جورجي حبيب حنانيا
ولد جورجي حبيب حنانيا في مدينة القدس في سنة 1864 لعائلة أرثوذكسية تعود جذورها إلى مدينة القدس لعدة أجيال، واختارت أن يكون لقبها "حبيب حنانيا"، وهو اسم أحد أجدادها، وذلك لتمييزها من بقية العائلات التي تحمل اسم حنانيا في القدس وفي مدن شامية أُخرى.
والده: عيسى، كان من وجهاء مدينة القدس والعضو المسيحي الوحيد في محكمة الاستئناف التي كانت المحكمة العليا في القدس.
والدته: كاتنغو يونانية الأصل من استانبول، وهي ابنة مسؤول رفيع المستوى في الإدارة العثمانية.
شقيقه: يعقوب، درس في معهد اللاهوت الأرثوذكسي في القدس وكان يتقن لغات عديدة، وبعد انتهاء دراسته ذهب إلى روسيا حيث عمل مدرّساً للغة العبرية لابنة القيصر، وتوفي هناك خلال الحرب العالمية الأولى.
شقيقته: إيرين تزوجت رجلاً من عائلة زكريا، وتوفيت أيضاً خلال الحرب العالمية الأولى.
زوجته: أنيسة فرج. ابنتاه: كاترين وفوتيني. ابناه: عيسى ودميان. حفيدته: ماري حنانيا.
درس جورجي حبيب حنانيا المرحلتين الابتدائية والثانوية في مدرسة المطران غوبات (مدرسة صهيون) الإنكليزية في القدس، وهي المدرسة التي تخرّج فيها عدد من أعلام الفكر والثقافة في فلسطين مثل خليل السكاكيني وإبراهيم طوقان، والتي أتاحت لهم فرصه التعرّف إلى الأفكار الأوروبية الحديثة، ثم تابع دراسته بنفسه فكان يقرأ كل ما يقع تحت يده من كتب، ونجح في اتقان لغات عديدة، إلى جانب لغته العربية، وهي اليونانية والتركية والروسية والإنكليزية والفرنسية والألمانية وبعض العبرية.
كان جورجي حبيب حنانيا شاباً تقياً يتردد إلى الكنيسة كل أحد، ويرتل ضمن كورس الكنيسة باللغتين العربية واليونانية. وقد شكّلت الموسيقى جزءاً من حياته، وكان يحب العزف على آلة الماندولين.
بدأ جورجي حبيب حنانيا مشواره المهني في مجال الطباعة، إذ أسس، في سنة 1894، مطبعة في مدينة القدس، ثم طمح إلى العمل في مجال الصحافة من خلال إصدار جريدة دورية باللغة العربية، فطلب من السلطات العثمانية، في سنة 1899، السماح له بذلك، إلاّ إن هذه السلطات لم توافق على طلبه سوى بعد إعادة العمل بالدستور في صيف سنة 1908.
أصدر جورجي حبيب حنانيا العدد الأول من جريدة "القدس"، في مدينة القدس، يوم الجمعة في 5 أيلول/سبتمبر شرقي، 18 غربي، سنة 1908، الموافق فيه 22 شعبان سنة 1316. وقد حافظت الجريدة على إيراد التقويم الميلادي، الشرقي والغربي، والتقويم الهجري في كل عدد من أعدادها.
كانت جريدة "القدس" أول جريدة تصدر في لواء القدس بعد إعادة العمل بالدستور العثماني. وقد تصدرت صفحتها الأولى شعارات: "حرية-مساواة-إخاء". وعرّفت الجريدة نفسها بأنها "جريدة علمية أدبية إخبارية تصدر يومي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع، في 4 صفحات." ويبدو من المعلومات الخاصة بقيمة الاشتراك في الجريدة أنها كانت توزع في لواء القدس، وفي البلاد العثمانية وفي القطر المصري وأميركا الشمالية والجنوبية.
في العدد الأول من جريدة "القدس"، حكى جورجي حبيب حنانيا حكاية صدورها، فذكر أنه أسس، في سنة 1894، مطبعة في مدينة القدس، التي كانت جميع مطابعها دينية، هدفها زرع "بذار الإخاء"، ومعاملة الجميع "على السواء"، و"خدمة الوطن"، بحيث "لا تختص بفريق دون آخر"، وأن مطبعته هذه نشرت، منذ تأسيسها وحتى تموز/ يوليو 1908، 281 كتاباً، "منها 83 كتاباً عربياً"، وأنه كان، منذ بداية سنة 1899، قد استأذن الحكومة المحلية في القدس وطلب نشر جريدة عربية، لكن لم يُستجب طلبه هذا سوى بعدما "رُفع الاستبداد" بالعودة إلى العمل بالدستور في تموز/ يوليو 1908.
كان جورجي حبيب حنانيا يحرر افتتاحيات الجريدة وعدداً كبيراً من مقالاتها، وكان يساعده مخبر متفرغ هو اسكندر سويدة وبعض المراسلين، وخصوصاً يوسف القرة في نابلس وخليل المفتي في مجدل عسقلان، كما كان يعتمد على المقالات التي كان ينشرها على صفحات الجريدة عدد من الأدباء والكُتّاب، مثل إسعاف النشاشيبي، والشيخ علي الريماوي، وجرجس الخوري، وأنطون شكري لورنس، وتوفيق زيبق وإسكندر الخوري البيتجالي.
كانت جريدة "القدس"، كما ورد في عددها الأول، "عثمانية محضة، لا تنتصر إلاّ للحق، ولا تتوخى إلاّ خدمة البلاد خدمة صادقة؛ ستتعقب آثار الاستبداد، وتبحث عن مواطن الضعف، وتفتش عن الأدواء المحلية، وستقتصر في أبحاثها على ما يجمل أثره إن شاء الله."
كان جورجي حبيب حنانيا عميق الإيمان بفائدة الكلمة المكتوبة للمجتمع، وبالدور التنويري الذي يمكن للصحافة، القائمة على حرية التعبير، أن تضطلع به في تعبئة الرأي العام في البلاد ودفعه للانخراط في المعركة الرامية إلى توفير شروط الارتقاء، وخصوصاً بعد عودة العمل بالدستور وإطلاق حرية التعبير والنشر في السلطنة العثمانية.
قدّر جورجي حبيب حنانيا أن هناك ثلاث وسائل رئيسية لبلوغ الارتقاء أو الحداثة، هي: تعميم المدارس الوطنية الحديثة، ونشر الجرائد، وتأسيس الجمعيات، وأكد أن العلاقات بين الأفراد في المجتمع الحديث تقوم على الرابطة الوطنية، ونبذ التعصب الجنسي (أو القومي)، وأن النظام السياسي الذي يجب أن يسود في هذا المجتمع هو النظام البرلماني الدستوري، القائم على حكم الشعب، وعلى عدل الحكام وإدراكهم أنهم "خدمة الأمة"، وعلى مساواة جميع الأفراد في الحقوق والواجبات.
انتسب جورجي حبيب حنانيا إلى فرع جمعية "الاتحاد والترقي" في مدينة القدس، وكان من أعضائه البارزين، ومن أنصار الحفاظ على "الجامعة العثمانية".
روّج جورجي حبيب حنانيا، كما ظهر في المقالات التي كانت تنشرها جريدته، لحرية الاعتقاد، ورأى أن الدين والعقل ليسا عدوين، وانتقد ظاهرة التفرقة الدينية. لكنه اتخذ إزاء مسألة تعريب الكنيسة الأرثوذكسية في لواء القدس، التي كان يسيطر عليها بطريرك ورهبان أرثوذكس، أو ما سُمّي آنذاك مسألة "النهضة الأرثوذكسية"، موقفاً متحفظاً ومخالفاً لمواقف شخصيات معروفة، ناضلت من أجل تعريب هذه الكنيسة، مثل خليل السكاكيني وعيسى العيسى.
أكد جورجي حبيب حنانيا ضرورة تعليم المرأة وتوفير شروط العمل لها، معتبراً أنه يتوجب "تعليم المرأة قبل الرجل لأنها هي المعوّل عليها"، ومقدّراً أن "مشاركة الجنس اللطيف للرجال في هذا العصر لا يعد جديداً ولا مستغرباً، بل جليلاً ونافعاً ولازماً."
عبّر جورجي حبيب حنانيا، في أيلول/ سبتمبر 1913، لدى دخول جريدة "القدس" في عامها السادس، عما يشبه خيبة الأمل من تجاوب جمهور لواء القدس مع جريدته، ومع الصحافة عموماً، وكتب: "ولا يخفى أن أعداد جريدتنا في سنتها الخامسة كانت أقل من أعدادها في الأربع سنوات التي سبقتها، وقد اضطررنا أن نصدرها مرة في الأسبوع لأسباب كثيرة، أهمها عدم دفع عدد كبير من المشتركين ما عليهم من الاشتراكات..، ومن جرّب تجارة الصحافة في بلادنا، يعلم أنها ليست تجارة رابحة، لأن العادة السيئة عندنا أن يقرأ العدد الواحد نحو 50 شخصاً."
وضع جورجي حبيب حنانيا في سنة 1914، خطة طموحة لتطوير جريدته، فعزم على شراء آلة طباعة حديثة مع بوليصة تأمين عليها، واشترى أكداساً من الورق للوفاء بحاجاته المستقبلية، كما رهن آلات المطبعة القديمة للحصول على قرض لتغطية التكاليف التي ستترتب عليه. لكن الأجواء السياسية المتوترة آنذاك كانت تعاكس مشاريعه، إذ تباطأت وتيرة العمل مع دق طبول الحرب المقبلة، وعجز عن دفع أقساط القرض الذي حصل عليه من البنك الألماني في القدس، وهو ما دفعه إلى إشهار إفلاسه، وإلى إعلان هذا البنك في "الجريدة الرسمية" أن آلات مطبعة جورجي حبيب حنانيا ستعرض للبيع بالمزاد العلني، لأن المالك تخلف عن سداد أقساط القرض. وصدر العدد الأخير من جريدة "القدس" في 16 و29 أيار 1914، الموافق فيه 5 رجب سنة 1332، حاملاً الرقم 391.
قرر جورجي حبيب حنانيا، بعد هذه المأساة، مغادرة القدس والسفر إلى مدينة الإسكندرية طلباً للمساعدة من أصدقائه المصريين، وهو ما تحقق له بفضل بطريرك الأرثوذكس الذي قدم له كل الدعم، وعرّفه إلى الكتّاب والصحافيين في المدينة، في حين أن التواصل بينه وبين زوجته أصبح مستحيلاً لانقطاع الاتصالات بين سكان لواء القدس الذين كانوا خاضعين للحكم العثماني وسكان مصر التي كانت خاضعة للحكم البريطاني.
استقر جورجي جبيب حنانيا في مدينة الإسكنرية، وراح يشارك في النشاط الثقافي الذي كان يجري فيها، كما تابع العمل في مجال النشر، وأصدر تقويماً سنوياً عنوانه: "النتيجة القدسية لأبناء كنيسة الروم الأرثوذكس"، وبدأ بدراسة تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية، كما عمل مع شخص يدعى الأب حزبون في وضع قاموس.
رحب جورجي حبيب حنانيا بأخبار انتهاء الحرب العالمية الأولى، وغمرت البهجة قلبه عندما أُعلن تحرير فلسطين من الحكم العثماني على يد السلطات البريطانية، لكنه لم يحزم أمره ويقرر العودة إلى مدينة القدس، وذلك ربما لأنه أراد تفادي مواجهة مجتمع قد يركّز أنظاره على فشله بعدما كان يعتبره زعيماً فيما مضى.
توفي جورجي حبيب حنانيا في منزله في مدينة الإسكندرية، في سنة 1920، في إثر نوبة قلبية عن عمر ناهز السادسة والخمسين، ودُفن في إحدى مقابرها.
جورجي حبيب حنانيا أديب وصحافي ومؤسس جريدة "القدس"، وأحد رواد التنوير بالحداثة وسبل بلوغها في لواء القدس؛ كان شخصاً شديد الإباء، مرحاً يتمتع بروح الدعابة، وكان يولي مظهره عناية خاصة ويهتم دوماً بأناقته وهندامه.
المصادر:
"الحمد لله"، "جريدة القدس"، العدد الأول، السنة الأولى، الجمعة في 5 أيلول شرقي، 18 غربي، سنة 1908، ص 1-2.
حنانيا، ماري. "جورجي حبيب حنانيا: تاريخ أول صحيفة عربية في فلسطين (1908-1914)"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 73 (شتاء 2008)، ص 125-141.
"خطة هذه الجريدة"، "جريدة القدس"، العدد الأول، السنة الأولى، الجمعة في 5 أيلول شرقي، 18 غربي، سنة 1908، ص 2.
"دخول جريدة القدس في سنتها السادسة"، "جريدة القدس"، العدد 364، السنة السادسة، الثلاثاء في 17 و30 أيلول سنة 1913، ص 1-2.
سليمان، محمد. "تاريخ الصحافة الفلسطينية، 1876-1918". نيقوسيا: الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، 1987.
الشريف، ماهر. "جريدة القدس وبواكير الحداثة في لواء أو متصرفية القدس ( 1908-1914)". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024.
مناع، عادل. "أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني (1800-1918)". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، طبعة ثانية، 1995.
Abdul Hadi, Mahdi, ed. Palestinian Personalities: A Biographic Dictionary. 2nd ed., rev. and updated. Jerusalem: Passia Publication, 2006.