تهدف عملية نحشون
الصهيونية، التي تشكل المرحلة الأولى من "
لم تكن مجزرة دير ياسين
الأولى التي تنفذها القوات الصهيونية في فلسطين، كما أنها لم تكن الأخيرة، إلاّ إن ما رافقها من أحداث سياسية وعسكرية جعلها نقطة تحوّل في
تقع دير ياسين على المنحدرات الشرقية لتل يبلغ علو قمته 800 م، وكانت تواجه الضواحي اليهودية لـ القدس الغربية التي شملت ست مستعمرات كان أقربها مستعمرة جفعات شاؤول ، وشكلت هذه المستعمرات سداً منيعاً بين دير ياسين والقدس ، وفصل بينها وبين المستعمرات اليهودية وادٍ ذو مصاطب غُرست فيها أشجار اللوز والتين والزيتون وكروم العنب. وارتبطت بالعالم الخارجي بواسطة طريق ترابية واحدة تسلكها السيارات شمالي الوادي، وتمر عبر جفعات شاؤول، ومنها إلى القدس، وكانت أقرب القرى العربية إليها عين كارم ولفتا . وفي سنة 1948، بلغت مساحة دير ياسين 2,700 دونم، كان أكثر من نصفها مزروعاً، أمّا عدد سكانها فقدّر بـ 750 نسمة، وعدد منازلها 144 منزلاً.
سبق الهجوم على دير ياسين تطورات سياسية وعسكرية كان لها تأثير كبير في مسار الأحداث. فبعد صدور
ولا شك في أن الأسبوعين الأولين من نيسان/ أبريل 1948 شهدا تحولاً نوعياً في ميزان القوى بين الصهيونيين والفلسطينيين، إذ كانت القيادة الصهيونية قد بدأت في الرابع من نيسان تنفيذ
وجاء قرار الإرغون وشتيرن بالهجوم على دير ياسين في 6 نيسان بعد الإنجاز الذي حققته قوات الهاغاناه باحتلال قرية القسطل الإستراتيجية. ويقول رئيس استخبارات الهاغاناه في القدس في حينه، يتسحاق ليفي ، أن اختيار دير ياسين جاء بسبب قلة موارد المنظمتين نسبياً، وعجزهما عن القيام بعملية واسعة النطاق على غرار عمليات الهاغاناه، وخشية أن يتم عزلهما لدى الرأي العام اليهودي. وإضافة إلى الرغبة في تسجيل انتصارات، كان هناك أهداف أُخرى منها: الانتقام لمعركتي كفار عتصيون وعطروت مع أن دير ياسين لم تشترك في أي منهما؛ السلب والنهب كون دير ياسين من القرى العربية الغنية؛ التنفيس عما في الصدور من كراهية عنصرية دفينة.
وبحسب خطة الهجوم التي وضعتها قيادات المنظمتين، سيكون التحرك على أربعة محاور بحيث تتقدم مجموعة من جفعات شاؤول، ومجموعة أُخرى تتقدمها مصفحة عليها مكبر للصوت من الشرق إلى قلب القرية، ومجموعة ثالثة تنطلق من مستعمرة بيت هكيرم لتقتحم القرية من الناحية الشرقية الجنوبية عند جامع الشيخ ياسين، بينما تنطلق المجموعة الرابعة من بيت هكيرم وتهاجم بحركة التفافية من الغرب. وعليه، قررت المنظمتان حشد قوة تضم 200 من أشرس مقاتليها لتنفيذ الهجوم، ووضع نحو 70 منهم في الاحتياط.
كما تم بحث التفصيلات التي شملت مسألة معاملة الأسرى والشيوخ والنساء والأطفال، فأيدت الأكثرية فكرة تصفية جميع الرجال وكل من يقف بجانبهم، وتم تحديد ساعة الصفر في الخامسة والربع من فجر يوم الجمعة في 9 نيسان. ويتضح من المراسلات والمحادثات بين قادة المنظمتين وقيادات في الهاغاناه، أن الأخيرة أعطت المنظمتين ضوءاً أخضر للهجوم على دير ياسين، وأن مصيرها كان مقرراً ومحتوماً إن عاجلاً أو آجلاً.
خلال الأسابيع التي سبقت المذبحة، كان الأهالي في حال من الحذر الشديد والتوجس. فعلى الرغم من أن وجهاء القرية كانوا قد عقدوا اتفاق عدم اعتداء مع مستعمرة جفعات شاؤول في كانون الثاني/ يناير 1948، إلا أنهم كانوا يشعرون بأن الأمور لم تكن مستتبة، وخصوصاً بعد سقوط القسطل واستشهاد عبد القادر الحسيني ، وكان عدد من أبناء القرية قد شارك في معركة القسطل. لذلك، كان رجال دير ياسين في حال تأهب شديد يتناوبون الحراسة متسلحين ببنادق قديمة.
وعندما بدأ الهجوم فجراً، دارت معركة غير متكافئة، ومع ذلك فقد قاتل أبناء دير ياسين قتالاً بطولياً ولم يتوقفوا إلاّ بعد نفاد ذخيرتهم. وتشير المصادر الصهيونية إلى أن المهاجمين واجهتهم مقاومة عنيفة، وأن عدداً كبيراً من الإصابات وقع في صفوفهم، وهو ما استدعى طلب النجدة من قوات الهاغاناه كي يتمكنوا من استكمال هجومهم. وما إن تمكنت المنظمتان بمساعدة الهاغاناه من دخول دير ياسين حتى بدأ أفرادهما تنفيذ مجزرة بحق أهالي القرية مستخدمين أكثر الأساليب وحشية، من قتل الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والتمثيل بالجثث، إلى نسف المنازل على رؤوس السكان الأحياء، واستباح المهاجمون القرية فنهبوا كل ما وقعت عليه أيديهم. ثم عمد الإرهابيون بعد ذلك إلى تجميع الأسرى، فنقلوا نحو 150 من "أسراهم" من الشيوخ والأطفال والنساء في شاحنات وطافوا بهم في موكب نصر في الأحياء اليهودية قبل قذفهم على حدود الأحياء العربية ليرووا للقيادات الفلسطينية وللأهالي، ولممثلي الصحافة العربية والدولية، ما جرى في دير ياسين. وتحفل الكتابات التي تناولت المجزرة بشهادات الناجين الذين تحدثوا عن الممارسات الوحشية، ونقلوا مشاهداتهم عن عائلات قٌتلت بأكملها، وأسماء الشهداء من الأقارب الذين خلّفوهم وراءهم في القرية.
وذكر مئير باعيل
، وهو أحد رجال استخبارات
ويُعتبر
"كان جلّ أفراد العصابة، سواء الرجال منهم أو النساء، من الأحداث، وبعضهم في سن المراهقة، وكانوا جميعاً مدججين بالسلاح، يحملون المسدسات والرشاشات والقنابل اليدوية والسكاكين الطويلة. وكانت معظم السكاكين ملطخة بالدماء. وكان واضحاً أن هذا هو فريق التطهير أي الإجهاز على الجرحى وأنه كان يقوم بمهمته خير قيام."
ويتحدث دو رينييه عن الجثث المكدّسة خارج المنازل وداخلها، وعن ثلاثة أحياء فقط تمكن من إنقاذهم. ولاحقاً طلب منه المسؤولون العرب دفن الشهداء بصورة لائقة في موقع يمكن التعرف عليه.
بعد تنفيذ المجزرة عقد قادة المنظمتين الإرهابيتين مؤتمراً صحافياً في القدس دعوا إليه ممثلي الصحف والإذاعات الأميركية دون غيرهم، وتباهوا فيه بنصرهم العسكري واحتلال القرية وإبادة سكانها، كما تباهوا باشتراك قوات البلماح في الهجوم، وهو ما أحرج الوكالة اليهودية كل الإحراج، وذكروا كذباً أنهم قضوا على 245 عربياً، وهو رقم تناقلته فوراً الإذاعات الحكومية وكذلك محطات الإذاعة في العواصم العالمية والعربية، إلاّ إن المصادر قدّرت عدد الشهداء بـ 100، بلغت نسبة الإناث والأطفال والصغار دون 15 سنة والكهول والشيوخ من الذكور 75% من مجموع الشهداء من جميع الأعمار. ومن الواضح أن القوات الصهيونية تعمّدت المبالغة في أعداد الضحايا ونشر التفصيلات المرعبة بهدف إثارة الرعب في نفوس الفلسطينيين ودفعهم إلى الرحيل خوفاً من مصير مماثل.
خاضت دير ياسين المعركة بمفردها، وعلى الرغم من وجود قوة من
وقد حاول الفلسطينيون من ناحيتهم تحريك الرأي العام العالمي تجاه ما حدث عن طريق الصحافة وأجهزة الدعاية التي استخدموها على نطاق واسع لنشر أخبار المجزرة، إلاّ إن النتيجة كانت عكسية، إذ بدلاً من أن تؤثر أنباء المجزرة في الرأي العام العالمي، انعكس تأثيرها سلباً على السكان الفلسطينيين في باقي المناطق. ولم يكن الدكتور حسين فخري الخالدي ، أمين سر الهيئة العربية العليا في القدس، يتوقع هذه النتيجة عندما أذاع بياناً عن المذبحة، كان غرضه التشهير بالصهيونيين وتحريك النخوة العربية. غير أن المذبحة أزالت تردد الملك فاروق عندما أحاط القادة العرب علماً (في 12 نيسان) بأن مصر ستنضم إلى الجيوش العربية للدفاع عن فلسطين فور الجلاء المتوقع للبريطانيين في 15 أيار/ مايو.
بحلول نهاية سنة 1948، كان قد هُجّر سكان أكثر من 400 قرية ودُرست منازل بعضها درساً. أمّا فيما يتعلق بقرية دير ياسين، فقد قررت الحكومة الإسرائيلية فيما بعد تحويل معظم مبانيها إلى مصحّ للذين يعانون أمراضاً عقلية فأحاطتها بالسياج وقيدت دخولها بإذن خاص.