على مدار فترة الانتداب، وضعت السلطات البريطانية في فلسطين نظاماً قانونياً جزائياً يهدف إلى منع التنظيم السياسي الفلسطيني، وتقليل الإنفاق الحضري والقوة البشرية البريطانية، وتسهيل مرونة المسؤولين الاستعماريين من خلال منحهم سلطات واسعة للعمل "الوقائي" وفرض العقاب الجماعي. وعلى غرار البيئات الاستعمارية الأُخرى، غالباً ما كان يتم وصف السياسات المبنية على هذه الأهداف بأنها تتماشى مع التقاليد المحلية، أو أنها تشكل ردوداً "طارئة" استلزمت التعطيل الموقت لنظام جزائي هو مستنير في الأصل. وفي الواقع، عندما حل قانون عقوبات جديد محل قانون الجزاء العثماني في سنة 1937، كان هذا القانون الأخير قد تم تعديله من خلال تشريعات بريطانية متتابعة أُدخلت عليه، إلى درجة أنه أصبح يشبه إلى حد كبير القوانين المرعية في المستعمرات البريطانية الأُخرى أكثر مما يشبه القوانين التي واكبها مسؤولون عثمانيون. وفي أغلب الأحيان كانت هذه التعديلات الجوهرية التي أدخلتها السلطات الانتدابية على القانون الجزائي في فلسطين الانتدابية ردوداً مباشرة على التعبئة الفلسطينية المناهضة للاستعمار، مثل التوسيع المتواصل لصلاحيات الشرطة، والتشديد المتصاعد للعقوبات، الأمر الذي شكّل النموذج الذي سوف تتبناه دولة إسرائيل مع الفلسطينيين بعد سنة 1948.
تم وضع الأساس لنهج بريطانيا في مراقبة الفلسطينيين في أوائل عشرينيات القرن العشرين، حتى قبل دخول "
عزز
أصبح قانون العقوبات المشتركة بصورة خاصة وسيلة متعددة الأغراض في أيدي سلطات الانتداب. وعلى الرغم من أن تطبيقه كان يقتصر أصلاً على "المناطق القروية والقبلية"، فقد تم تعديله في سنة 1928 كي يُطبّق على المناطق البلدية أيضاً. فكان يكفي السلطات أن تعلن على العموم إضافة قرى معينة أو مناطق قبلية أو أحياء بلدية محددة إلى "جدول" المواقع الخاضعة للعقاب الجماعي. وفي أيلول/ سبتمبر 1929، عندما هزّت
أدت انتفاضة البراق سنة 1929 إلى عدد من التغييرات الشاملة في النظام القانوني للانتداب، كان في مقدمها تبني
خلال الثورة الفلسطينية الكبرى
1936-1939، لجأت السلطات البريطانية مجدداً إلى المرسوم الملكي للدفاع عن فلسطين، الذي استكملته أيضاً بمراسيم ملكية أعطت الإدارة المدنية في فلسطين صلاحيات موازية لتلك الممنوحة للجيش في حالات الأحكام العرفية. وفي نيسان/ أبريل 1936، أعاد المندوب السامي العمل بالمرسوم الملكي للدفاع عن فلسطين لسنة 1931، فأصدر عدداً من أنظمة الطوارئ التي سمحت لحكومة الانتداب بفرض حظر التجول، وفرض الرقابة على المواد المكتوبة، واحتلال المباني، والقيام باعتقالات من دون مذكرات توقيف، وترحيل الأفراد من دون محاكمة. واستمر البريطانيون في استخدام الوسائل القانونية المتاحة، سواء أذن بها المرسوم الملكي أو تم سنّها في مراسيم صادرة عن المندوب السامي، لقمع النشاط السياسي والنضالي، ومعاقبة الفلسطينيين المشتبه في مشاركتهم في الثورة الناشئة أو دعمها. وقد دار سجال بين المسؤولين البريطانيين في فلسطين ولندن بشأن فرض الأحكام العرفية في فلسطين، وعكست الحجج المتبادلة بينهم الصراع على السلطة بين القيادتين المدنية والعسكرية البريطانيتين في فلسطين، لا القلق بشأن الحقوق القانونية للفلسطينيين. وفي نهاية أيلول/ سبتمبر 1936، طرحت الحكومة البريطانية
بين المرحلتين الأولى والثانية من الثورة، عقب الدعوة إلى إنهاء الإضراب العام ووصول
خلال الحرب العالمية الثانية
، وفّرت التعبئة الناتجة من حالة الحرب للسلطات البريطانية المبررَ للحفاظ على صلاحيات الشرطة الموسعة وللاستمرار في فرض القيود على التعبير السياسي للسكان في فلسطين. وكانت أنظمة الدفاع التي تم فرضها على فلسطين سنة 1939 متسقة مع السياسات التي رسمها
وحتى بعد انتهاء الانتداب، استمرت أنظمة الطوارئ بملاحقة الفلسطينيين؛ فبعد قيام دولة إسرائيل في سنة 1948، أدرجت الحكومة الإسرائيلية أنظمة الدفاع (الطوارئ) لسنة 1945، إلى جانب جزء كبير من قانون الانتداب القائم، ضمن القانون الإسرائيلي من خلال سنّها قانون أنظمة السلطة والقضاء لسنة 1948 . وقد طبّقت إسرائيل هذه الأنظمة على الفلسطينيين الذين تمكنوا من البقاء داخل حدود الدولة الجديدة، ووجدوا أنفسهم تحت الحكم العسكري الإسرائيلي. كما زعمت إسرائيل، بعد سنة 1967، أن القانون الساري في الضفة الغربية وغزة يتضمن هذه الأنظمة التي لم تبادر الحكومة الأردنية أو الحكم المصري إلى إلغائها رسمياً، الأمر الذي مكّنها من فرضها على الفلسطينيين الخاضعين للحكم العسكري الإسرائيلي. وبهذه الطريقة، ظلت أنماط العقاب الجماعي والسلطات "الطارئة" الموسعة التي استخدمها البريطانيون لاستهداف السكان الفلسطينيين جزءاً جوهرياً من النظام القانوني الذي خضع له الفلسطينيون بعد فترة طويلة من نهاية الانتداب.
الصايغ، سلوى كمال (إعداد وتجميع). "دليل القوانين الفلسطينية المعمول بها في قطاع غزة من سنة 1858 حتى يونيو 1977، وفقاً لآخر التعديلات التي طرأت عليها". القدس: مطابع دار الأيتام الإسلامية الصناعية، 1977.
عقل، محمد. "سجل المحكومين بالإعدام في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني". لندن: E-Kutub، 2017.
موقع المقتفي، منظومة القضاء والتشريع في فلسطين. على الرابط muqtafi.birzeit.edu
النجار، عايدة. "صحافة فلسطين والحركة الوطنية في نصف قرن منذ 1900-1948". بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005.
Bentwich, Norman. “The New Criminal Code for Palestine.” Journal of Comparative Legislation and International Law 20, no. 1 (1938): 71–79.
Do, Nhat-Dang, and Michael Provence. “The Legitimacy of Repression: The History of Martial Law in British Controlled Palestine.” Equilibrium 2, no. 1 (2016): 17–29.
Hughes, Matthew. “From Law and Order to Pacification: Britain’s Suppression of the Arab Revolt in Palestine, 1936–39.” Journal of Palestine Studies 39, no. 2 (Winter 2010): 6-22.
Moffett, Martha Roadstrum. Perpetual Emergency: A Legal Analysis of Israel’s Use of the British Defence (Emergency) Regulations, 1945, in the Occupied Territories. Ramallah: al-Haq, 1989.
Mogannam, Mogannam E. “Palestine Legislation under the British.” The Annals of the American Academy of Political and Social Science: Palestine, A Decade of Development. Vol. 164 (November 1932): 47–54.