خلال العصر الحديث، استخدم الفلسطينيون – وخصوصاً أولئك الذين يعيشون خارج المناطق الحضرية - نماذج متعددة من العدالة غير النظامية أو غير المنبثقة من قانون الدولة، من أجل الفصل في النزاعات ومعالجة انتهاكات القواعد الاجتماعية دون اللجوء إلى مؤسسات الدولة، كالشرطة والمحاكم. تختلف سبل العدالة غير الدولانية هذه باختلاف الزمان والمكان والمجتمع. ويطلق عليها عدة مصطلحات - القانون العرفي والقضاء العشائري والصلح المجتمعي - لكنها في الحالات جميعها تشترك في خصائص الحفاظ على النظام الاجتماعي في المجتمعات التي تتسم بعلاقاتها المتوترة مع الدولة أو بضعف سلطة هذه الأخيرة. وعلى الرغم من ارتباط القضاء غير النظامي في فلسطين (كما في المجتمعات العربية الأُخرى) في الغالب بالمجتمعات البدوية الرحّل، فإنه شائع أيضاً بين المجتمعات البدوية وغير البدوية المستقرة. وبالنسبة إلى الفلسطينيين الساعين لمقاومة أو دحر السلطة الاستعمارية، فإن اللجوء إلى مثل هذه المقاربات شكّل محاولة لإرساء نموذج لعدالة أصلانية. غير أن العدالة غير النظامية تمنح بصورة عامة امتيازاً لسلطة الرجل ضمن مجموعات القرابة الممتدة، وبالتالي تعكس المعايير الاجتماعية الأبوية وتعززها.
استعادة الانسجام الاجتماعي
يواصل الفلسطينيون استخدام القضاء غير النظامي لمعالجة مجموعة متنوعة من انتهاكات النظام الاجتماعي، من القتل والاعتداء، إلى النزاعات على الممتلكات، إلى الأعمال التي يُنظر إليها على أنها تقوض مكانة أو شرف الفرد أو الأسرة أو المجتمع. وفي جميع الحالات، فإن ما يميز القضاء غير النظامي هو الإدراك أن الضرر متأصل اجتماعياً، وبالتالي، فإن أي محاولة لإصلاح الضرر يجب أن تشمل الأفراد المتضررين كافة. وفي حين أن القضاء النظامي يسعى لمعاقبة الفرد على انتهاكه سلطة الدولة، المجسَّدة في القانون، تسعى النماذج الفلسطينية للقضاء غير النظامي لإشراك جميع أطراف النزاع في التوصل إلى حل يعيد تأسيس التناغم الاجتماعي. ويعمل الوسطاء، بفضل تمكينهم من جانب الأطراف المتنازعة والمجتمع ككل، على الوصول إلى حلول مقبولة ودائمة على أساس المعايير المجتمعية. وتتسم العدالة غير النظامية بالمرونة، لكنها هي أيضاً مقننة، إذ هي تلتزم السوابق في مسائل مثل الإجراءات التي تنظم التفاعلات بين الوسطاء والمتنازعين، وفترة التفاوض، ودرجة المسؤولية المشتركة داخل مجموعات القرابة، والالتزامات المالية التي تنطوي عليها انتهاكات معينة، والطقوس والمراسيم التي تدل على حل النزاع. وتنبع مكانة الوسطاء من السن، أو من الانتماء إلى عائلة أو قبيلة/ عشيرة كبيرة أو قوية، أو سلطة دينية، أو من القدرة على الوصول إلى السلطات في الدولة، كما تُكتسب أيضاً من خلال الخبرة في حل النزاعات. ويضمن الطابع العلني للقرارات، التي يتخذها الوسطاء، تقيّد الأطراف المتنازعة بالاتفاقات التي يتم التوصل إليها.
وعلى الرغم من أن حالات فردية قد يجري حلها عبر القضاء غير النظامي من دون أي تدخل من الدولة، فإن القضاء غير النظامي في فلسطين الحديثة قد تطور كنظام له علاقة بمؤسسات الدولة. لقد كان الفلسطينيون في القرنين الماضيين عرضة لمجموعة مذهلة من الأنظمة القانونية المتغيرة، إلاّ إن العلاقة بين الدولة والقضاء الفلسطيني غير النظامي حددتها عوامل سياسية لا قانونية. وتشمل هذه العوامل: قدرة الدولة ودرجة تغلغل أجهزتها في المجتمعات الريفية والرعوية؛ رغبة سلطات الدولة في تنمية النخب المحلية كوكلاء للحكم غير المباشر؛ استعداد المجتمعات الفلسطينية للانخراط في سلطات الدولة، أو مقاومتها.
الفترتان العثمانية والانتدابية
في ظل الحكم العثماني، لجأت المجتمعات الريفية والبدوية الفلسطينية في كثير من الأحيان إلى القضاء غير النظامي لحل النزاعات عندما كان من الصعب الوصول إلى محاكم الدولة، أو عندما كان الأمل ضئيلاً في تحقيق عدالة سريعة وفعالة من خلال هذه المحاكم. وفي إطار جهدها الأوسع لممارسة سيطرة أكبر على القبائل في جنوب فلسطين، أنشأت الحكومة العثمانية مجلس إدارة متخصصاً للتعامل مع النزاعات في منطقة بئر السبع . وفي المناطق التي كانت تُعرف كمراكز تمرد على الدولة العثمانية المركزية، مثل الخليل ، أصبحت سلطة التوسط في النزاعات وفرض الأحكام مرتبطة بالعائلات المتنفذة التي تناقلت هذا الدور بعد ذلك بالوراثة.
وخلال فترة الانتداب، أنشأ المسؤولون البريطانيون محاكم عشائرية في قضاء بئر السبع، وقاموا بتعيين أفراد من كل قبيلة رئيسية للعمل كقضاة. وبالإضافة إلى ذلك، شارك ضباط المنطقة وكبار موظفي الشرطة وغيرهم من الموظفين الحكوميين في تطبيق العدالة غير النظامية، فجمعوا الأطراف المتنازعة معاً، وقاموا باختيار الوسطاء أو عملوا هم كوسطاء بأنفسهم، وهددوا بمعاقبة القبائل أو القرى أو العائلات التي قامت بأعمال انتقامية، أو أفرجوا عن سجناء لتسهيل "الصلحة". وقد صاغ المسؤولون البريطانيون التشريعات، كما صاغ القضاة البريطانيون القرارات أيضاً بناءً على فهمهم الاستشراقي لـ "العادات" السائدة بين الفلسطينيين (بما في ذلك الأشكال المتعددة للقضاء غير النظامي). وفي نهاية المطاف، حاول مسؤولو الانتداب التلاعب بالقضاء غير النظامي للحفاظ على النظام الاجتماعي العام، وتمكين الوسطاء المحليين المطيعين، وتبرير انتهاك قانون الدولة عند الاقتضاء، أو تعليق العمل به.
ومع ذلك، فقد لجأ الفلسطينيون، خلال مشاركتهم في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) ضد الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني، إلى الأعراف والإجراءات المحلية المتجذرة للعدالة غير الرسمية في محاولتهم مقاطعة المؤسسات الاستعمارية - بما في ذلك شرطة الانتداب البريطاني ومحاكمه - وقاموا بتكييف هذه الأعراف والإجراءات مع جهودهم لإنشاء مؤسسات للعدالة الثورية وفرض النظام على قوات الثوار. وفي أعقاب الثورة أيضاً، تصدى الفلسطينيون للعنف الداخلي باللجوء إلى الصلح المجتمعي، الأمر الذي يسّره أحياناً المسؤولون البريطانيون، على الرغم من أنه كان يتم في الغالب خارج نطاق سلطات الانتداب.
بين سنتي 1948 و1994
بعد سنة 1948، استمر الفلسطينيون في الاعتماد على العدالة غير النظامية عندما كان الوصول إلى عدالة الدولة صعباً من ناحية عملية أو سياسية. ففي قطاع غزة ، ظل تدخل المسؤولين المصريين في حده الأدنى؛ فكانوا يلتقون بانتظام القضاة القبليين وغيرهم من الوجهاء المحليين، ويؤيدون القرارات التي يتم التوصل إليها من خلال القضاء غير النظامي، والتي وجدها السكان في الغالب أقل تكلفة وأسرع تنفيذاً من القرارات التي تتخذها المؤسسات الرسمية. وفي الضفة الغربية الخاضعة للحكم الأردني، أصبح القضاء غير النظامي ذا طابع رسمي بشكل متزايد من خلال الإجراءات القانونية والإدارية التي حفّزت على حل القضايا خارج مؤسسات الدولة. وقد عكس ذلك، جزئياً، اعتماد الأردن الأكبر على المجموعات القبلية واستيعابها، كما سمح للحكومة الأردنية باكتساب الحلفاء بين العائلات الوجيهة في الضفة الغربية.
لجأ الفلسطينيون داخل الأراضي التي سيطرت عليها إسرائيل بعد سنة 1948، وفي الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة بعد سنة 1967، إلى القضاء غير الرسمي كوسيلة لتجنب أجهزة الدولة الاستعمارية الإسرائيلية أو رفضاً للتعامل معها. ومع ذلك، وعلى القدر ذاته من الأهمية، كانت أساليب حل النزاعات غير المعتمدة على القانون "الرسمي" أقل تكلفة وأكثر فاعلية وكفاءة من أساليب النظام الإسرائيلي الذي أخضع الفلسطينيين للحكم العسكري، وحرمهم حقوقهم الكاملة، واعتبرهم أعداء داخليين يجب السيطرة عليهم لا مواطنين يجب خدمتهم. ففي ظل غياب بديل رسمي شرعي، خدمت العدالة غير النظامية الحاجات الفلسطينية المحلية؛ ومع ذلك، سعت إسرائيل أيضاً، كما فعلت بريطانيا الاستعمارية قبلها، للتلاعب بالعدالة غير النظامية، من خلال زرع بذور الشقاق داخل المجتمعات الفلسطينية، وإيجاد الوسطاء وتمكينهم، وتعزيز الروايات الاستشراقية التي تصور المجتمعات الفلسطينية على أنها غارقة في أنماط اجتماعية ما قبل حداثية تتسم بانتشار العداوة وسيادة النظام الأبوي وانعدام القانون. ومن ناحية أُخرى، وكما حصل في عهد الانتداب، لجأ الفلسطينيون خلال انخراطهم في انتفاضة شعبية واسعة النطاق - أي الانتفاضة الأولى - إلى الصلح المجتمعي والتحكيم العشائري في محاولاتهم للحفاظ على النظام والتماسك الداخلي في سياق النضال الجماعي لفك الارتباط مع مؤسسات الدولة الإسرائيلية وتفكيكها في النهاية.
العدالة غير النظامية والسلطة الفلسطينية
بذلت السلطة الفلسطينية، التي تأسست في التسعينيات نتيجة ، بعض المحاولات لإضفاء الطابع الرسمي على العلاقة بين مؤسساتها شبه الدولانية والعدالة غير النظامية، وذلك في المقام الأول من خلال "إدارة شؤون العشائر" التي أنشأتها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994. كما ساهم عجز السلطة الفلسطينية عن فرض نفسها رسمياً في المنطقة ج
وفي القدس
- إذ حرمتها إسرائيل من الاضطلاع بهذا الدور - بالإضافة إلى التطور غير الكافي لمرفق القضاء الرسمي المستقل، في توسيع اللجوء إلى العدالة غير النظامية، وفي ترسيخ نفوذ الأفراد الذين تنبع سلطتهم من انخراطهم فيها. وبعد اندلاع الانتفاضة الثانية
في سنة 2000، كثفت إسرائيل (وداعموها الدوليون) الجهود الرامية إلى تقويض السلطة الفلسطينية ، وتفتيت مكونات المجتمع الفلسطيني ، وتعزيز الاقتتال والتشرذم السياسي الفلسطيني. وهكذا، في ظل غياب مؤسسات رسمية تدعم نظاماً قانونياً ذا شرعية، اعتمد الفلسطينيون على القرابة والشبكات المحلية الأُخرى للتعاضد الاجتماعي، بما في ذلك حل النزاعات والحفاظ على النظام الاجتماعي.
إن استمرار لجوء المجتمع الفلسطيني إلى العدالة غير النظامية يُعزى إلى حد كبير إلى استمرار إنكار السيادة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، شكلت العدالة غير النظامية أيضاً وسيلة سعت من خلالها الأنظمة الاستعمارية، وغيرها من الأنظمة التي تحاول تشييد سلطتها أو ترسيخها، لإنتاج وسطاء محليين والحفاظ على حكمها غير المباشر. وقد استخدم الوجهاء المحليون أحياناً العدالة غير النظامية لإعادة تأكيد مكانتهم الاجتماعية والسياسية وتقويتها، وبالتالي تعزيز الهياكل والمعايير الاجتماعية الأبوية. أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين العاديين، فمن شأن السبل غير النظامية أن تؤدي إلى تحقيق عدالة أسرع وأقل تكلفة وأكثر شمولاً مما توفره مؤسسات الدولة. وقد نظر الفلسطينيون، من وقت إلى آخر، ولا سيما في لحظات التمرد المناهض للاستعمار، إلى الوسائل المعهودة في القانون العرفي والقضاء العشائري والصلح المجتمعي وغيرها من أساليب العدالة غير النظامية كجزء من جهود أوسع لفك الارتباط بمؤسسات الدولة، وبناء بدائل تستمدّ مشروعيتها من روح الجماعة القوية عندهم ومن جذورهم المتأصلة في نظام سابق للاستعمار.