شكّل النزوح محركاً رئيسياً لتاريخ قطاع غزة الحديث. وكان القطاع، في فلسطين الانتدابية ، جزءاً من قضاء غزة، ولم يصبح وحدة إدارية وسياسية شرق البحر المتوسط على مساحة قدرها 360 كيلومتراً مربعاً إلاّ بعد سنة 1948. ولم تؤدِ النكبة إلى رسم حدودَه المعاصرة فحسب، بل أسّست أيضاً تاريخه الحديث كموقع لسياسات التهجير الإسرائيلية المستمرة، والتي بدأت في أواخر الأربعينيات، ولا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
أحدثت النكبة انعطافاً في مصير الشعب الفلسطيني، وأعادت تشكيل غزة. فمن بين 750.000 فلسطيني طُردوا إلى المنفى بين سنتي 1947 و1949، لجأ إلى قطاع غزة نحو 200.000 فلسطيني، معظمهم من جنوب فلسطين ووسطها، فتضاعف عدد سكان القطاع أكثر من ثلاث مرات، إذ كان في السابق موطناً لـ 80.000 نسمة. ويشكّل هؤلاء اللاجئون وذريتهم اليوم نحو 80% من إجمالي السكان. ولهذا فإن الازدحام الحالي في قطاع غزة -الذي يُعتقد أنه أكثر الأماكن كثافة سكانية على وجه الأرض- يُعزى مباشرة إلى عمليات الطرد الإسرائيلية في أواخر الأربعينيات.
خضع القطاع للإدارة المصرية من سنة 1948 إلى سنة 1967. وخلال
بعد عشر سنوات، هاجمت إسرائيل مصر وسوريا
والأردن
، فاحتلت خلال ستة أيام في حزيران/ يونيو 1967، مرتفعات الجولان
و
بعد حرب عام 1967 أصبحت الضفة الغربية وقطاع غزة، تُعرفان باسم الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومع ذلك، حجب توحيد التسمية حقيقة اتباع إسرائيل سياسات مختلفة جداً في كل منطقة. باختصار، رأت إسرائيل أن استحواذها على الضفة الغربية هو أكثر أهمية من استحواذها على غزة؛ فالأولى كانت موطناً لعدد من المواقع الدينية المقدسة، ويمكن أن توفّر عمقاً إستراتيجياً كبيراً. وبناء عليه، أجرت الحكومة الإسرائيلية في أواخر الستينيات مناقشات مستمرة بشأن ضم الضفة الغربية، حيث تم بناء أول مستعمرة إسرائيلية بعد وقت قصير من بدء الاحتلال. وعلى النقيض من ذلك، لم يكن في قطاع غزة مواقع مقدسة، ولم تكن له أهمية استراتيجية تُذكر، وهو ما يجعل الرغبة في ضمه ضعيفة. علاوة على ذلك، كان هناك رأي قديم في الدوائر الحكومية الإسرائيلية فحواه أن غزة أشدّ ميلاً نحو القتال والتطرف من الضفة الغربية، وهي وجهة نظر أنتجتها الكثافة السكانية في القطاع، وارتفاع نسبة اللاجئين هناك؛ فقد شكّل اللاجئون، بشكل غير متناسب، نسبة كبيرة من الفدائيين، الذين جاء كثيرون منهم من المخيمات التي تضم أفقر طبقات المجتمع.
لذلك ركزت سياسة إسرائيل في غزة على إزالة ما تعتبره مراكز التطرف السياسي، أي مخيمات اللاجئين. ففي حين اقتصرت عملياتها في الضفة الغربية على الإغلاق وحظر التجول، كانت عملياتها في غزة تهدف إلى تفكيك مخيمات اللاجئين تماماً. وقد سعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتحقيق هذا الهدف من خلال مجموعة من السياسات. فمن أجل "تخفيف" تركيز اللاجئين، الذي كان يُنظر إليه كسبب مباشر للتطرف، ضمت إسرائيل بعض المخيمات إلى المدن، وسعت لدمج اللاجئين في الأحياء المحلية. وفي أكثر المخيمات ازدحاماً، هدم الجيش الإسرائيلي المساكن والمآوي، ووسع الطرق لتسهيل مرور الدوريات. وقدّرت الأمم المتحدة
أن أكثر من 15.000 لاجئ تضرّروا في صيف سنة 1971 وحده بسبب عمليات الهدم التي شملت تدمير أكثر من 2500 منزل في مخيمات
الأهم من ذلك، والأكثر إثارة للجدل، أن الحكومة الإسرائيلية استخدمت أيضاً الهجرة القسرية إستراتيجيا لتعزيز سيطرتها على غزة في السنوات الأولى من الاحتلال. ففي الفترة التي تلت حرب 1967، عززت إسرائيل محاولاتها تشتيت المخيمات عن طريق إعادة توطين بعض لاجئي غزة قسراً في الضفة الغربية، أو الأردن، أو سيناء، أو أبعد من ذلك. وقد نفّذت في البداية عمليات ترحيل جماعي، لكن سرعان ما واجهتها المتاعب جرّاء هذه الممارسة. ففي 14 كانون الأول/ ديسمبر1967، رفضت السلطات الأردنية السماح لمجموعة تضم عدة مئات من الفلسطينيين بالدخول عبر الضفة الغربية المحتلة، على أساس أنهم نُقلوا رغماً عنهم. وفي نهاية المطاف، حظر الأردن عمليات الترحيل عبر نهر الأردن تماماً، وهو ما يعني أنه بعد سنة 1970 تم إرسال المطرودين من غزة إلى الأردن عبر وادي عربة .
وفي أواخر الستينيات، نفّذت قوات الاحتلال الإسرائيلية إستراتيجية متعددة الجوانب لتشجيع الناس على الرحيل. فقد أنشأت مكاتب للهجرة في مخيمات اللاجئين في غزة، كانت تعرض الأموال على أولئك الذين وافقوا على الانتقال النهائي إلى الخارج، وتأخذ على عاتقها الترتيبات اللوجستية لمغادرتهم. واقترن هذا الوعد المالي بإجراءات من شأنها خفض مستوى المعيشة في غزة، كوسيلة لدفع الناس إلى المغادرة. وفي الأشهر الستة الأولى من سنة 1968، هاجر نحو 20.000 شخص من قطاع غزة، 80٪ منهم من لاجئي النكبة، وكانت الحوافز المالية التي قدّمتها إسرائيل عاملاً رئيسياً في رحيلهم.
في الوقت نفسه، لم يُسمح للفلسطينيين الذين كانوا قد غادروا قطاع غزة -بمن فيهم أولئك الذين كانوا خارج البلد خلال حرب 1967- بالعودة. ومنذ بداية الاحتلال، طُلب من المهاجرين المغادرين توقيع إقرار بعلمهم بأنهم لن يتمكّنوا من العودة إلى غزة من دون إذن خاص. وقد تم ترحيل من حاول العودة من دون الحصول على إذن، ولقي بعضهم حتفه رمياً بالرصاص. وفي فترة الأشهر الثلاث الممتدة من حزيران إلى أيلول/ سبتمبر 1967، قُتل ما يصل إلى 146 شخصاً خلال محاولتهم عبور نهر الأردن غرباً، واعتُقل أكثر من 1000 شخص وتم ترحيلهم. ونتيجة السياسات الإسرائيلية وحرب حزيران تدنى عدد سكان غزة بصورة كبيرة من 385.000 في سنة 1967 إلى 334.000 في السنة التالية، ولم يعد عدد السكان إلى مستوى ما قبل الحرب حتى منتصف السبعينيات.
تكثفت سياسات الترحيل الإسرائيلية في غزة في أوائل السبعينيات، إلى جانب تفكيك مخيمات اللاجئين. ففي ظل السياسات التي انتهجها القائد العسكري أريئيل شارون
، تم اقتلاع 38.000 من لاجئي النكبة للمرة الثانية، وأُعيد توطينهم في مكان آخر في سنة 1971؛ أُرسل 12.000 من هؤلاء إلى مخيمات في سيناء، بينما تم توزيع الآخرين على مخيم الدهيشة للاجئين
في الضفة الغربية، وبلدات ومدن في أماكن أُخرى من غزة. وادّعت الحكومة الإسرائيلية أن هذا النزوح القسري كان ضرورياً لمكافحة الإرهاب، لكن وزارة الخارجية الإسرائيلية بلّغت سفارة
لم يضع تفكيك إسرائيل الأحادي الجانب لمستعمراتها في غزة في سنة 2005 حداً لسياستها التهجيرية. إذ يواصل الاحتلال التحريض على الهجرة باتباع أساليب الضغط، ولا سيما استمرار الحصار الذي تفرضه إسرائيل ومصر على قطاع غزة منذ سنة 2007. وقد أدى هذا الحصار إلى خنق اقتصاد غزة، وإعاقة خدمات الرعاية الصحية إلى حدٍ كبير، وارتفاع معدلات البطالة والفقر. ويترافق الخنق الاقتصادي مع هجمات عسكرية؛ فقد شنّت إسرائيل غارات جوية منتظَمة على غزة، وخصوصاً في السنوات 2008-2009 و2012 و2014 و2018 و2021. وفي سنة 2012، قدّرت الأمم المتحدة أن ما يجري في قطاع غزة سيجعله مكاناً غير صالح للعيش فيه بحلول سنة 2020.
دمغت الهجرة القسرية تاريخَ غزة بطريقة أُخرى في السنوات الأخيرة. فمنذ سنة 2011، ظهرت موجة جديدة من اللاجئين في غزة، وهذه المرة من سوريا. فقد أدى اندلاع الحرب الأهلية السورية إلى تدمير المجتمع الفلسطيني هناك، وهو مجتمع يبلغ عدد أفراده 550.000 نسمة مؤلف من لاجئي النكبة في أواخر الأربعينيات وأبنائهم. وقد غادر سوريا نحو 120.000 فلسطيني، وأصبحوا نازحين مرتين. وقد فرّ عدد قليل من هؤلاء إلى غزة، وهو ما يعني أن التأثير البنيوي طويل الأجل للنكبة أتم دورة كاملة. وتشير التقديرات إلى أن نحو 250 عائلة فلسطينية من سوريا تعيش حالياً في غزة.
ربما يشهد المستقبل مزيداً من ممارسات التهجير الإسرائيلية في قطاع غزة. ففي آب 2019، ذكر الصحافي عميحاي شتاين أن الحكومة الإسرائيلية تخطّط لتعزيز الهجرة الدائمة للفلسطينيين من غزة. ولا تزال تفصيلات الخطة مجهولة، لكن من المعلوم بأنها تتضمن اقتراحات على دول أُخرى لقبول المهاجرين الفلسطينيين في مقابل قيام إسرائيل بتغطية التكاليف. وحتى الآن، لم توافق أي من الحكومات التي تم الاتصال بها على هذا العرض.