كما كل الأحداث التي تغيّر الواقع، بدأت
تصعيد
وتبنّى الجيش الإسرائيلي، بتوجيهٍ من وزير الدفاع يتسحاق رابين
، سياسة القمع العنيف المعروفة باسم "القبضة الحديدية": فاستخدم الذخيرة الحية في مواجهة المحتجين غير المسلّحين، وزجّ بالمتظاهرين في السجون، وفرض إجراءاتٍ عقابية، كمنع التجول والإغلاقات. وهذه الإجراءات دفعت الفلسطينيين بكل بساطة إلى القيام بمزيدٍ من التظاهرات الحاشدة ضد الاحتلال: فقد سقط حاجز الخوف. وخلال أيامٍ، برزت قياداتٌ كادرية محلية، ولم يمضِ أسبوعان إلاّ وجرى توزيع بيانٍ ليلاً، سيكون الأول في سلسلةٍ من مئات البيانات التي صدرت بعد ذلك في أنحاء الأراضي المحتلة. وحملت البيانات توقيع ’القيادة الوطنيّة الموحّدة للانتفاضة
’ (ق.و.م.إ.)، القيادة السرّية التي تم تشكيلها في هذه المناسبة والمكوّنة من ممثلي الجماعات الأربع الرئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية: "فتح
"، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
،
حاكمية
ولم تقتصر مشاركة الفلسطينيين من الأجيال كافة، ذكوراً وإناثاً، خلال الأشهر الستة الأولى على الأقل، على فعاليات الانتفاضة، بل وصلت إلى التحكم فيها، بخطواتٍ متّسقة مع القيادات المحلية والوطنية. وتمكّنت التدفّقات الحاشدة للجماهير، المنضبطة عادةً، من إحباط كل الإستراتيجيات القمعية التي ابتدعها الاحتلال: إغلاقات طويلة الأمد للمدارس والجامعات في أوائل سنة 1988، اعتقالات (18.000 معتقل في العام الأول وحده)، إبعادات متتالية للزعماء المفترضين (ولاحقاً، لأعضاء "حماس")، اعتقالات إدارية (حوالى 3000 في 1988). وقُتل، في العام الأول للانتفاضة، ما لا يقلّ عن 300 فلسطيني بالرصاص، وأُصيب عشرات الآلاف. وبتعليماتٍ من رابين، اتّبع الجيش سياسة ’كسر العظام’. وعلى الرغم من قمع إسرائيل العنيف، استمرّ الإجماع الفلسطيني على عدم اللجوء إلى استخدام الأسلحة النارية طوال الانتفاضة – أي لأكثر من خمس سنوات.
واستقال جميع الفلسطينيين المنخرطين في الشرطة الإسرائيلية، من أبناء غزة والضفة الغربية. وأدلى العديد من المتعاونين مع الاحتلال باعترافاتٍ علنية، وأُعيد الاعتبار لهم اجتماعياً ودينياً (على الرغم من أن البعض، الأكثر سريةً منهم، واصل نشاطاته). فمنذ حزيران/ يونيو 1967، تعلّم السكان كيفية التعامل، على غرار لعبة القط والفأر، مع احتلالٍ كان همُّه الوحيد منع المقاومة، والزيادة القصوى في التوسّع الاستيطاني، وجبي الضرائب والغرامات. وأظهر الناس آنذاك استعدادهم للتصرّف بانضباطٍ والتزام في الردّ على هجمات الجيش والمستوطنين، وبما يتماشى مع بيانات القيادة المتلاحقة بشكلٍ متواصل، هذه القيادة التي كان يُنظر إليها كهيئةٍ مشروعة وبديلة للاحتلال، هي في الآن ذاته تشريعية وتنفيذية .... الحكومة الفلسطينية الأهلية الفعلية الأولى.
صمود
وتشكّلت، في ربيع سنة 1988، لجانٌ شعبيةٌ في القرى، والمخيمات، وفي أحياء المدن. وكانت هذه اللجان في أحيانٍ كثيرة امتداداً مباشراً للجان العمل التطوعي، القائمةً منذ سنوات، والتي كانت تهدف إلى التأكيد على قدرات الفعل الفلسطينية والتعويض عن الإهمال الإداري للاحتلال. واشتملت هذه اللجان الشعبية، المُنسَّق في ما بينها على المستوى القاعدي من خلال لجنة متابعة، على وحداتٍ مكرّسة لشؤون الصحة، والتعليم، والأمن، والتموين، والزراعة. وهي جسّدت بمجموعها الرغبة في إعادة هيكلة المجتمع من الأسفل إلى الأعلى. وكانت لها مستوياتٌ متفاوتة من النجاح: فاللجنة التي كانت تعمل لتأمين حاجات مخيمات اللاجئين الخاضعة لحصارٍ متواصل ولمنع التجول، الذي كان يدوم أحياناً أسابيع بلا انقطاع، وفّرت لسكان المخيمات مقومات الحياة والاستمرار. أمّا اللجان المسؤولة عن التعليم البديل والاكتفاء الذاتي في الإنتاج الغذائي فكانت ذات فعاليةٍ محدودة. لكن الأهمية الرمزية للجان الشعبية كتعبيرٍ عن تقرير المصير كانت كبيرةً، إلى حدٍّ جعل إسرائيل تعلنها غير شرعية وتهدّد كل من تُكتشف عضويته في لجنةٍ شعبية بحكمٍ بالسجن يصل إلى عشر سنوات.
وشكّلت المدارس والجامعات الفلسطينية عناصر أساسية في تعزيز الصمود وزخم المشاركة الشعبية. فقد استغلّ الطلاب الإغلاقات المفروضة بالقوة ليعودوا إلى مدنهم ومخيماتهم وقراهم لتنظيم الطاقات الانتفاضية للسكان المحليين وتدعيمها. فحملوا معهم آخر التوجّهات والقرارات التي كانت التنظيمات السياسية قد اتخذتها للتو (وكان هؤلاء الطلاب العائدون أنفسهم يمثّلون هذه التنظيمات في كثير من الأحيان). وشارك أكاديميون وموظّفون آخرون بفاعلية في اتخاذ القرارات على المستوى المحلي، كما - وهو أمرٌ حيوي - على المستوى الوطني. وكان بعضهم، أحياناً، أعضاء في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، والعديد منهم شارك في صوغ الوثائق الأساسية للانتفاضة وتحريرها، تلك البيانات التشريعية/ التنفيذية في الآن ذاته، التي أثبتت فعاليتها، خلال أشهرٍ طويلة، في توجيه وتيرة الأحداث، وتغييرها، وتصعيدها في أحيان كثيرة (وفي حالاتٍ أندر، في خفض وتيرتها). ومع أن هذه التعليمات كانت تلتقي عادةً مع مصالح ومطامح الشعب كما كان يراها – مثل استقالة عناصر الشرطة أو "توبة" المتعاونين اللتين كانتا من المطالب الواردة في بيانات الانتفاضة -، فهي بدت حيويةً لتصعيد المقاومة وتدعيم الوحدة الشعبية. وفي هذا الصدد، كان كوادر وأساتذة وإدارات مختلف الجامعات، ولا سيما جامعات
’الداخل’ و’الخارج’
وخلال أسابيع قليلة، تمكّنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من تأكيد نفوذها على الكوادر المحلية، وهي عمليةٌ أدت فيها آلة الفاكس دوراً مهماً (كان لدى الحزب الشيوعي الفلسطيني، و"حماس"، وحركة "
الرتابة الثورية
وبحلول نهاية عامها الأول، كانت الانتفاضة قد فرضت العديد من الحقائق على الأرض، وفي السياق، كبّدت السكّان أكلافاً باهظة: من خلال حرمان الأطفال والشبان من الدراسة (وهو ما سيدفع ذلك الجيل ثمناً كبيراً له لاحقاً)، ومن خلال خسارة ضحايا القمع حياتهم أو حريتهم، وثمن اقتصادي رهيب نتيجة أيام الإضرابات التي استمرّت عدة أشهر. كانت المحلات تُفتح، والتظاهرات تجري، في الصباح حتى الثانية عشرة ظهراً. ثم كانت المراكز التجارية في أنحاء الأراضي المحتلة تُغلق، وتختفي السيارات من الشوارع، كما يختفي عادة الوجود العسكري الفوري. وهكذا اختُزلت ساعات العمل العادية، ولعدة سنوات، إلى نصف نهار.
وتواصل المسار بلا هوادة خلال الأعوام التالية: إصدار البيانات، الإضرابات، القمع الإسرائيلي العنيف، التظاهرات، صياغة المطالب: فمجرد انتظام هذه الأحداث جعلها القاعدة، وليس الاستثناء كما كانت. وأصبح إغلاق المحلات التجارية أقلّ عفويةً، وبات المحرّضون والفارضون لها أصغر سناً، وأحياناً في سن المراهقة. وساد نمطٌ من الرتابة الثورية، ترافق مع نوعٍ من التعب. لكن لم يكن هناك أيُّ استعدادٍ لإنهاء الحركة قبل أن يتحقّق هدف تقرير المصير. وكان الناس يطالبون بنتائج ملموسة، وبعض القرارات التي اتخذتها القيادة في
وتزامنت هذه الأحداث مع اجتياح العراق لـ الكويت في 2 آب/ أغسطس 1990. وكان الرئيس العراقي صدّام حسين قد تعهّد بعد فترةٍ وجيزةٍ من هذا الاجتياح، في إطار مبادرته للربط بين نزاعات المنطقة، بالانسحاب من الكويت في حال انسحبت إسرائيل من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة. وساندت أغلبيةٌ من الفلسطينيين العراق، نتيجة الغضب والإحباط، ورأى عرفات من الملائم إعطاء طابعٍ معلن لهذا الدعم من خلال زيارةٍ قام بها لـبغداد ، فضلاً عن عدة تصريحات أدلى بها في هذا الاتجاه. وتركت الهزيمة السريعة للقوات العراقية في كانون الثاني/ يناير 1991 منظمة التحرير الفلسطينية معزولة على الصعيد الدبلوماسي، ومحرومةً من الدعم المالي المعتاد من دول الخليج الغنية بالنفط. وعلى الرغم من أن الانتفاضة لم تُهزم بأي شكلٍ من الأشكال، فإنها وجدت نفسها في متاهةٍ سياسية.
حصاد الانتفاضة
وهكذا بدأت عملية المفاوضات، أولاً في
وهكذا، عندما جرى الكشف عن الاتفاقات بين عرفات و(رئيس الحكومة آنذاك) رابين، أُصيب الناس بالصدمة في البداية. لكن عندما وقّع عرفات الاتفاق في حديقة
الزبيدي، ماجد (تحرير). "الانتفاضة: وثائق وبيبليوغرافيا". عمان: دار الكرمل، 1990.
شيف، زئيف وايهود يعاري. "انتفاضة". عمان : دار الجليل للنشر والدراسات والابحاث الفلسطينية، 1991.
العلمي، أحمد (تحرير). "يوميات الانتفاضة". (8 كجلدات). رام الله: وزارة الإعلام الفلسطينية، 1995.
فراج، خالد. "الانتفاضة الأولى: الأمل وخيبة الأمل". "مجلة الدراسات الفلسطينية". العدد 110 (ربيع 2017).
فراج، خالد. "الانتفاضة تتداعى: الطريق إلى مدريد". "مجلة الدراسات الفلسطينية". العدد 115 (صيف 2018).
لوجران، جان فرانسوا (تحرير). "أصوات الانتفاضة 1987-1988: تحقيق عن نداءات القيادة الوطنية الموحدة وبيانات حركة المقاومة الإسلامية". القاهرة: سيدج، 1991.
هيكوك روجر وعلاء جرادات (تحرير): "انتفاضة 1987: تحوّل شعب". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020.
محتوى ذو صلة
سياساتي - برامجي
إعلان الاستقلال الفلسطيني، 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988
تعهد تاريخي من أجل إقامة الدولة