الجيش الإسرائيلي يخرق الهدنة الثانية ويشّ عملية يوآف
(والمعروفة أيضاً باسم عملية الضربات العشر) ضد القوات المصريّة المنتشرة على محور يمتد من الخليل
إلى المجدل
(على الساحل)، مروراً بـ
تُعتبر المجزرة التي وقعت في قرية الدوايمة
، من كبرى المجازر التي حفلت بها
كانت الدوايمة إحدى أكبر قرى قضاء الخليل
، وتقع على بعد 24 كم من مدينة الخليل، وعلى ارتفاع أقل من 500 متر فوق سطح البحر. يحدها من الشمال
وقد شهدت المنطقة التي تقع القرية ضمنها، مناوشات بين السكان والمستعمرات الإسرائيلية بعد انتهاء الانتداب ورحيل القوات البريطانية. وشعر أهل الدوايمة بالحاجة إلى تنظيم صفوفهم، فألّفوا لجنة قومية لتنظم شؤون الدفاع وشراء السلاح. وقد تمكنت اللجنة من شراء عدة بنادق وكميات قليلة من الذخيرة من مواطنين مصريين.
وخلال الأشهر الخمسة التي تلت
تطورت الأمور بصورة خطرة في النصف الثاني من تشرين الأول عندما قررت إسرائيل خرق الهدنة الثانية وإطلاق عملية يوآف جنوب فلسطين. فاستكملت القوات المهاجمة حصار الفالوجة وعراق المنشيّة، الأمر الذي وضع الدوايمة والقرى المجاورة قاب قوسين أو أدنى من السقوط. وبدأ الشباب بتأمين حراسة ليلية في القرية تحسباً لأي هجوم محتمَل. وفي 27 تشرين الأول 1948 انسحبت القوات المصرية من بيت جبرين إلى الخليل، ورحل معها أهالي بيت جبرين والقبيبة في اتجاه الدوايمة وقرى أُخرى، الأمر الذي أدى إلى إحكام الطوق على القوات المصرية فيما عُرف بـ"جيب الفالوجة " الذي كان جمال عبد الناصر (الذي أصبح فيما بعد رئيس مصر ) ضمن قواته.
وباءت محاولات أهل الدوايمة الاتصال بقيادات الجيوش العربية طلباً للحماية بالفشل، وهو ما أثار هلعاً في نفوس الأهالي، فأخذ بعضهم بترحيل النساء والأطفال والعجزة. وما كاد أهل القرية يفرغون من صلاة الجمعة في 29 تشرين الأول 1948، حتى جاءت أنباء وصول القوات الصهيونية إلى مشارف القرية.
كانت الكتيبة 89 التابعة للواء الثامن بقيادة يتسحاق ساديه
مؤسس
أمام التفوق الكاسح للقوات المهاجمة، ترك المدافعون مواقعهم، وراحت المدفعية الإسرائيلية تدكّ بيوت القرية بينما كان الرصاص يلاحق الناجين من أهلها. ومع ظهيرة اليوم دخلت القوات الصهيونية القرية من الجهات الثلاث دون مقاومة تُذكر، وبدأت بتنفيذ مذبحة على ثلاث مراحل؛ الأولى، استهدفت الأهالي في المنازل والأزقة، والثانية في مسجد القرية، والثالثة في أحد الكهوف في منطقة طور الزاغ .
كان هناك شاهدا عيان رئيسيان لما حدث من عمليات قتل في قرية الدوايمة: مختار القرية حسن محمود هديب
، وجندي إسرائيلي. وردت شهادة المختار في رسالة بعثها أمين سر "مؤتمر اللاجئين العرب
" في رام الله
في 14 حزيران/ يونيو 1949 إلى لجنة الأمم المتحدة للتوفيق بشأن فلسطين
المجتمعة في
ومن الجدير بالذكر أن المختار نفسه عاد وأدلى في سنة 1984 بشهادته إلى إحدى الصحافيات الإسرائيليات في صحيفة "حداشوت"، فذكر تفصيلات إضافية، منها أنه طُلب من القرويين الذين التجأوا إلى الكهوف واكتُشفوا من القوات المهاجمة، أن يبدأوا الاصطفاف في خط واحد والسير نحو الشرق، فجرى رميهم بالرصاص. وذكر أيضاً أن بعض الأهالي أتى في الليلة التالية لدفن الجثث في بئر. وللتأكد من صحة المعلومات التي أدلى بها المختار حسن محمود هديب، اصطحبته الصحافية مع أربعة عمال إلى المكان الذي أشار إليه، فحفروا في البئر المقصودة. وهناك تم اكتشاف مجموعة من العظام البشرية وبقايا هياكل عظمية ملقاة فوق بعضها، منها ثلاث جماجم تعود إحداها لطفل صغير، وعندها توقف العمال عن الحفر. وعليه نشرت الصحافية مقالتها في 24 آب/ أغسطس 1984.
أمّا شهادة الجندي الإسرائيلي، فقد سجّلها أحد أعضاء حزب مبام يدعى ش. كابلان ، وضمّها في رسالة وجّهها إلى رئيس تحرير الصحيفة الناطقة باسم الحزب، "عال همشمار"، في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، أي بعد 9 أيام من وقوع المذبحة. لكن الرسالة بقيت طي الكتمان إلى حين عثر عليها المؤرخ الإسرائيلي بني موريس وذكرها في كتابه عن ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الصادر سنة 1987. (نُشر النص الكامل للرسالة في صحيفة هآرتس سنة 2016).
يذكر الجندي أنه لم يكن هناك قتال أو مقاومة في الدوايمة، وأن الفوج الأول من المهاجمين قتلوا ما بين 80 و100 عربي، وقاموا بتحطيم جماجم الأطفال بواسطة العصي. ثم قام فوج ثانٍ بمحاصرة مَن كانوا في بيوتهم، واستجلبوا خبراء متفجرات قاموا بتفجير المنازل على رأس من فيها. ويروي الجندي كيف أن امرأتين مسنتين وضعتا في أحد المنازل وأمر أحد القادة زارع ألغام بتفجيره، وعلى الرغم من رفض زارع الألغام تنفيذ الأمر، فإن العملية نُفذت. وقصة امرأة كانت قد أنجبت حديثاً، استخدمها الجنود لتنظيف الفناء الخلفي حيث كانوا يتناولون الطعام قبل أن تُقتل مع طفلها.
ويتحدث ش. كابلان في رسالته، كيف كان يستمع على مدى أسبوعين إلى روايات جنود وقيادات يتباهون ببراعتهم في عمليات القتل والاغتصاب، وكيف أن هذه الأفعال كانت تُعتبر مهمة رائعة بالنسبة إليهم. واعترف أن حزبه كان في مأزق، إذ لم يكن من الوارد نشر المعلومات لأنها ستلحق الضرر بصورة الدولة.
وقد بلّغ الناجون الذين تمكنوا من الوصول إلى الخليل، مراقبي الأمم المتحدة والمسؤولين العرب أن الإسرائيليين كرروا مذبحة دير ياسين في الدوايمة. وقد طلبت الأمم المتحدة السماح لمراقبيها بزيارة الدوايمة للتحقق من حدوث المذبحة، وبعد أن رفض الإسرائيليون الطلب ثلاث مرات، سمحوا في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر لضابطين من الأمم المتحدة بزيارة القرية. وهناك شاهد المراقبان عدداً من المنازل لا يزال الدخان يتصاعد منها، وبعضها كانت تفوح منه رائحة غريبة تشبه رائحة العظام المحروقة. وعندما طالبا بتفقد مسجد القرية أعلمهما ضابط إسرائيلي بأنهم لا يدخلون المساجد احتراماً للتقاليد، لكن إلقاء نظرة سريعة كان كافياً للتأكد من أن الجنود الإسرائيليين قد دنسوا المسجد بالفعل. وعندما منع الإسرائيليون الفريق من تفقد الجهة الأُخرى من القرية بحجة وجود ألغام زرعها العرب، لم يقتنع أحد المراقبين، إذ إن المنطقة المذكورة كانت تقع في مواجهة الخطوط العربية، ولم يكن من المنطق أن يزرعها العرب بالألغام.
أمّا فيما يتعلق بعملية إجلاء السكان، فقد نفى الإسرائيليون استخدام القوة لطردهم، بل زعموا أن السكان هربوا عندما غادرت القوات العربية المنطقة.
تختلف المصادر بشأن تحديد عدد دقيق لضحايا المذبحة، لكن التقديرات، استناداً إلى البيانات والتصريحات، تتحدث عن مئات الضحايا. فقد أشارت تقارير في مركز شرطة الخليل، إلى مقتل نحو 200 من أبناء الدوايمة الذين احتموا في مسجد القرية ومعظمهم من كبار السن الذين لم يتمكنوا من الهرب. أمّا الحامية المصرية في بيت لحم
، فبلّغت قيادتها أن 500 من أبناء الدوايمة وقعوا ضحية المذبحة، بينما ورد في تقرير القنصل الأميركي في القدس
، نقلاً عن أنباء وصلته، أن 500 – 1,000 عربي قتلوا في الدوايمة. من ناحيته، أكد مختار القرية، أنه أحصى 455 ضحية، وقد سلم قائمة بأسماء الضحايا إلى الحاكم العسكري الأردني. كما ذكر أنه كان أيضاً عدد آخر من الضحايا من بين الذين كانوا قد التجأوا إلى القرية، ولكنه لم يستطع إحصاءهم. أمّا
في كانون الأول/ ديسمبر 1948، وخلال مناقشة لجنة وزارية إسرائيلية التجاوزات المرتكبة، أُثيرت مسألة الدوايمة، واعتبر وزير الزراعة أهارون زيسلنغ (وهو من حزب مبام) أن الجنود ارتكبوا أفعالاً نازية، وأبدى انزعاجه من عدم جدية التحقيق، لكنه وافق في النهاية، مع وزراء آخرين، على عدم الاعتراف بصورة علنية بأية تجاوزات للحفاظ على صورة إسرائيل.
وعلى الرغم من فظاعة ما حدث وعدم سريّته، يبرز السؤال لماذا لم يكن للمذبحة أصداء شبيهة بالتي أعقبت مذبحة دير ياسين؟ ولعل التفسير الذي قدّمه أمين سر مؤتمر اللاجئين العرب في رام الله قريب من الواقع إذ يذكر أن
بعد المذبحة، تفرّق الناجون من أهل الدوايمة، ففي البداية مكث عدد منهم في القرى والخرب القريبة من خط الهدنة ينتظرون العودة إلى قريتهم، ثم توجه معظمهم إلى المخيمات ومنها مخيم
وفي سنة 1955 أقام الإسرائيليون مستعمرة أماتسيا على قسم من أنقاض الدوايمة، ولم يبقَ إلاّ مقام الشيخ علي الذي يقع على رأس تلة منبسطة جنوبي غربي القرية، تحيط به أشجار الصنوبر والبلوط.