تبعاً لاقتراح يقدمه الرئيس الأميركي
شَكّلت
وقد أثارت لجنة كينغ - كرين اهتماماً كبيراً لدى شعب فلسطين، فقد تابعت الصحافة العربية تطوّر تعيينات اللجنة وتنقّلاتها باهتمامٍ ومثابرة. وكانت التصريحات العلنية للرئيس الأميركي محفّزةً لهذا الاهتمام، ففي خطابه ذي "
وتطلّع العرب في
وكان من المخطّط له في البدء أن تضمَّ اللجنة ممثّلين عن
وفهم الفلسطينيون – كما آخرون- عبارات ويلسون بأنها تعني أنهم هم أيضاً سيتمتّعون بالاستقلال السياسي، بعيداً عن القهر الإمبراطوري أو الاستعماري الاستيطاني. وكان خيار الناس واضحاً: نيل الاعتراف بالوحدة والاستقلال العربيين. وكان أولئك الذين مثّلوا سوريا الجنوبية - وهو التعبير الذي أصبح مرادفاً لفلسطين - أمام اللجنة يؤمنون بأنه من العدل أن تبقى فلسطين "جزءاً طبيعياً" من سوريا الكبرى ، طالما أنه، من وجهة نظرهم، هي جزءٌ لا يتجزّأ من وطنٍ تجمعُه روابطُ دينيةٌ ولغويةٌ وأخلاقيةٌ واقتصاديةٌ وجغرافية. وكانوا مقتنعين بأن التسامح الديني والآليات الديمقراطية لحكم الذات تشكّل الروافع المُثلى لتنظيم الحياة الدولية للجميع، وبأنهم يتشاطرون الالتزام بالديمقراطية التمثيلية مع الغربيين، الذين كانوا يقرّرون مصير الشعوب في الإمبراطوريات المهزومة. ومن خلال التزامها المعلن بالاستماع إلى رأي الناس، وبدعم حكمٍ قائمٍ على التمثيل الشعبي، وباحترام الوقائع، أشاعت لجنة كينغ - كرين التفاؤل بأن الإمبريالية في الشرق الأوسط وصلت إلى نهايتها.
وأمضت اللجنة، التي بدأت جولتَها من يافا، عشرةَ أيامٍ من رحلتِها ذات الـ42 يوماً في فلسطين. واستمعت إلى إفادات الوفود وجمعت العرائض من جماعاتٍ متعددة. ووفق تصنيف اللجنة للوفود، كان هناك بين من التقت بهم زعماءٌ دينيون، وتجارٌ، ورؤساء بلديات، ووجهاءٌ، وشيوخٌ، وأعضاء مجالس إدارية، وممثلون عن القبائل، ومزارعون، وبعض المجموعات النسائية. واشتملت أغلبيةٌ من الـ260 عريضةً التي جمعتها اللجنة في فلسطين- وكل واحدة منها حملت تواقيع أو أختام العشرات من المطالبين - على دعواتٍ مناهضة للمشروع الصهيوني، وعلى رفضٍ لفكرة كون اليهود شعباً متميّزاً مؤهّلاً لحقوقٍ سياسيةٍ متفرّدة. وتنبّأ الممثّلون السياسيون العرب من فلسطين أمام الدبلوماسيين الأميركيين في اللجنة بدمارهم: "إذا جاء اليهود إلى بلادنا، فهم لا يأتون للتعايش والتشارك معنا في البلاد، وإنما بِنيّة إلغائِنا، وبناء أمّتهم على أنقاض أمّتنا". وسجّل أكرم زعيتر ، الوطني الفلسطيني ومؤرّخ الأحداث المعاصر، أن اللجنة أقرّت بالشعور الوطني الناضج للعرب، وتشكّلت لديه قناعةٌ بأن الأسلوب الموحّد الذي عبّر الناس من خلاله عن مطالبهم السياسية ترك أثراً قوياً لدى اللجنة. وأشار إلى أن التهاني انهمرت من أنحاء البلد على شعب فلسطين لـ"نجاحه الكبير، ووطنيته المُقْنِعة، وتوافقِه المتين".
ومع أن الممثّلين العرب أمام اللجنة أوصلوا رغباتِهم السياسية بحججٍ منطقيةٍ مقدّمين وجهات نظرهم بخطابٍ عقلانيٍ ومُظهرين التزامهم بالسياسات الديمقراطية، إلاّ إن بعض الأميركيين، الذين لم يرَوا فيما سمعوه سوى عواطف غير ملائمة، استمروا في تشكّكهم. فعروض العرب المنتظمة لم تترك تأثيراً قوياً لدى ييل، الذي لم يقتنع بأن ولاءً قومياً كافياً يجمعهم. وفي سياق جهود الممثّلين العرب المكثّفة لتأكيد أن المطالب التي قدموها للجنة تعبّر فعلاً عن مطالب شعبهم، قدّموا عرائضَ تدعو إلى دولةٍ غير فئوية توفّر حمايةً ديمقراطية لحقوق الأقلّيات. لكن ييل اشتمّ تعصباً دينياً ونبراتٍ مُقلقةً من النزعة القومية العربية الجامعة والنزعة الإسلامية الجامعة كذلك. واعتبر أن الاعتراضات العربية على الوصاية الغربية نبعت من "شعورٍ عميقٍ بالعداء للغرب"، أكثر منه شعوراً بالانتماء القومي.
ومما أضفى على اللجنة طابعاً متميّزاً كونها سجّلت، بأمانةٍ إلى حدٍّ كبير، تطلّعات العرب في المنطقة، إذ طالبت أغلبيةٌ منهم بإقامة مملكةٍ دستوريةٍ ديمقراطية في سوريا الكبرى موحّدة، مع التأكيد بأنه سيتمّ ضمان مكانةٍ متساوية للأقلّيات الدينية في دولةٍ مستقلةٍ كهذه. واستمعت اللجنة إلى تطميناتٍ من العديد من الناس في فلسطين بأنه، في دولتهم المستقبلية، سيتمّ اعتبار اليهود والمسيحيين الذين نشأوا في البلد مواطنين بحقوقٍ وواجباتٍ متساوية، في تمييزٍ بين الصهيونيين المستعمِرين والسكّان اليهود المحليين المقيمين بفلسطين. مع ذلك، أوصت لجنة كينغ - كرين بأن يُطوّر البرنامج الصهيوني وطناً قومياً يهودياً محدوداً في فلسطين، وهو ما يجعل التقرير ذا أهميةٍ في تاريخ الصراع العربي- الصهيوني. كما أوصى تقرير اللجنة بأن تتصرّف الولايات المتحدة كقوةٍ منتدبة للدولة السورية الجديدة، التي تشمل فلسطين ولبنان.
لقد كانت مطالب الفلسطينيين بالاستقلال الوطني في إطار وحدة سوريا الكبرى مقنعةً بالنسبة إلى العديد من أعضاء لجنة كينغ - كرين، لكنها لم تتمكّن من تغيير رأي الغربيين الذين قرّروا مصير فلسطين وعرب آخرين بعد الحرب العالمية الأولى
. وهم لم ينجحوا في إقناع القوى الغربية بمنحهم الاستقلال كدولةٍ قوميةٍ عربية. وجرى إعطاء فلسطين كوطنٍ قوميٍ للصهيونيين بحمايةٍ بريطانية، كما تمّ تسليم بقية سوريا الكبرى للقوى الغربية في إطار المخطّط الانتدابي لعصبة الأمم. ومن الممكن أن الرئيس الأميركي ويلسون لم يتسنَ له رؤية نسخةٍ عن التقرير، الذي لم يتم تداولُه علناً قبل سنة 1922، حين قامت مجلة "
وعلى الرغم من أن تقرير كينغ - كرين لم يكن له تأثيرٌ في حينه - كان بعض أعضاء اللجنة على قناعةٍ بأن وزارة الخارجية الأميركية والصهيونيين مسؤولون عن حجب التقرير-، فإنه يبقى شهادة ودليل إثباتٍ على القيم السياسية والمبادئ القانونية الدولية التي كانت تسود في المنطقة في ذلك الزمن: الديمقراطية، والحكم التمثيلي، والمواطنة المتساوية، وحماية الإقليات. ولو احتُرمت هذه القيم ومُنح العرب الاستقلال الذين كانوا يطالبون به، فربما كان بالإمكان تفادي قرنٍ لاحقٍ من الصراع وإراقة الدماء.