القومي والاجتماعي، مما يساعد على تجنيد الجماهير لمتطلبات النضال، وعلى تأييد الرأي العام العالمي. ومن البديهي أن هناك دولاً وكذلك دولة عظمى ذات توجه معين تجد نفسها متورطة ولو على سبيل الدعاية فقط في كل نضال يجري تحت هذه الشعارات.
في ضوء ما تقدم يجب توجيه الاهتمام الجدي لهذه الاتجاهات وللظواهر التي قد تنجم عن خلق هذا التجانس بين الرأي العام العالمي والسكان العرب. لذلك سيستمر راكح، في اعتقادي، باتخاذ مثل هذه الخطوات خصوصا تحت قناع شوفيني.
3- يجب تأكيد عدة مكاسب مهمة للشوفينية العربية التي يقودها راكح، نتيجة يوم الاضراب والمشاغبات التي سبقته ووقعت فيه:
أ) لقد حدث أول مرة منذ قيام الدولة، وضع تضامن فيه كل السكان العرب في إسرائيل عن وعي وبصورة علنية خلافاً لطلب الحكومة – مع مطلب سياسي – شوفيني عربي متطرف، وأظهروا استعداداً نفسياً للعمل من أجل تحقيقه. بالإضافة إلى ذلك أيد معظم السكان العرب ويؤيدون الآن أيضاً من قاموا بأعمال الشغب وهاجموا قوات الأمن، وهم يتضامنون معهم علناً ويصرحون بذلك على الملاء.
ب) لقد استعمل عدد كبير من المجالس المحلية ورؤسائها كوسائل وأدوات من أجل تطوير النضال وتسييره، وحتى أولئك الرؤساء الذين لم ينضموا إلى المتطرفين في المرحلة الأخيرة بفعل الضغوط، لم يعلنوا عن معارضتهم للإضراب بل طلبوا تأجيله لفترة ما، بغرض استخدام التهديد بالإضراب كوسيلة ضغط على الحكومة لكي تخضع لمطالبهم.
ج) لقد نجح الشوفينيون وحزب راكح في تحريض الجماهير وتوريطها في صدام عنيف مع قوات الأمن، مما أدى إلى خلق رواسب عميقة وخطرة لفترة طويلة. ومما يدل على التخطيط الدقيق للمنفذين، أنه رغم الهيجان الذي أصاب الجمهور، نجح المخططون في إخراج المنظمين من الصدام العنيف، وفي المحافظة على سلامتهم الجسدية، وكذلك من الاعتقالات التي اعقبت الصدام.
د) إن أعمال العنف العلنية، على الرغم من النتائج المريرة التي جلبتها للسكان، فإنها ملأتهم عزة وكبرياء. إنهم يعتزون بأنه كانت لديهم الشجاعة للتصادم مع القوات الرسمية للدولة. ويجب ألا ننسى أن مثل هذا الاحساس لدى سكان كعرب إسرائيل، وفي الجو الذي يعيشون فيه، هو إحساس يعطي إمكانات كبيرة لاخصائيي الدعاية من أجل رد الاعتبار "للكرامة العربية الممتهنة" لعرب إسرائيل.
هـ) لقد تدعمت القوة السياسية التي يملكها الشوفينيون العرب، والتي سيستخدمها حزب راكح لخدمة أهدافه ومعاركه السياسية المقبلة كما بينا أعلاه.
و) لقد أدى الاضراب وأعمال العنف إلى عزل تلك الزعامة العربية الرسمية (المنتخبة) ورؤساء المجالس المحلية الذين لم ينضموا إلى الاضراب أو اقترحوا تأجيله لأن ذلك الاضراب جرى بصورة كاملة ضد القرار الذي اتخذ في اجتماع شفا عمرو. بهذا جرى تسليم الجمهور العربي النشيط، وخصوصاً الشباب منه، إلى أيدي راكح، ومدبري الاضرابات من الشوفينيين.
هنا لا بد من التساؤل هل كان من الحكمة السياسية على المدى الطويل ممارسة الضغط على رؤساء المجالس المحلية في اجتماع شفا عمرو لكي يتصرفوا كما تصرفوا. لا بد من دراسة هذا الموضوع بكل تأكيد واتخاذ القرارات الملائمة. إن النجاح التاريخي الذي حققه المنظمون وما يمثلونه هو التوحيد المطلق لعرب إسرائيل الذي تم في "يوم الأرض"، وكذلك الهوة العميقة التي نجحوا في إيجادها كنتيجة لذلك بين السكان اليهود والعرب. لقد نتج عن هذه الهوة، وسينتج عنها، انعكاسات حادة سواء على صعيد السكان اليهود أم العرب. وما من شك في أن جهات معادية ستستغل ذلك الأمر.
ز) ترك الاضراب انطباعاً قوياً لدى المعامل ومؤسسات الخدمات، بأن حسن سير الاقتصاد يعتمد على الأيدي العاملة العربية، وفي الوقت نفسه أثبت للسكان العرب حيويتهم بالنسبة إلى الاقتصاد الذي يديره يهود. وقد استغل هذا الأمر أيضاً، وسيستغل في المستقبل، من أجل خلق مشاعر "الكرامة العربية" التي لا بد أن يستثمرها عرب إسرائيل ويستغلونها.
4- توقعات
أ) تمنح الظروف والمعطيات التي تكونت في "يوم الأرض" وبعده حزب راكح والشوفينيين إمكانات كبيرة لإثارة الشغب في الدولة ولخلق عدم الاستقرار والتوترات الطائفية. وبيدو بديهياً أنهم سيعودون إلى استخدام التكتيك نفسه والشعارات نفسها من أجل إلهاب حماس الجماهير وإخراجها إلى الشارع في كل وقت يريدون.
ب) سوف تتعزز حملة التخويف فتصل إلى التهديد واستعمال القوة ضد العرب المتعاونين مع السلطة بغرض إسكات أية معارضة أو إجهاض أية أصوات معتدلة.
ج) في ضوء الأصداء التي خلفتها الاصطدامات الأخيرة في الشارع العربي سوف تدفع الجماهير إلى الشارع لغرض واضح: الاصطدام مع قوات الأمن والعمل لإيقاع أكبر عدد من الاصابات بين المواطنين من أجل خلق روح الثأر لدى السكان تجاه قوات الأمن، ومن أجل إحداث أصداء في العالم بخصوص عدم الاستقرار في إسرائيل واضطهاد السلطات الاسرائيلية المحتلة للسكان العرب.
د) وستعزز الاصطدامات الأخيرة شعور التضامن لدى عرب إسرائيل مع المتضررين الأمر الذي سيؤدي إلى خلق منافذ يتم الدخول عبرها إلى أوساط كانت مترددة حتى الآن في الوقوف إلى جانب المناضلين.
وبصورة عامة فإن مثل هذه النشاطات سوف تؤدي إلى التطرف وتدهور الوضع. ويجب التذكير بأن النظرية السائدة لدى هذه الأوساط تقول أن الوضع الحالي سيء بالنسبة إلى عرب إسرائيل. وفي حالة عدم الاستقرار الشامل في الدولة فإن إمكان التغيير، وعلى المدى البعيد وربما المنظور، لا يمكن إلا في تفكك إسرائيل من الداخل وفلسطنة الدولة.
هـ) يجب أن نأخذ بعين الاعتبار، كأمر بديهي، أن منظمة التحرير الفلسطينية أو قسماً ممن يشكلونها سيعمد إلى تحليل عمليات التطرف هذه، مع أن التحريك على الطبيعة سيقوم به راكح سيعمل أعضاؤه من وراء الستار وبصورة غير منظورة. وسيتركز الثقل الأساسي لهذه الأعمال على الشوفينيين من بين السكان العرب في إسرائيل، خصوصاً فئات المثقفين الذين يتوقون إلى العمل لإثبات "عروبتهم" واستعدادهم للنضال ضد الحكم الاسرائيلي.
و) إن الهوة التي خلقتها الأحداث الأخيرة بين السكان اليهود والسكان العرب ستستغل استغلالاً كاملاً، وسيذل كل جهد لتعميقها وتوسيعها. ولا بد من أن نأخذ في الحسبان أنه ستنفذ من أجل تحقيق هذا الهدف، عمليات استفزاز من كافة الأنواع بما في ذلك الاضرابات والتظاهرات وأعمال العنف وحتى عمليات التخريب (مع المساهمة بعمليات تخريب معادية). وفي رأيي أنه في الاصطدامات المقبلة ستستعمل الأسلحة النارية على نطاق واسع وذلك لخلق مرسومة وخطرة لتعميق الهوة المذكورة.
ز) هناك أيضاً إمكان لإقامة تنظيم شوفيني ذي توجه غربي، يسعى إلى أن تؤيده في نضاله، دول وأوساط معادية لليسار في العالم.
ح)سوف تتصاعد عملية السيطرة والتغلغل في المجالس المحلية من أجل استخدامها في أغراض الدعاية والتغطية والتمويل والظهور بمظهر التمثيل الواسع. ولقد أثبتت هذه الوسيلة في "يوم الأرض" نجاحها الكامل في خدمة الأغراض المذكورة.
5- وفي ضوء التدهور السريع والتوقعات التي فصلتها في مذكرتي السابقة وفي هذه المذكرة اقترح ما يلي:
أ) المباشرة بإقامة لجنة فكرية لكي تقترح على الجهات المقررة ثلاث خطط عمل:
1- للمدى السريع
2- للمدى المتوسط
3- للمدى الطويل
ب) يجب المباشرة حالاً بإقامة لجنة تنسيق وزارية على مستوى المديرين العامين يشرف عليها وزير تعينه الحكومة لهذا الغرض ويساعده مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية.
ج) بما أن وزارة الداخلية هي قناة الاتصال الرسمية والعملية والرئيسية مع المؤسسات الرسمية والمنتخبة عند السكان العرب اقترح أن يترأس لجنة التنسيق المشكلة من مديرين عامين، مدير عام وزارة الداخلية.
المصدر: مجلة "شؤون فلسطينية" العدد 60 – بعد مراجعة النص الأصلي في صحيفة "عال همشمار"، ومقابلته بالترجمة الإنكليزية.