لم تختلف بدايات السينما في فلسطين عن بداياتها في دول مثل تونس
والجزائر
والمغرب
ومصر
، وذلك عندما قام مصورو
ويتفق النقاد على أن السينما في فلسطين تظل شبه مجهولة قبل النكبة
سنة 1948، وتتضارب الروايات حولها في غياب الأفلام والوثائق الموثوقة، ويرى معظمهم أن تاريخ السينما في فلسطين شهد انطلاقته الفعلية بعد ولادة الثورة الفلسطينية المعاصرة في النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، علماً بأن المرحلة التي سبقت النكبة شهدت قيام بعض المخرجين اليهود بإنتاج أفلام وثائقية أو شبه وثائقية، تُعرّف بفلسطين ومدنها وحياة سكانها، من ضمنها فيلم "أول فيلم عن فلسطين"، الذي صوّره وأنتجه في سنة 1911
استندت السينما الفلسطينية إلى بُنى ثلاث رئيسية، تفاعلت جدلياً فيما بينها:
أولاً: بنية أفلام الثورة الفلسطينية في الشتات
في إثر نكبة فلسطين، التجأ السينمائيون الفلسطينيون، متفرقين، إلى عدة دول عربية؛ فلجأ إبراهيم حسن سرحان إلى الأردن ، حيث أخرج فيلمه "صراع في جرش " سنة 1957، وهو فيلم روائي طويل، يُعدّ الأول من نوعه في الأردن. وفي الأردن أيضاً، أنجز المخرج عبد الله كعوش فيلمه "وطني حبيبي" سنة 1964 ليكون ثاني فيلم روائي طويل في الأردن. وفي سنة 1969، أنجز المخرج عبد الوهاب الهندي -وهو تخرَّج من المعهد العالي للسينما في القاهرة - فيلميه "كفاح حتى التحرير" و"الطريق إلى القدس"، وهما فيلمان روائيان طويلان يتحدثان عن القضية الفلسطينية من خلال حكايات تدور حول الكفاح التحرري والبطولات التي يجترحها الفلسطينيون ضد العدو الصهيوني. أمّا السينمائي الفلسطيني محمد صالح الكيالي ، فقد هاجر إلى القاهرة، بعد النكبة، وهناك استطاع إنجاز مجموعة أفلام تسجيلية وثائقية، بعضها كان عن فلسطين، مثل فيلمه التسجيلي الوثائقي القصير "قاعدة العدوان" سنة 1964. وفي سنة 1969، وبعد أن انتقل إلى سوريا ، تمكن من إخراج فيلم بعنوان "ثلاث عمليات داخل فلسطين"، وهو فيلم روائي طويل كتب السيناريو له بالتعاون مع سمير نوار .
انطلقت سينما الثورة الفلسطينية مع إنشاء حركة "فتح
" "وحدة الفيلم الفلسطيني
"، التي تشكّلت بفضل جهود مجموعة من السينمائيين، كان ضمنهم هاني جوهرية
، وسلافة مرسال
ومصطفى أبو علي
. وقد ساهمت هذه الوحدة في تأسيس "جماعة السينما الفلسطينية" التي انضمت إلى
اتخذت "جماعة السينما الفلسطينية" فيما بعد اسماً جديداً هو "أفلام فلسطين – مؤسسة السينما الفلسطينية
"، في إطار مكتب الإعلام الموحّد في منظمة التحرير الفلسطينية
، وكان ضمن السينمائيين المشاركين فيها كلٌ من مصطفى أبو علي، وسمير نمر
، وقاسم حَوَل
، ورسمي أبو علي
. وإلى جانب هذه المؤسسة، ظهرت مجموعات سينمائية أُخرى، منها مجموعة في إطار اللجنة الفنية التابعة للإعلام المركزي التابع لـ
وكما هو واضح، فإن مرحلة البنية الأولى للسينما الفلسطينية شهدت، في سبعينيات القرن العشرين، تشتتاً في إنتاج الأفلام من جانب الفصائل الفلسطينية ودائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير. وبلغ إجمالي الأفلام التي أُنتجت في ذلك العقد قرابة 50 فيلماً وثائقيا مختلفة الأطوال، وفيلماً روائياً واحداً هو فيلم "عائد إلى حيفا
" سنة 1982 للمخرج قاسم حَوَل عن رواية الأديب غسان كنفاني
التي تحمل العنوان ذاته، فضلاً عن أعداد من "جريدة فلسطين السينمائية". ونظراً إلى ظاهرة التشتت في الإنتاج هذه، فقد ظلت ميزانيات الأفلام ضئيلة، ولا تحقق إنتاجاً نوعياً متميّزاً. ومع ذلك، فقد أتيحت لبعض هذه الأفلام فرصة المشاركة في المهرجانات، وخصوصاً مهرجان
وبغية توحيد الجهود الإنتاجية، طُرحت في دائرة الإعلام والثقافة فكرة إنشاء مؤسسة عامة للسينما الفلسطينية تتخذ شكل أكاديمية سينمائية وتتمتع بشخصية مستقلة وبميزانية خاصة، وتضم كل الأقسام التابعة للفصائل الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. وقد تبنّى هذه الفكرة بحماس عبد الله الحوراني
مدير عام دائرة الإعلام والثقافة، وتم تكليف لجنة خاصة من خبراء وضعت النظام الداخلي لهذه المؤسسة، وقُدّم المشروع إلى
ثانياً: بنية الأفلام "الجديدة" التي تم إنتاجها في الشتات وفي فلسطين التاريخية
من المهم إلقاء الضوء على الأفلام الروائية الأولى، التي ظهرت واحتلت مكانتها ولاقت نجاحاً في المهرجانات السينمائية، قبل أن تنتشر وتتزايد عروضها في الصالات التجارية في دول عديدة. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن تعدد جهات الإنتاج في مرحلة البنية الثانية، كان عاملاً إيجابياً خلافاً لمرحلة البنية الأولى، لأن التعدد الإنتاجي ساعد في ظهور الأفلام الروائية وحقق لها النجاح.
ومن المهم أيضاً البحث في كيفية تناول أوائل المخرجين، الذين سيكون لهم شأن في وصول أفلامهم إلى العالمية، إشكالية الهوية الفلسطينية، وأبرزهم: ميشيل خليفي ، وإيليا سليمان ، ورشيد مشهراوي ، وهاني أبو أسعد .
كان ميشيل خليفي، وهو فلسطيني من مدينة الناصرة
درس في
أمّا إيليا سليمان، وهو فلسطيني من مدينة الناصرة أيضاً ويحمل الجنسية الأميركية، فبدأ مشواره الفني بإخراج فيلمه القصير" مقدمات لنهايات جدال" في سنة 1990، وشاركه في الإخراج جايس سلوم
، ثم اتبعه بفيلمه الروائي القصير" تكريم بالقتل" في سنة 1992، قبل أن يخرج فيلمه التسجيلي/ الروائي "سجل اختفاء" في سنة 1996 الذي يتناول إشكالية الهوية لدى المواطنين العرب الفلسطينيين في إسرائيل، والذي حصل على عدة جوائز، من أهمها جائزة أفضل فيلم أول لمخرجه في مهرجان
كذلك بدأ رشيد مشهراوي، الذي نشأ في مخيم الشاطئ للاجئين
في قطاع غزة ، مشواره الفني بإخراج عدة أفلام روائية قصيرة وأُخرى تسجيلية قصيرة، وكان فيلمه الروائي الأول "حتى إشعار آخر" الذي أخرجه في سنة 1993 من إنتاج مشترك فلسطيني-هولندي-فرنسي-ألماني، وهو يتناول وضع الفلسطينيين في مخيم الشاطئ الذي أقيم كملجأ موقت قبل أن يصبح بيتاً دائماً لآلاف العائلات، التي عقدت آمالها على السلطة الفلسطينية
كي تضمن عودتها لكن من دون جدوى. وقد حاز هذا الفيلم عدة جوائز، منها جائزة الهرم الذهبي في مهرجان القاهرة الدولي السابع عشر سنة 1993، وجائزة أحسن عمل أول في بينالي السينما العربية في
أمّا هاني أبو أسعد، الذي ولد سنة 1961 في مدينة الناصرة ويحمل الجنسية الهولندية، فقد بدأ مشواره الفني في سنة 2002 بإخراج فيلم "زواج رنا". لكن شهرته راحت تذيع بعد إخراجه في سنة 2005 فيلمه الثاني "الجنة الآن"، الذي يتحدث عن رجلين فلسطينيين يتجهزان لتفجير نفسيهما داخل إسرائيل، وهو الفيلم الذي حاز جوائز عديدة، منها جائزة غولدن غلوب لأفضل فيلم أجنبي في سنة 2006، وجائزة العجل الذهبي في هولندا
كأفضل فيلم هولندي. كما أخرج في سنة 2013 فيلم "عمر" الذي عُرض في قسم "نظرة ما" في مهرجان كان السينمائي، وحصد نجاحاً كبيراً من النقاد والجمهور، وهو يحكي حكاية شاب يعمل في مخبز ويضطر إلى تسلق الجدار العازل، الذي أقامته السلطات الإسرائيلية في الضفة الغربية
، لملاقاة حبيبته نادية، وذلك قبل أن تعتقله سلطات الاحتلال ويعاني عذاباً نفسياً قاسياً. وقد حصل هذا الفيلم على جائزة المهر الذهبي لأفضل فيلم عربي روائي في الدورة العاشرة لمهرجان دبيّ
السينمائي. وفي سنة 2020، أخرج أبو أسعد فيلم "صالون هدى"، الذي عرضه في الدورة الـ 46 لمهرجان
وإلى جانب هؤلاء المخرجين الأربعة، برز سينمائيون فلسطينيون آخرون، مثل نزار حسن ، وإياد الداوود ، وصبحي الزبيدي ، وفجر يعقوب ، وهشام كايد .
ثالثاً: بنية أفلام سينما المرأة الفلسطينية
تُعتبر مؤسسة "شاشات " الأهلية، التي تأسست في مدينة رام الله سنة 2005 وتديرها المخرجة علياء أرصغلي ، من أبرز مؤسسات السينما الفلسطينية التي تركّز نشاطها منذ تأسيسها على سينما المرأة، وتعرض أفلامها ضمن مشروع "يلا نشوف فيلم"، وهي أنتجت نحو 60 فيلماً متعددة الأطوال تكشف حياة المرأة الفلسطينية في مرافق المجتمع الفلسطيني كافة، وحازت المؤسسة "جائزة التميّز في العمل السينمائي" من وزارة الثقافة الفلسطينية في سنة 2010.
وإلى جانب الأفلام التي أنتجتها شاشات، برزت أفلام مخرجات فلسطينيات، مثل مي المصري وآن ماري جاسر ونجوى نجار .
ففي سنة 1983، استطاعت المخرجة والمونتيرة والمصورة السينمائية الفلسطينية مي المصري، التي أنهت دراستها للسينما في
وولدت آن ماري جاسر في مدينة بيت لحم في سنة 1974، وهي تحمل الجنسية الأميركية، وكان أول أفلامها الروائية "ملح هذا البحر" الذي أخرجته في سنة 2008، وتناولت فيه ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وحواجزه وامتهانه للكرامة الإنسانية في الضفة الغربية، من خلال حكاية الشابة الفلسطينية "ثريّا" المولودة في
أمّا نجوى نجار فقد ولدت في
خاتمة
ما بين سنتَي 1916 و2005، يمكن رصد 799 فيلماً عن فلسطين أخرجها 204 مخرجين. كما يمكن رصد 547 فيلماً عن فلسطين، ما بين سنتَي 2006 و2019، أخرجها 369 مخرجاً؛ فكيف نفسر استمرار هذا الاهتمام السينمائي بفلسطين، على الرغم من تراجع الاهتمام العربي والعالمي بقضية الشعب الفلسطيني؟
إن من أهم أسباب استمرار الاهتمام السينمائي العربي بفلسطين تزايد عدد المهرجانات السينمائية العربية، وقيام بعض هذه المهرجانات بتمويل ودعم إنتاج الأفلام في شقيها الروائي والتسجيلي، وتنظيم عروض لها ومنح جوائز عالية القيمة للأفلام الفائزة. أمّا المهرجانات العالمية، مثل كان وفينيسيا و