في اليوم الذي تقوم إسرائيل بغزو مصر، فإنّها تعلن حظر التجول على جميع القرى الفلسطينيّة على امتداد خط الهدنة مع الأردن. يبدأ حظر التجوّل الساعة 5 مساء، لكنّ الأمر لا يصل إلى معظم القرى حتى فترة ما بعد الظهر، بالإضافة إلى أن العديد من القرويّين كانوا يعملون بعيداً من قراهم. يتمّ توجيه الأوامر إلى وحدات حرس الحدود المكلّفة بإنفاذ نظام حظر التجوّل، بإطلاق النار فوراً على كل مَن يخرقه من القرويين. في كفر قاسم ، تطلق وحدة حرس الحدود المكلّفة فرض نظام حظر التجوّل، النار وتقتل 49 مدنيّاً فلسطينيّاً لدى عودتهم من العمل، ومن بينهم نساء وأطفال، غير مدركين أنّ حظر التجوّل كان فرض على قريتهم.
تتميز مجزرة كفر قاسم عن غيرها من المذابح التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين منذ سنة 1948 بأن مسرح الجريمة قرية فلسطينية داخل أراضي الدولة وضحاياها مدنيون مسالمون من مواطنيها. وعلى الرغم من وقوع المجزرة في اليوم الذي بدأ فيه حرب عام 1956 على مصر ، إلاّ أن موقع الحدث كان بعيداً جداً عن جبهة القتال في قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء . لقد نفذ المذبحة بأهالي القرية جنود من حرس الحدود بناء على أوامر من قيادة الجيش الإسرائيلي التي فرضت حظراً مفاجئاً للتجول على الأهالي، بمَن فيهم العائدون إلى بيوتهم من أعمالهم الذين لم يكن بمقدورهم أن يعلموا ببدء سريان الحظر. يهدف هذا النص إلى التعريف بأهم حيثيات المذبحة وإبراز خصوصياتها وآثارها السياسية والقضائية على المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. وكذلك يعرض باختصار مكانة هذا الحدث في الوعي والذاكرة لدى الفلسطينيين عموماً، وفي الداخل خصوصاً.
تقع كفر قاسم
في الجزء الجنوبي من المثلث الصغير الذي سلمته الأردن
إلى إسرائيل في أعقاب اتفاقية الهدنة في
نهار بدء العدوان الثلاثي على مصر (يوم الاثنين 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1956)، قررت الحكومة الإسرائيلية وجيشها فرض منع التجول على القرى العربية المحاذية للأردن. في اليوم نفسه، في الساعة الرابعة والنصف مساء، أعلم رقيب من حرس الحدود مختار قرية كفر قاسم بقرار منع التجول ابتداء من الساعة الخامسة مساء، أي قبل نصف ساعة فقط من بدء سريان القرار، الأمر الذي يعني أن المئات من أهل القرية الذين خرجوا صباحاً للعمل لم يكن بوسعهم معرفة قرار الحظر لدى عودتهم إلى منازلهم. وكان الجنود الذين أُوكلوا تنفيذ القرار في قرية كفرقاسم أُبلغوا بأن "عليهم إطلاق النار بنية القتل على كل إنسان يُشاهَد بعد الساعة 17 خارج البيت، من دون تفريق بين رجال ونساء وأولاد وعائدين من خارج القرية." فلما عاد بعض الأهالي إلى بيوتهم بعد الساعة الخامسة، أوقفهم جنود حرس الحدود في الجهة الغربية من القرية، وأنزلوهم من دراجاتهم أو عرباتهم أو سياراتهم وبدأوا بإطلاق النار عليهم عن قرب، فقتلوا 49 من سكان كفر قاسم بدم بارد، خلال ساعة واحدة. ولما وصلت أخبار قتل هذا العدد الكبير من الأهالي، رجالاً ونساء وأطفالاً، إلى قيادة الجيش والحكومة الإسرائيلية، حاولت هذه بشتى الطرق التعتيم على المذبحة البشعة. لكن الأخبار تسربت تدريجياً ووصلت إلى أسماع صحافيين وناشطين وأعضاء في الكنيست من الشيوعيين وغيرهم، فقام بعضهم بتحدي الحواجز العسكرية وزيارة القرية لجمع المعلومات الدقيقة وإيصالها إلى الرأي العام.
وبعد أن انكشفت تفاصيل المذبحة التي نفذها جنود الدولة اليهودية بزيهم العسكري وبأوامر واضحة من القيادة العسكرية العليا بإطلاق النار على مواطنين عائدين إلى بيوتهم، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى تقديم الجناة إلى المحكمة. وعلى الرغم من النقد الشديد الذي وُجِّه إلى تقديم الجنود للمحاكمة، وليس القيادة العليا المسؤولة، وإلى الأحكام الخفيفة على القتلة، فإن المحاكمة والأحكام كانت علامة فارقة في تاريخ المكانة السياسية والقضائية للعرب في إسرائيل. فما بين انتهاء النكبة وحتى مذبحة كفر قاسم، قتلت قوات الأمن الإسرائيلية عشرات المواطنين العرب كل عام، من دون أن يقدم أي من هؤلاء القتلة إلى المحكمة أو أن يدفعوا ثمناً لأعمالهم الإجرامية. لذا فإن تقديم منفذي مذبحة كفر قاسم للمحاكمة ثم سجنهم شكَّل سابقة قانونية بأن القتلة قد يدفعون ثمن أعمالهم حتى لو كانت تنفيذاً لأوامر من قياداتهم. وقد وصفت المحكمة مثل تلك الأوامر بقولها "إن علماً أسود يرفرف فوقها" بمعنى أنها غير أخلاقية ولا قانونية على الرغم من صدورها عن ضباط في الجيش لجنودهم.
لم تغير المذبحة من السياسة العدائية تجاه الأقلية الفلسطينية في إسرائيل ولا أدت إلى تعديلات في سياسات الحكومة أو الحكم العسكري القمعية. لقد أُطلق سراح آخر المحكومين بالسجن سنة 1960، نتيجة لتخفيف الاحكام والعفو عنهم. كما أن أعضاء الحكومة ورئيسها عبّروا عن تضامنهم مع القتلة من خلال "تعويضهم" عن مدة سجنهم بتعيينهم في وظائف بعضها في مواقع المسؤولية عن المواطنين العرب في مدينة اللد وغيرها من الأماكن. وصار الحكم الذي صدر على الضابط الأعلى رتبة، يششخار شدمي ، المسؤول عن إصدار أوامر منع التجول المشدد، القاضية بإطلاق النار على العائدين إلى بيوتهم بعد الخامسة، مثار سخرية وتعبيراً عن استهتار إسرائيل بحياة المواطنين العرب. فقد حكم عليه بالتوبيخ ودفع قرش واحد كغرامة. وأثار قتل عشرات الأبرياء في كفر قاسم ذاكرة دير ياسين وغيرها من المذابح التي رافقت عملية التطهير العرقي عام النكبة. ورأى البعض أنها أسوأ مما جرى سنة 1948 لأنها نُفذت ضد مواطنين، بأيدي جنود حرس الحدود الذي كانوا بزيهم الرسمي، وبأوامر عسكرية تلقوها من قياداتهم، وفي منطقة لم تكن تجري فيها أعمال حربية.
على الرغم من أن مذبحة كفر قاسم لم تترك أثراً كبيراً في سياسة الحكومة وفي نظرة المجتمع تجاه الفلسطينيين في إسرائيل، إلاّ أن هذا الحدث صار مركّباً هاماً في إعادة بناء الهوية الجمعية للبقية الباقية من الفلسطينيين في إسرائيل. فبعد انكشاف تفاصيل العمل الاجرامي، كثّف الشيوعيون هجومهم على الحكومة وسياساتها الداخلية والخارجية. وتبنّت صحيفة "الاتحاد" على صفحتها الأولى موقفاً حازماً وصريحاً يدعو إلى "ضرورة وقف الاضطهاد القومي والعدوان على السكان العرب المسالمين". وتشابكت تداعيات مذبحة كفر قاسم مع نتائج العدوان الثلاثي السياسية، والتي جاءت لغير صالح إسرائيل. فقد سطع نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر في العالم العربي وصار له تأييد كبير بين الفلسطينيين عموماً، والباقين منهم في إسرائيل خصوصاً. هذه التداعيات أدت إلى التقارب والتعاون بين الشيوعيين والقوميين سنة 1957 وقاد ذلك إلى إقامة جبهة عربية لمقاومة السياسات الإسرائيلية ومظاهرات الأول من أيار 1958 الصاخبة في كل من الناصرة وأم الفحم وغيرهما.
أمّا في كفر قاسم نفسها فقد فُرض على الأهالي قبول "صلحة" رسمية مع الحكومة ومؤسستها العسكرية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1957. والأمر الوحيد الذي نجحوا في الحؤول دونه هو محاولة السلطات إحضار المتهمين القتلة ليشاركوا في مراسم الصلحة. في السنوات الأولى بعد المجزرة، وفي ظل الحكم العسكري، خشي الأهالي المبادرة إلى إقامة ذكرى شعبية وسياسية للمذبحة، فظلت المراسم ضيقة النطاق. لكن هبة يوم الأرض سنة 1976 غيّرت الأجواء السياسية فأقيم في القرية نصب تذكاري ذلك العام، تم تجديده فيما بعد.
صارت ذكرى مذبحة كفر قاسم ثم ذكرى يوم الأرض من أبرز معالم الهوية الجمعية والقومية للفلسطينيين في إسرائيل. فالحدث الأول صار رمزاً للصمود والبقاء على الرغم من سياسة الترهيب في الخمسينيات من القرن العشرين، بينما أصبح يوم الأرض انتفاضة أولى لصد سياسة نهب الأراضي والتضييق المستمر على الفلسطينيين الباقين في الداخل. وقد أقام أهالي كفر قاسم في العقود الأخيرة متحفاً لتجذير مكانة المذبحة في الذاكرة الفلسطينية، كما عملوا على إحياء هذا الحدث بالمشاركة مع ناشطين وقيادات سياسية. وقد شهدت سنة 2016، مثلاً، نموذجاً جيداً لموقع الحدث في الذاكرة بمناسبة مرور ستين عاماً على المذبحة، فانطلقت مسيرات شعبية سار في مقدمتها العديد من أعضاء الكنيست العرب وقيادات من الحكم المحلي.