مقاتلو أيلول الأسود
يقتلون اثنين من الرياضيّين الإسرائيليين ويحتجزون تسعة آخرين خلال الألعاب الأولمبيّة في
تعيش في
هاجر الفلسطينيون إلى ألمانيا في ثلاث موجات رئيسية؛ ففي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، رحل المهاجرون (ومعظمهم من الرجال) إلى ألمانيا للدراسة أو العمل. وفي الثمانينيات، كانت ألمانيا الوجهة الأولى للفلسطينيين الذين هربوا من الحرب في لبنان . وفي السنوات الأخيرة، لجأ الفلسطينيون المقيمون في سوريا مرة أُخرى إلى ألمانيا هرباً من الحرب بعد الدمار الذي لحق بمنازلهم في مخيمات اللاجئين التي عاشت فيها عائلاتهم منذ سنة 1948.
الهجرة الفلسطينية إلى ألمانيا
في ستينيات القرن العشرين، استقدمت الشركات الألمانية وصناع القرار السياسي أعداداً من العمال عندما شهدت البلاد طفرة صناعية واقتصادية. و بعد حرب عام 1967 ، وجد الفلسطينيون من أبناء القدس الشرقية وغزة والضفة الغربية ، الذين كانوا قد انتقلوا إلى ألمانيا قبل الحرب للعمل أو الدراسة أو اكتساب المعرفة التي تحتاج إليها حركة التحرير الفلسطينية، أنفسهم وقد صاروا لاجئين. والسبب في ذلك أن إسرائيل لم تمنح حق الإقامة في الأراضي المحتلة إلاّ للذين كانوا يقيمون فيها فعلاً وقت إجراء التعداد السكاني في بداية الاحتلال. كان ذلك بمثابة عملية تهجير ثانية للعديد من الفلسطينيين الموجودين في ألمانيا في ذلك الوقت، بعد نزوحهم الأول في سنتي 1947 و1948 عندما كانوا أطفالاً. وكان عدم تمكنهم من العودة أشبه بتجربة الطرد التي عاشها آباؤهم في أثناء النكبة ، وهي التجربة التي غالباً ما ألقوا باللوم فيها في سرهم على جيل آبائهم. وقد غادر بعض الفلسطينيين الأراضي المحتلة بعد سنة 1967 من أجل الدراسة في ألمانيا، وذلك بفضل برامج الدراسة في الخارج التي أتاحتها إسرائيل، ثم حرمتهم من حق العودة بعد الانتهاء من دراستهم، وظل هؤلاء في ألمانيا وتزوجوا من ألمانيات.
بعد عملية احتجاز الرياضيين الإسرائيليين رهائن خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ سنة 1972
، تم ترحيل مئات الفلسطينيين من ألمانيا كنوع من العقاب الجماعي، في إجراء يفتقر إلى أي أساس قانوني؛ إذ تم الفصل بين أفراد عائلات بأكملها، واضطُر الرجال إلى مغادرة
أمّا الفلسطينيون الذين هاجروا إلى ألمانيا في ثمانينيات القرن العشرين فهم من أبناء وأحفاد لاجئي سنتي 1947 و1948. وقد وُلدوا وعاشوا في مخيمات اللاجئين في لبنان وفروا إلى ألمانيا الغربية هرباً من الحرب الأهلية؛ واستقر هؤلاء بشكل رئيسي في اثنين من أحياء
وبالنسبة إلى الفلسطينيين الذين فروا من الحرب في سوريا إلى ألمانيا، فهم أولئك الذين فروا أو هُجّروا من ديارهم في فلسطين إلى سوريا في أثناء نكبة سنة 1948. وفي سوريا، مُنحوا حقوقاً كاملة، لكن لم يكن في إمكانهم الحصول على الجنسية السورية. وفي ألمانيا، مُنحوا وضعية "غير محددة" لكنهم حصلوا على حقوق الإقامة والحق في العمل. وكانت الدولة الألمانية حريصة على العمل على دمج اللاجئين الآتين من سوريا، لأنهم كانوا في معظمهم متعلمين، وذلك بهدف تعزيز الاقتصاد الألماني وتعويض النقص في العمال في قطاعات معينة مثل خدمات الرعاية وقطاع الضيافة.
النكبة مقابل الهولوكوست
كان العديد من الفلسطينيين الذين هاجروا إلى ألمانيا الغربية في ستينيات القرن العشرين متعلمين تعليماً جيداً، وكانوا يعملون في مهن ذات مكانة اجتماعية مرموقة، وتزوجوا من مواطنين ألمان. ومع ذلك، لم تعترف الدولة (والمجتمع ككل) بأن المهاجرين الفلسطينيين تعرضوا للطرد من وطنهم على يد إسرائيل، وفي بعض الحالات أكثر من مرة. فالنكبة، وهي نتيجة مباشرة لـ المحرقة (الهولوكوست)، ليس لها مكان في الذاكرة الجماعية الألمانية. وإسرائيل، من المنظور الألماني للعالم، هي ملاذ آمن لليهود. ولا يتم الاعتراف بالتجربة العنيفة التي تعرض لها الفلسطينيون؛ وعندما يتم الحديث عنها أو تظهر في سياق ما فإنه يُنظر إليها على أنها أمر ينطوي على تهديد، أمر يحاول أن يحجب الهولوكوست ويلوث تجربة العنف التي تعرض لها اليهود، فضلاً عن الثقافة الألمانية لتخليد ذكرى المحرقة. إن تصوير الهولوكوست والنكبة باعتبارهما حدثين متعارضين يجعل من الصعب فهم العنف الذي يستهدف الفلسطينيين باعتباره استمراراً لمعاداة السامية الأوروبية. وهذا يسمح لألمانيا بأن ترى نفسها على أنها أمة تجاوزت أخطاء الماضي واستعادت مكانتها الأخلاقية.
لقد عانى الجيلان الأول والثاني من المهاجرين الفلسطينيين في ألمانيا على نحو عميق من مأسسة تخليد ذكرى الهولوكوست وتغييب النكبة. وينبع كثير من الصدمات التي تعرض لها الفلسطينيون في هذا البلد من ما يسميه
باختصار، يبدو أن العنف الذي تعرّض له الفلسطينيون في ألمانيا كان بغرض تأديبهم وتعديل سلوكهم وإخضاعهم. إذ يُنظر إلى الفلسطينيين باعتبارهم أشخاصاً يستحقون معاملتهم بعنف، وهذا جعل الكثيرين منهم، وخصوصاً بين الجيل الأول من المهاجرين، يستبطنون العنف الذي تعرضوا له باعتباره نتيجة أفعالهم هم؛ وهذا ولّد لديهم شعوراً "بالخزي" ودفعهم إلى لوم الذات. وأدى هذا إلى جعلهم يخافون من الظهور ومن ممارسة نشاط سياسي، ودفعهم أيضاً إلى الخوف من الشعور بالغضب والحزن، ناهيك عن التعبير عنهما، وهو ما يؤدي بدوره إلى الاكتئاب والعزلة والموت الاجتماعي وتدمير الذات. ولدى كثيرين منهم، أدى استمرار العنف العنصري في
مجتمع مجزأ داخلياً
أدى العنف الذي مارسته الدولة، إلى جانب العزلة الذاتية والخوف، إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني في ألمانيا وحال دون نشوء تنظيمات فلسطينية. بعد سنة 1967، حاول الطلاب الفلسطينيون تنظيم حملات توعية عامة لزيادة الوعي، لكن أحداث سنة 1972 خنقت هذه المبادرات. ثم حاولوا تنظيم أنفسهم مرة أُخرى في أواخر الثمانينيات، وشُكلت تجمعات وجمعيات مهنية غير مسجلة في المدن الكبرى. كانت التجمعات تنتظم على مستوى الأقاليم وبشكل مستقل عن بعضها بعضاً. ورأت دورها في المقام الأول في الحفاظ على الثقافة الفلسطينية والهوية العربية الفلسطينية ونظمت دورات لغوية وفعاليات ثقافية للفلسطينيين.
نُظمت جمعيات مهنية (على سبيل المثال، للأطباء والصيادلة والمهندسين المعماريين) على مستوى البلد. وحافظت على علاقات وثيقة مع الجمعيات المهنية في فلسطين ورأت أن دورها يتمثل في مساعدة الفلسطينيين في وطنهم. ولم تتحول إلى جمعيات مسيَّسة إلاّ بعد بدء عملية أوسلو
. وبدأت بتنظيم حملات للتوعية والتواصل وبدعوة الألمان إلى المشاركة في الفاعليات السياسية والمناسبات الوطنية مثل يوم الأرض
ويوم النكبة
. وفي سنة 1986، كانت قد تأسست الجمعية الألمانية الفلسطينية
وهدفها في المقام الأول تثقيف الألمان وتوعيتهم بشأن قضية فلسطين. وفي سنة 2024، صار الألمان يشكلون نحو 80 في المئة من أعضائها. لكن كل هذا العمل السياسي ازداد صعوبة إلى حد كبير بعد قرار البرلمان الألماني (
الدولة تطالب بالولاء لإسرائيل
في السنوات الأخيرة وعلى نحو أشد كثافة بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تم إضفاء الطابع المؤسسي على التصوير السلبي للهوية الفلسطينية وشيطنتها على نحو متزايد في سياسات الدولة ومؤسساتها. في أيار/ مايو 2019، أقر البرلمان الألماني قراراً يدين حركة المقاطعة السلمية BDS باعتبارها معادية للسامية. وحظر القرار على البوندستاغ أن يوفر قاعات أو يمنح تمويلاً للمنظمات المرتبطة بحركة المقاطعة ودعا المقاطعات والبلديات إلى أن تفعل الشيء نفسه، وجعل من المسموح إدانة أي شخص يدافع علناً عن حقوق الفلسطينيين. وجاء قرار البوندستاغ في أعقاب قرار
وذهبت ألمانيا إلى أبعد من ذلك؛ فبعد 7 تشرين الأول 2023، دعا البوندستاغ الحكومة إلى جعل التضامن والدعم الكاملين لإسرائيل جزءاً من مبررات وجود الدولة الألمانية وحماية حياة اليهود في البلد من خلال مكافحة معاداة السامية في ألمانيا على نحو أكثف وأشد صرامة. ووصف الخطاب السياسي والإعلامي حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد السكان المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة بأنها حرب ضد معاداة السامية. وبالتوازي مع ذلك، تم تصوير المجتمعات المهاجرة العربية الفلسطينية على أنها تهديد للحياة اليهودية في ألمانيا. وسهّلت الهيئة المسؤولة عن شؤون التعليم في برلين الرقابة على كل ما يعبّر عن الهوية الفلسطينية من خلال اعتبار مثل هذه الإشارات والرموز مهدِّدة وتحض على العنف. وفي رسالة إلى مديري المدارس في برلين، سمحت هيئة التعليم بحظر الرموز التي رأت أنها تمجد العنف ضد إسرائيل مثل الكوفية أو ملصقات فلسطين الحرة في المدارس بزعم الحفاظ على السلام المدرسي. ونصحت السلطات الطلاب والمعلمين في المدارس بطلب المساعدة من الشرطة لمعاقبة القاصرين الذين يعبِّرون عن دعمهم لهجوم حركة "
في السابع من تشرين الثاني 2024، تبنى البرلمان الألماني قراراً بعنوان "لن يتكرر مرة أُخرى الآن: حماية الحياة اليهودية في ألمانيا وصونها وتعزيزها" يشدد القيود على الحرية الأكاديمية. والقرار الذي انتقده على نطاق واسع خبراء القانون الدستوري وغيرهم، يجعل تخصيص التمويل العام للفنون والعلوم متوقفاً على الالتزام بتعريف مثير للجدل إلى حد كبير، مفاده أن أي خطاب ينتقد إسرائيل يمثّل معاداة للسامية.
ردة فعل الجالية الفلسطينية على الإبادة الجماعية في قطاع غزة
بدأ المهاجرون الفلسطينيون من الجيل الثاني يستعيدون هويتهم وتاريخهم المنبوذيَن اجتماعياً، وبدل إنكار الذات اتبعوا سياسات تبرز وجودهم وتعزز حضورهم في المجتمع. كان الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة سنة 2014 والإبادة الجماعية التي تُرتكب (2023-2024) في غزة بمثابة نقطة تحول لكثيرين منهم. لقد كان تصعيد تبرير العنف الذي تمارسه دولة إسرائيل في الخطاب العام الألماني حتى في الوقت الذي ترتكب فيه إسرائيل حرب إبادة جماعية بمثابة تكرار للصدمات التاريخية الجماعية التي تعرض لها الفلسطينيون نتيجة الاستيطان الاستعماري، وعدم الثقة بالمجتمع الذي نشأوا فيه، والشعور بالاغتراب.
وصارت الحدود بين "هنا" – ألمانيا- و"هناك"- فلسطين التاريخية -أكثر ضبابية لدى الألمان من أصل فلسطيني. ألقى الجيل الأول من المهاجرين في السابق باللوم في غياب التعاطف مع الفلسطينيين على جهل المجتمع الألماني بما لاقوه، لكن الجيل الثاني من المهاجرين صار أكثر ميلاً إلى تفسير ذلك على أنه عنصرية معادية للفلسطينيين. ولذلك أخذوا يبنون أطر تضامن تتجاوز الحدود الوطنية، ويقاومون التفتت، ويضعون أنفسهم في إطار الشتات الفلسطيني الأوسع. وقد أدى هذا التطور بين الأجيال إلى استعادة التجربة المفقودة والشعور بالانتماء والقدرة والكفاءة الذاتية على المستويين الذهني والعاطفي. ويكتشف أفراد الجيلين الثاني والثالث من الألمان الفلسطينيين الحزن والغضب اللذين حُرم آباؤهم من التعبير عنهما وصاروا أكثر حضوراً؛ يعلنون هويتهم الفلسطينية في الأماكن العامة، ويخرجون إلى الشوارع بانتظام، ويدافعون عن حق الفلسطينيين في الحرية والمساواة. إنهم ينظمون أنفسهم في حركات شعبية مناهضة للاستعمار والعنصرية (منها: فلسطين تتحدث
، الفلسطينيون وحلفاؤهم
، حملة فلسطين
، لجنة وقف إطلاق النار
، ائتلاف طلاب برلين
، نضالات
)، ويتهمون ألمانيا علناً بالتواطؤ في جريمة الإبادة الجماعية. (تأتي ألمانيا في المرتبة الثانية بعد