في سنة 1516، تحركت الإمبراطورية العثمانية
- التي أسّسها رجال القبائل التركية في الأناضول
وأقاموا عاصمتهم في القسطنطينية
على أنقاض
مثّلت السيادة على القدس
أهمية خاصة لدى الإمبراطورية الإسلامية، التي سرعان ما باشرت تنفيذ مشاريع إعادة بناء أسوار المدينة وترميم قبة الصخرة
(1537 - 1540). وفي الوقت ذاته، اعترف العثمانيون للمسيحيين واليهود بحقوقهم في الأماكن ذات الأهمية الدينية بالنسبة إليهم، فأداروا ترتيباً معقداً للامتيازات وحقوق الدخول إلى هذه الأماكن عبر ما سمّي بنظام "
وعلى الرغم من الهدوء النسبي على صعيد الشؤون الدينية، كانت فلسطين من حين إلى آخر مسرحاً للصراعات السياسية، المحلية والإقليمية والدولية، فقد شهد مطلع القرن الثامن عشر على سبيل المثال، اندلاعَ ثورة محلية ضد حاكم القدس العثماني بسبب السياسات القمعية والضرائب عُرفت باسم تمرّد نقيب الأشراف
، وفي وقت لاحق من القرن الثامن عشر، أقام ظاهر العمر الزيداني
حكماً ذاتياً في منطقة الجليل
، كما قامت القوات الفرنسية بقيادة
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان لعدد من التطورات على الصعيدين الإقليمي والعالمي دور مؤثر في مسار الأحداث في فلسطين، وكان لثلاثة منها تأثير خاص، وهي: قيام العثمانيين بسلسلة من الإصلاحات الإدارية التي سعت بشكل أساسي إلى إعادة صوغ العلاقة بين الدولة ورعاياها، وتحولات دولية منحت قوى أوروبية نفوذاً متزايداً على الدولة العثمانية المتهالكة، وصعود الحركات القومية، بما في ذلك تنامي
تميّزت سنة 1876 بوصول السلطان عبد الحميد الثاني إلى الحكم، وبكونه بداية لمرحلة دستورية أولى أطلقها صدور "القانون الأساسي" العثماني، الذي سعى إلى إعادة تكوين العلاقة بين الدولة العثمانية ورعاياها، من خلال صوغ هوية سياسية عثمانية واحدة تطبَّق بالتساوي على جميع رعايا الإمبراطورية، كما تأسس مجلس النواب العثماني وفقاً لهذا القانون، ومَثَّل مدينةَ القدس فيه يوسف ضياء الدين باشا الخالدي . ولكن بعد عامين فقط، أمر السلطان عبد الحميد بتعليق "القانون الأساسي"، منهياً بذلك المرحلة الدستورية الأولى، وليحكم بعدها كملك مطلق الصلاحية على مدى السنوات الثلاثين التالية، التي رعى خلالها بعض مشاريع التحديث الناجحة (مثل الإصلاحات البيروقراطية وإنشاء سجل السكان وتشييد سكة حديد الحجاز )، بينما كانت الإمبراطورية تفقد سيطرتها على العديد من المناطق (في أوروبا خصوصاً)، نتيجة ائتلافات بين حركات تحرر محلية وقوى خارجية.
ودفعت تلك الخسائرُ القوى الخارجية إلى استغلال الضعف النسبي الذي أصاب الإمبراطورية العثمانية وفرض تنازلات اقتصادية وسياسية عليها، من خلال اتفاقيات أعطت الرعايا الأجانب على الأراضي العثمانية وضعاً متميزاً، مثل إعفائهم من الضرائب والملاحقات القضائية المحلية على سبيل المثال. وعلى رغم أن الاتفاقيات هذه، والمعروفة بـ"الامتيازات الأجنبية"، كانت أُعدت منذ استيلاء العثمانيين على بلاد الشام، إلاّ أن ترنّح الإمبراطورية دفع القوى الأوروبية إلى توسيع امتيازاتها وإعطائها إلى وكلاء محليين، فاستغلت الحركة الصهيونية ومؤيدوها الأوروبيون هذا الوضع الجديد من أجل تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، على الرغم من المعارضة المحلية لذلك.
لم تكن فلسطين تمثّل وحدة إدارية في تلك الفترة، وكانت التسمية ("فلسطين") تُستخدم لوصف منطقة جغرافية، وبعد عمليات إعادة التنظيم الإداري في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، تم تقسيم المنطقة التي عُرفت لاحقاً باسم "فلسطين الانتدابية
" الى ثلاث وحدات إدارية: سنجق القدس
، وتتم إدارته من إسطنبول
مباشرة، وسنجقا
كانت الصهيونية في ذلك الحين تتبلور في أوروبا، وعلى وجه الخصوص في أوروبا الشرقية . كان المفكرون الصهاينة، المدفوعون بالمد الكولونيالي خارج أوروبا، والذين كانت تحركهم التيارات الأيديولوجية القومية والظروف القمعية التي يتعرض لها اليهود الأوروبيون، يبحثون عن أرض يمكن الاستيلاء عليها لإقامة دولة يهودية ذات سيادة تمثل إنجازاً قومياً ووسيلة للخلاص، فبدت فلسطين لهم المكان المنطقي الأمثل، لأنها مكان نشوء اليهودية، على رغم أن بعض المفكرين الصهاينة الأوائل أرادوا الأخذ بعين الاعتبار مواقع بديلة.
تأسست أول مستعمرة في فلسطين سنة 1878، ووصلت الموجة الأولى من المهاجرين الصهاينة سنة 1882. وقد قام الثريّان اليهوديان الأوروبيان،
في ذلك الوقت، كانت المشاعر القومية العربية والفلسطينية تتنامى في فلسطين، بالتزامن مع تزايد معاداة الصهيونية. وكثيراً ما كانت تندلع نزاعات فلسطينية - صهيونية بشأن ملكية الأراضي أو استئجارها. وفي سنة 1908، أدّت "ثورة تركيا الفتاة " إلى إعادة الدستور، وبشّرت بعهد الحريات الصحافية، وتم انتخاب مندوبين من القدس ويافا ونابلس وعكا إلى البرلمان العثماني المعاد تشكيله سنتي 1908، 1912 و1914، وازدهرت صحافة فلسطينية تعبّر عن القلق المتزايد إزاء المطامع الصهيونية في فلسطين، وتُفْرِد المساحة لرؤى متعددة ولتعبير قومي عربي أو عثماني أو سوري (نسبة إلى سوريا الكبرى) أو فلسطيني.
فتح اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 حقبة جديدة لفلسطين وبلاد الشام. فقبل احتلال القوات البريطانية لفلسطين سنة 1917، كانت اتفاقية سايكس – بيكو التي وقعتها بريطانيا وفرنسا في أيار/ مايو 1916 قد وضعت أسس تقسيم الولايات العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية إلى مناطق نفوذ خاصة بكل منهما. وعلى الرغم من الوعود البريطانية التي تضمنتها مراسلات حسين - مكماهون في الفترة نفسها وإطلاق الثورة العربية في حزيران/ يونيو 1916، إلا أنه كان من شأن الخطط البريطانية والمطامع الصهيونية المتشابكة معها أن تنتزع من الفلسطينيين أي سيطرة على مستقبلهم السياسي.
توما، اميل. "فلسطين في العهد العثماني". عمان: الدار العربية للنشر والتوزيع، 1980.
دوماني، بشارة. "إعادة اكتشاف فلسطين: أهالي جبل نابلس 1700-1900". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
جوهرية، واصف. "القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية: الكتاب الاول من مذكرات الموسيقي واصف جوهرية، 1904-1917". تحرير وتقديم: سليم تماري وعصام نصار. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003.
مناع، عادل. "تاريخ فلسطين في اواخر العهد العثماني". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003.
مناع، عادل. "لواء القدس في اواسط العهد العثماني: الادارة والمجتمع منذ أواسط القرن الثامن عشر حتى حملة محمد علي باشا سنة 1831". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2008.
محتوى ذو صلة
استعمار اقتصادي - اجتماعي
الديموغرافيا والقضية الفلسطينية (I)
منذ خمسينات القرن التاسع عشر حتى عام 1948