على مدى نصف القرن الماضي، شهدت العلاقات الإسبانية الفلسطينية مساراً معقداً ومتعدد الأوجه. فمن دكتاتورية فرانكو
إلى المرحلة الديمقراطية الحديثة، شهد موقف إسبانيا
إزاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي تطوراً كبيراً، عاكساً التفاعلات والديناميات العالمية وأيضاً اهتماماتها الداخلية.
سياسة إسبانيا تجاه فلسطين خلال الحقبة الدكتاتورية
بهدف فهم الوضع الحالي للعلاقات الإسبانية الفلسطينية، من المهم أن نفهم الخلفية التاريخية لهذه العلاقات. خلال دكتاتورية فرانكو (1939-1975)، سعت إسبانيا إلى كسر عزلتها الدولية، وهو المسعى الذي وجه نهجها في التعامل مع العالم العربي. فهي لم تصوّت على خطة تقسيم فلسطين
في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، إذ كانت قد استُبعدت من الأمم المتحدة
بسبب قربها من قوات المحور
خلال الحرب العالمية الثانية
. وكان الجنرال فرانكو قد لجأ، بعد سنة 1945، إلى "سياسات بديلة" مختلفة لكسر عزلة إسبانيا على الساحة الدولية؛ فسعى للتقارب مع كل من دول أمريكا اللاتينية
والعالم العربي (وخصوصاً المملكة الأردنية الهاشمية
والمملكة العربية السعودية
ومصر
والعراق
وليبيا
). وبعد إعادة الاعتبار لفرانكو على المستوى الدولي سنة 1955، رفضت إسبانيا عدة عروض من إسرائيل لإقامة علاقات دبلوماسية. وانحازت، خلال الحرب الباردة
، إلى الولايات المتحدة
سعياً لوقف التغلغل السوفييتي في البحر الأبيض المتوسط
. وبعد حرب عام 1967
، دانت إسبانيا الاحتلال الإسرائيلي لـسيناء
ومرتفعات الجولان
والضفة الغربية
(وضمنها القدس الشرقية
) وقطاع غزة
. وجعل نظام فرانكو التقارب الدبلوماسي مع إسرائيل مرهوناً بشرطين: الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وتدويل القدس
. وخلال حرب عام 1973
العربية-الإسرائيلية، منعت إسبانيا الولايات المتحدة من استخدام قواعدها العسكرية على الأراضي الإسبانية لإرسال الأسلحة إلى إسرائيل. وفي 22 تشرين الثاني 1974، صوتت إسبانيا لمصلحة قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3236 و3237 اللذين اعترفا بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وبـمنظمة التحرير الفلسطينية
كممثل شرعي له.
التفاعل مع قضية فلسطين في السبعينيات
بعد وفاة فرانكو، اتجهت إسبانيا إلى إعادة صوغ نهج سياستها الخارجية، وخضع موقفها تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لتحول تدريجي. وسمح التحول الديمقراطي في إسبانيا في النصف الثاني من السبعينيات باتباع سياسة خارجية تميزت باستقلاليتها، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى إعادة تقييم موقف إسبانيا إزاء القضية الفلسطينية. ولدى فوز اتحاد الوسط الديمقراطي
(UCD) في انتخابات سنة 1977، تبنى رئيس الحكومة أدولفو سواريث غونثاليث
سياسة خارجية أكثر التزاماً بنضال الشعوب وحقوقها، فدعا إلى الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة سنة 1967 وأيّد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وفي 13 أيلول/ سبتمبر 1979، كان سواريث أول رئيس حكومة أوروبي يستقبل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات
، وسط احتجاجات قوية داخل الجالية اليهودية في إسبانيا.
في أعقاب النصر الانتخابي الذي حققه حزب العمال الاشتراكي الإسباني
(PSOE) في تشرين الأول 1982، أكد رئيس الحكومة الجديد فيليبي غونثاليث ماركيث
دعمه التوصل إلى حل عادل ودائم للصراع العربي- الإسرائيلي في إطار قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي. في الوقت ذاته، أدخل غونثاليث تغييرات جذرية على السياسة الخارجية الإسبانية، فمع أنه كان قد اعترض على انضمام إسبانيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي
في حزيران/ يونيو 1982، إلاّ إنه عدّل موقفه لدى استلامه السلطة ودعا إلى إجراء استفتاء بشأن استمرار انتماء إسبانيا إلى الحلف (سيجري الاستفتاء في آذار/ مارس 1986). كما عمل بنشاط على انضمام إسبانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة
، فتم ذلك رسمياً في 1 كانون الثاني/ يناير 1986. وبعد 16 يوماً فقط، أقامت إسبانيا علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وأرفقت خطوتها هذه ببيان (إعلان لاهاي
) كررت فيه "عدم الاعتراف بأي إجراءات تهدف إلى ضم الأراضي العربية المحتلة منذ سنة 1967، أو تغيير طبيعة مدينة القدس أو مكانتها من جانب واحد، ورفض إسبانيا سياسة بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة .... وتطالب بتفكيكها كخطوة أولى نحو عودة الأراضي [...]. وترى الحكومة الإسبانية أنه يجب الاعتراف بالحقوق والتطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني وضمانها، ولا سيما حق تقرير المصير." كما أكد الإعلان الإسباني دعم عملية السلام على أساس قراري مجلس الأمن
242
و338
بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية.
خلال الرئاسة الإسبانية الأولى للسوق الأوروبية المشتركة، اعتمدت هذه الأخيرة في 27 حزيران 1989 إعلان مدريد
الذي طالب "بالاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير المصير مع كل ما يعنيه ذلك" وعقد "مؤتمر دولي للسلام تحت رعاية الأمم المتحدة، ليكون منتدى مناسباً للمفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية (بمن فيها ذلك منظمة التحرير الفلسطينية)، بهدف التوصل إلى حل شامل وعادل ودائم." كما أعرب البيان عن معارضته الشديدة سياسات الأمر الواقع التي تمارسها إسرائيل ومحاولاتها تغيير مكانة الأراضي المحتلة من جانب واحد من خلال الاستعمار وبناء المستعمرات.
عُقد مؤتمر مدريد
للسلام في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1991 في مدريد
تحت رعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي
، ومهّد الطريق لعمليات السلام اللاحقة، بما في ذلك اتفاقية أوسلو
في أيلول 1993. وكانت الشراكة الأورومتوسطية، التي بدأت في سنة 1995، علامة بارزة أُخرى في السياسة الخارجية الإسبانية الجديدة، إذ صدر في ذلك العام "إعلان برشلونة
" الذي أكد ضرورة تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى منطقة سلام وأمن ورفاهية من خلال التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي. كما أكد أن الشراكة الأورومتوسطية لن تحل محل عملية أوسلو
"بل ستساهم في نجاحها" من خلال دعم "التوصل إلى اتفاق سلام عادل وشامل ونهائي على أساس قرارات مجلس الأمن والمبادئ المنصوص عليها في رسائل الدعوة إلى مؤتمر مدريد للسلام، بما في ذلك مبدأ ’الأرض في مقابل السلام’". لقد ساهم مؤتمر مدريد وعملية برشلونة
في إبراز مكانة إسبانيا وتعزيزها ليس فقط في الإطار الأوروبي، بل أيضاً في منطقة البحر الأبيض المتوسط ككل.
سياسة إسبانيا تجاه السلطة الفلسطينية
بعد وصول الحزب الشعبي
(PP) المحافظ إلى السلطة في سنة 1996، ظل دعم القضية الفلسطينية يشكل أحد الأركان الأساسية لسياسة إسبانيا في الشرق الأوسط
. وصارت إسبانيا أحد المانحين الرئيسيين لـ السلطة الفلسطينية
، وتجسد التزامها بمساعدة الفلسطينيين في الجهود التنموية من خلال عدة مبادرات. فقدمت الوكالة الإسبانية للتعاون الإنمائي الدولي
(AECID) مساعدات مالية واستشارية كبيرة لدعم المؤسسات الفلسطينية وتعزيز التنمية المستدامة. كما اضطلعت المنظمات غير الحكومية الإسبانية بدور نشيط في تقديم المساعدات وتنفيذ المشاريع على الأرض، لتلبية الحاجات الملحة للفلسطينيين. وخلال فترة رئاسة خوسيه ماريا أثنار
الأولى للحكومة، عُيّن الدبلوماسي الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس
مبعوثاً خاصاً لـ الاتحاد الأوروبي
لعملية السلام في الشرق الأوسط، وأدى دوراً مهماً في إبرام بروتوكول الخليل
في كانون الثاني 1997، وفي التوصل إلى مذكرة واي ريفر
في تشرين الأول 1998، وفي مفاوضات طابا
في كانون الثاني 2001، وفي تشكيل اللجنة الرباعية
الخاصة بالشرق الأوسط في مدريد في نيسان/ أبريل 2002، وفي إصدار خارطة الطريق
في نيسان 2003.
اصطفاف إسبانيا إلى جانب سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد سنة 2001
في المقابل، أدى فشل مفاوضات كامب ديفيد
، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، واندلاع الانتفاضة الثانية
في سنة 2000، ثم وقوع هجمات11 أيلول 2001، إلى إحداث تحوّل في سياسة حكومة أثنار الخارجية، جعلها تتقرّب أكثر من إسرائيل، وتسعى لتعزيز علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية وتدعم تدخلها العسكري في أفغانستان
والعراق. ومنذ ذلك الحين، أيدت الحكومة الأسبانية التوجه الذي تبنته إدارة الرئيس بوش
، والقاضي بأن يكون استئناف عملية السلام مشروطاً بقيام السلطة الفلسطينية "بمحاربة الإرهاب" وإصلاح مؤسساتها. وفي الواقع، نصت "خريطة الطريق" (30 نيسان 2003) التي روّجت لها اللجنة الرباعية على أن "حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لن يتحقق إلاّ من خلال إنهاء العنف والإرهاب، عندما يكون لدى الشعب الفلسطيني قيادة تعمل بشكل حاسم ضد الإرهاب ولديها الإرادة لبناء ديمقراطية فاعلة تقوم على التسامح والحرية."
بعد فوز حزب العمال الاشتراكي في انتخابات سنة 2004، عيّن الرئيس خوسيه خوسيه لويس رودريغيث ثاباتيرو
ميغيل أنخيل موراتينوس وزيراً للخارجية والتعاون (2004-2010). وخلال هذه الفترة، زاد الدعم الإسباني للأراضي المحتلة بشكل كبير ووصل إلى أكثر من 100 مليون يورو سنوياً. ودعمت الحكومة الإسبانية، وكذلك العديد من المنظمات غير الحكومية، مشاريع تهدف إلى تحسين الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تمثلت الأزمة الأولى التي تعيّن على الحكومة الاشتراكية الجديدة مواجهتها في فوز حركة "حماس
" في الانتخابات التشريعية التي جرت في 25 كانون الثاني 2006. بعد ذلك، طالب وزير الخارجية موراتينوس الحركة بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، ونبذ العنف، والموافقة على إطار أوسلو كوسيلة لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي بما يتماشى مع مواقف اللجنة الرباعية. وفي أعقاب العملية العسكرية الإسرائيلية التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة في حزيران – أيلول 2006 وأطلقت عليها اسم "عملية أمطار الصيف
"، أعرب موراتينوس عن قلقه بشأن تدهور الأوضاع في قطاع غزة بقوله "إن تدمير البنية التحتية المدنية، مثل محطة كهرباء غزة، وعزل القطاع، يثير مخاوف من أزمة إنسانية خطيرة يواجهها الفلسطينيون الذين يعانون بالفعل من ظروف صعبة؛ إن هدف الحكومة الإسبانية هو درء الأزمة الإنسانية في غزة وإيجاد حلول لها." ومع ذلك، فبعد "عملية الرصاص المصبوب
" (أو "معركة الفرقان") العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة في كانون الأول/ ديسمبر 2008 – كانون الثاني 2009، بادرت الحكومة الإسبانية إلى تعديل مبدأ "العدالة الكونية"، إذ كان هذا المبدأ، الوارد في المادة 234 من القانون الأساسي للسلطة القضائية لسنة 1985
، قد منح القضاء الإسباني صلاحية محاكمة جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والإرهاب المرتكبة في الخارج. وعلى هذا الأساس، في سنة 2008، كانت المحكمة الوطنية الإسبانية
قد قبلت، فعلاً، النظر في عدة شكاوى ضد أفراد عسكريين إسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم حرب، ولتجنب حدوث أزمة مع إسرائيل، عملت الحكومة الاشتراكية الإسبانية على إصدار القانون الأساسي رقم 1/2009
، الذي حدّ من نطاق هذا المبدأ من خلال اشتراط أن يكون للضحايا صلة بإسبانيا.
بعد فوز حزب الشعب في انتخابات سنة 2011، أكد رئيس الوزراء ماريانو راخوي
موقف إسبانيا إزاء القضية الفلسطينية، وذلك خلال الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس محمود عباس
إلى إسبانيا في كانون الأول 2012، إذ أعرب راخوي عن دعمه صيغة "دولتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام وأمن وازدهار"، وشدّد على أن هذا الخيار "هو أمر له طابع تاريخي وتقليدي في إسبانيا إذ يحظى بتأييد أغلبية الشعب الإسباني وجميع الأحزاب السياسية." والحقيقة أن الرأي العام الإسباني يؤيد بوضوح الصيغة القائمة على حل الدولتين، كما يتضح من العديد من الاستطلاعات التي أُجريت في السنوات الأخيرة. لكن على الرغم من إعادة تأكيد تأييد إسبانيا قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة في عدة مناسبات على لسان وزير الخارجية خوسيه مانويل غارسيا مارغالو
(2011-2016)، فإن التعاون التنموي مع الأراضي المحتلة شهد تراجعاً حاداً نتيجة الأزمة الاقتصادية الإسبانية.
العلاقات الإسبانية الفلسطينية بعد سنة 2011
كان للتغيرات التي أحدثتها انتفاضات "الربيع العربي
" سنة 2011 وانتشار الصراعات الإقليمية تأثير سلبي في الاهتمام الذي توليه إسبانيا للقضية الفلسطينية، إذ لم تعد فلسطين أولوية للدبلوماسية الإسبانية. وربما كان التحدي الأكبر الذي تعيّن على الرئيس راخوي مواجهته هو تقدم دولة فلسطين في خريف سنة 2012 بطلب نيل صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة. فبعد مداولات عميقة، أيدت إسبانيا ترشيح فلسطين تماشياً مع مواقفها التقليدية، وصوتت في 29 تشرين الثاني 2012 إلى جانب قرار الجمعية العامة رقم 67/19 الذي منح فلسطين صفة دولة غير عضو تتمتع بصفة مراقب في الأمم المتحدة. وفي 18 تشرين الثاني 2014، وافق مجلس النواب الإسباني بأغلبية ساحقة على اقتراح ليس له صفة إلزامية، قدمته الكتلة البرلمانية الاشتراكية لمصلحة الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، وحث ذلك الاقتراح الحكومة على "الاعتراف بفلسطين كدولة، مما يؤكد مجدداً وجود قناعة بأن الحل الوحيد الممكن للصراع هو التعايش بين دولتين: إسرائيل وفلسطين؛ وهذا الاعتراف يجب أن يكون نتيجة عملية تفاوض بين الطرفين تضمن السلام والأمن لكليهما، واحترام حقوق المواطنين والاستقرار الإقليمي." وعلى الرغم من طابعه القاطع الواضح، فإن هذا المشروع جعل الاعتراف الكامل بدولة فلسطين مشروطاً بالتوافق داخل الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي سيكون من الصعب تحقيقه نظراً إلى تباين الآراء بين الدول الأعضاء.
خلال رئاسة الاشتراكي بيدرو سانشيز كاستيخون
(2018-2023)، واصلت الحكومة دعمها التقليدي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة ومتصلة جغرافياً إلى جانب إسرائيل. ومع ذلك، لم تدعم أي مبادرة دبلوماسية مهمة لمحاولة إعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات، لأسباب ليس أقلها أن وزراء الخارجية جوزيب بوريل
(2018-2019)، وأرانشا غونثاليث لايا
(2020-2021)، وخوسيه مانويل ألباريس
(2021-2023) رأوا أن الحد الأدنى من الشروط غير متوفر لاستئناف الحوار بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
وفي الخلاصة، كان دعم إسبانيا للقضية الفلسطينية حافزاً لإبراز مكانتها على المستوى الدولي، ولم تؤثر العلاقات التي أقامتها إسبانيا في التزامها بالقضية الفلسطينية. وهي باعتبارها عضواً في الاتحاد الأوروبي، واصلت دعم مبادرات عديدة لمصلحة عملية السلام وإقامة دولة فلسطينية. ومع ذلك، فإن التناقض الواضح في السياسة الخارجية الإسبانية تمثّل في أن الاستعمار الإسرائيلي المكثّف للضفة الغربية، وتهويد القدس الشرقية، والحصار المفروض على قطاع غزة، لم يكن له أية آثار سلبية على العلاقات الثنائية الإسبانية الإسرائيلية؛ فعلى الرغم من تعارض هذه الممارسات الإسرائيلية مع تأييد إسبانيا قيام دولة فلسطينية، فإن إسبانيا عزّزت تعاونها الثقافي والسياسي والاقتصادي مع إسرائيل، ولا سيما في مجالات التجارة والتكنولوجيا (الأمن والدفاع والبحوث والزراعة والطاقة والبيئة).
المجتمع المدني الإسباني وقضية فلسطين
تقليدياً، أظهر المجتمع الإسباني تضامنه مع القضية الفلسطينية وتأييده لها على الرغم من عدم وجود جالية فلسطينية كبيرة في إسبانيا (يقدّر عدد أفرادها بنحو خمسة آلاف). وتعتبر الأغلبية الساحقة من الأسبان الفلسطينيين الجزء الأضعف من المعادلة: فهي تنظر إليهم بصفتهم شعب مضطهد يناضل من أجل استرداد حقوقه وبناء دولة مستقلة على الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ سنة 1967. وتعززت هذه الصورة بعد الانتفاضة
التي بدأت في أواخر سنة 1987، والتي أظهرت أن هناك طرفاً قوياً يحتل طرفاً ضعيفاً. وخلال كل تلك السنوات، بيَّنت مختلف الاستطلاعات أيضاً أن التضامن مع القضية الفلسطينية أكبر بين قطاعات اليسار، فيما يتبنى الجناح اليميني مواقف واضحة مؤيدة لإسرائيل.
تدعم الجمعيات الإسبانية الحقوق والمطالب الفلسطينية، وقد وتولت عدة منظمات ومجموعات مهمة التوعية الأساسية على مدى العقود الماضية، من خلال نشر الوثائق وتنظيم الحملات والتظاهرات ودعوة السياسيين والأكاديميين والناشطين الفلسطينيين إلى مخاطبة الرأي العام الإسباني بشأن القضية الفلسطينية. وفي كثير من الأحيان، تصرفت من دون تنسيق فيما بينها، وهو ما أدى إلى تقليل فعالية هذه النشاطات والفعاليات. وفي أكثر الأحيان، تخاطب هذه المنظمات جمهوراً يؤمن بأفكارها، ولهذا كان لمبادراتها تأثير محدود لدى غير المتعاطفين معها.
وقد ظهرت، داخل أوساط المجتمع المدني، ثلاث مبادرات ذات أهمية خاصة؛ تمثلت المبادرة الأولى في لجنة المنظمات غير الحكومية المعنية بقضية فلسطين
التي أُنشئت رسمياً في سنة 1991 على يد مجموعات تضامن من عدة مناطق في إسبانيا، مع أنها كانت ناشطة قبل ذلك بسنوات. وكان هدف هذه اللجنة تعزيز حضور المجتمع المدني الإسباني في المؤسسات الوطنية وفي المنتديات الدولية. أرسلت هذه اللجنة وفوداً إلى المنطقة للاطلاع على الوضع ميدانياً، وأصدرت تقارير لرفع مستوى الوعي لدى الرأي العام الإسباني وتعزيز العلاقات مع المنظمات غير الحكومية الفلسطينية التقدمية التي تنفذ مشاريع في مجالات الصحة والزراعة والمياه.
وتمثلت المبادرة الثانية في إنشاء مجموعة المنظمات غير الحكومية من أجل فلسطين
في سنة 2001، التي تشكّلت على أساس التنسيق غير الرسمي بين منظمات غير حكومية من منصة 2015 وأكثر
، والاتحاد الإسباني لجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيزها
، التي تنشط "في مجال التعاون التنموي والتضامن مع الشعب الفلسطيني وإنفاذ حقوقه غير القابلة للتصرف". وتتكون هذه المجموعة من تسع منظمات لها حضور منذ فترة طويلة في فلسطين حيث أسست نحو 100 مشروع تعاوني وإنساني في مختلف المجالات بما فيها الصحة والتعليم وحقوق الإنسان وحقوق السجناء والتنمية الريفية والمساواة بين الجنسين والمياه والصرف الصحي. ومن أجل دعم السلام العادل، تعمل هذه المنظمات على تعزيز القانون الدولي وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية وتساعد على تقوية المجتمع المدني مؤسسياً في المنطقة.
وهناك مبادرة ثالثة هي شبكة التضامن ضد احتلال فلسطين
وتعرف اختصاراً باسم (RESCOP). تضم هذه الشبكة، التي أُنشئت سنة 2005، 36 جمعية وهي بمثابة هيكل عمل منفتح ومرن لمنظمات التضامن مع فلسطين في جميع أنحاء إسبانيا، تسعى لتوحيد جهودها وللعمل معاً لتحقيق أهدافها. ولتحقيق هذه الغاية، نظمت حملات تضامنية، مثل تلك التي تقام في يوم النكبة
ويوم الأرض
. والشبكة عضو في لجنة التنسيق الأوروبية من أجل فلسطين
، وحملة أوقفوا الجدار
، وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات
.