متأثّراً بـ"قضية دريفوس" التي وقعت في
في أواخر القرن التاسع عشر، عملت شخصيات رئيسية في الحركة الصهيونية
حديثة العهد، على "إعادة تخيّل" فلسطين كجزءٍ من أيديولوجيا تبريرية للاستعمار اليهودي لـ’الأرض المقدسة’. ووصل هذا الجهد لإعادة صوغ فلسطين، في وعي اليهود وغير اليهود على حد سواء، إلى عتبة حاسمة بعد فترة وجيزة على نشر
الجغرافيا المتخيّلة في خدمة العملية الاستعمارية
كان إدوارد سعيد
، المثقّف الفلسطيني وأستاذ الأدب المقارن، أول من قام ببلورة مفهوم "الجغرافيا المتخيّلة". فمع تسليمه بأن الاستعمار يقوم في الأساس على النزوع المادي للاستيلاء على أراضي الآخرين، شدّد على أن المستعمِرين كانوا يضطرون إلى اختلاق معانٍ جديدة للأراضي التي يطمعون فيها وإلى إيجاد مبررات لكونهم يستحقّون الأمكنة التي يسعون للاستحواذ عليها. وفي تشديده هذا على الجانب الإدراكي لاندفاعة المستعمِر الاستعمارية، استقى سعيد أفكاره من منظّرين أمثال
ويكشف التخيّل الصهيوني عن فلسطين تكراراً مستمراً وتضخيماً لرواية شكّلت علامة مميِّزة لهذا التخيّل. وبحسب هذه الرواية، فإن اليهود لديهم الخبرات العلمية والهندسية، وهم قادرون، بعودتهم إلى ’صهيون’، على تحسين الأرض وإنعاشها بصورة أكثر فاعلية من السكّان المحليين. وشدّد الصهيونيون، بروحية
وواجهت الصهيونية، منذ بداياتها الأولى، مشكلة كون رؤيتها المتخيّلة لفلسطين تشوبها عيوب قاتلة. حتى أن الصهيونيين الأوائل الذين كانت لديهم معرفة مباشرة بـ’الأرض المقدسة’ وبأوضاعها، مثل داعية ’الصهيونية الثقافية’ أحاد هَعام ، كتبوا إلى آخرين في الحركة بلهجة لاذعة بأن فكرة فلسطين بصفتها صحراء والفلسطينيين بصفتهم "متوحّشين صحراويين" هي فكرة مضلِّلة. لكن مشكلة الصهيونيين الأكثر استعصاءً تمثّلت في كون فلسطين لم تعُد ذلك المكان الذي هيمنت عليه العبرية على مدى ألف عام. ونتيجة لذلك، اضطُرّت الحركة الصهيونية إلى أن تعمل بصورة دائمة على "تعديل" المشهد الطبيعي ليتماثل مع فكرتها القائلة بأن ’الأرض المقدسة’ يهودية - أي أنه كان عليها بطريقة أو بأُخرى أن تُطابِق المشهد الحقيقي مع مشهدِها المتخيّل.
ابتداع دعائم للرواية
لجأت الحركة الصهيونية إلى ثلاث وسائل من أجل صناعة المعنى الهادف إلى إرساء فكرة النَسَب العبري لـ’الأرض المقدسة’: زراعة الأشجار، وصناعة الخرائط، والتنقيب عن الآثار التاريخية.
فبعد فترة وجيزة على قيام الحركة الصهيونية بجعل استعمار فلسطين هدفاً مركزياً لها، أنشأت ’
وعلى المنوال نفسه، سعت الحركة الصهيونية لإنشاء واقع خرائطي بديل لفلسطين. وتتمثل أفضل نماذج إعادة الاختراع هذه في الخرائط التي وضعها ’الصندوق القومي اليهودي’ خلال فترة الانتداب، وفي المقدمة خرائط ما عُرف باسم "الصناديق الزرقاء" الخاصة به والتي استُخدمت كحاويات استقبال للأموال التي تجمعها الحركة الصهيونية. وحملت هذه الخرائط عنوان "
وتمثّلت الوسيلة الثالثة التي استخدمها الصهيونيون لـ"تعديل" المشهد الطبيعي في التنقيب عن الآثار، إذ لجأ الصهيونيون إلى هذه الوسيلة لتعزيز فكرة كون ’الأرض المقدسة’ أرضاً عبرية. وتؤشّر "العودة إلى صهيون"، بالنسبة إلى الصهيونيين، إلى مجتمع عبري كان نابضاً بالحياة في الماضي في ’الأرض المقدسة’، وإلى قدرة اليهود على إعادة إحيائه. وفي سنة 1920، قامت الحركة الصهيونية باستحداث ’الجمعية اليهودية لاستكشاف فلسطين ’ للاندفاع نحو التنقيب عن الآثار العبرية القديمة، موظّفةً العديد من أبرز المثقفين الصهيونيين في إطار هذا الجهد. فبالنسبة إلى الحركة الصهيونية و’جمعية الاستكشاف’، كانت الآثار العبرية القديمة، في حال استخراجها، بمثابة "صكّ ملكية عقارية" يشهد مادياً على فكرة كون فلسطين أرض اليهود والوطن الشرعي للشعب اليهودي. ومن خلال سعيهم لاستخراج آثار عبرية قديمة، كان الصهيونيون يقومون بإدماج الحضور اليهودي القديم في فلسطين في نسيج المشهد الطبيعي نفسه. وما زال هذا الهوَس بالآثار التاريخية لدى الصهيونيين مستمرّاً حتى يومنا هذا، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الجهد واسع النطاق، لكن غير الناجح حتى الآن، لنبش "مدينة داود" من أرض حي سلوان الفلسطيني كبرهان على وجود المملكة المجيدة السابقة للعبرانيين القدامى.
الرواية الوطنية الفلسطينية
وإذا كانت الحركة الصهيونية قد تطوّرت إلى مشروع قومي دولاني جلي ومرتبط برؤية لـ’الأرض المقدسة’ بصفتها فضاء عبرياً، فإن الفلسطينيين قاموا كذلك بتطوير رؤاهم الوطنية الخاصة. وبمعنى ما، تطوّرت الوطنية الفلسطينية من البوتقة التاريخية نفسها التي ألهمت جماعات مضطهَدة أُخرى للسعي وراء تطلّعاتها لتحقيق هوية مستقلة وحقوق متساوية من خلال بناء الكيان القومي. وصاغت الوطنية الفلسطينية، في الوقت ذاته، هويةً متميّزة كأيديولوجيا وكحركة مقاوِمة للصهيونية، ترتكز على وعي بكون أهداف الصهيونية تهدّد وجود فلسطين ذاتها. وكان الاستيطان الصهيوني، قبل حلول فترة 1904-1914، قد بدأ يثير مخاوف الفلسطينيين، حتى أن صهيونيين مثل يتسحاق إبشتاين
(1907) أقرّوا بأن شراء الأراضي من جانب المستوطنين الصهيونيين نجم عنه طرد المستأجرين الزراعيين الفلسطينيين، تطبيقاً لشعار "أرض عبرية، عمل عبري". وأدّت هذه التصرّفات إلى تنامي توجّهات راديكالية في أوساط الفلاحين الفلسطينيين عبّرت عن توقّد التطلّعات الوطنية الفلسطينية. وبصورة معبّرة، أدى انتشار صحافة فلسطينية عربية بعد سنة 1908 دوراً حاسماً في نقل الروايات عن هذه الأعمال المجحفة التي عانى جراءها الريف الفلسطيني، وفي نشر بذور هذا الوعي المقاوم في أوساط السكّان كافة. وبرزت صحيفتان بصورة خاصة في مجال النقد القاسي للصهيونية والدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، إحداهما كانت "
رواية صهيونية مدعومة بالقوة
وهكذا، بينما كانت الصهيونية تسعى لتحويل فلسطين إلى دولة يهودية ترتكز على رؤية ’الأرض المقدسة’ بصفتها أرضاً عبرية وميراثاً مشروعاً للشعب اليهودي، كان الوطنيون الفلسطينيون يقاومون مشروع بناء الدولة هذا، مجادلين بأن الفلسطينيين كانوا يعيشون في وطنهم طوال الأعوام الـ1500 الماضية. وتستمرّ كلتا الرؤيتين للقومية والانتماء قائمة إلى يومنا هذا، لكن فكرة فلسطين، بصفتها وطناً للشعب الفلسطيني قائماً وثابتاً منذ زمن طويل، لا تزال مصدر إلهام للمقاومة. وفي المقابل، تحوّلت الجغرافيا المتخيّلة لفلسطين كفضاء عبري إلى وضع فعلي يتمثل في استعمار واستيطان يهوديين للأرض، يرتكزان على الغزو والاحتلال ويستعينان بممارسات متواصلة من التحكّم والسيطرة والقوة.
مع ذلك، يبقى هذا الوضع الفعلي للغزو والاستعمار والاستيطان غير مكتمل. إذ ما زال الفلسطينيون، بدرجات متفاوتة من النجاح، صامدين فوق المشهد، تحفّزهم دوافع وطنية، جزئياً على الأقلّ، وشعور بحضورهم المتواصل على الأرض. وكردٍ على هذا الصمود، لجأت الحركة الصهيونية وأتباعها المعاصرون إلى النمط الثاني الأكثر صفاقة من "هندسة الأوضاع"، بما يمكّنها من إعادة صوغ المشهد الفلسطيني إلى فضاء يهودي وفق ما تخيّلوه. وهدفت هذه المساعي المتمثلة في جعل المشهد الطبيعي الفعلي يتطابق بشكل أكبر مع المشهد المتخيّل إلى تطهير أرض الشعب اليهودي من خلال إزاحة الفلسطينيين قسراً عن الأرض.
وتجلّى النموذج المحدِّد لهذا النمط من "الهندسة" فيما حدث خلال السنوات 1947-1949 حين جرى طرد 750,000 فلسطيني من الأراضي التي أصبحت ’دولة إسرائيل’، وتدمير المئات من القرى الفلسطينية، التي طُمر العديد منها وتم محوها تحت مشاريع ’الصندوق القومي اليهودي’ التشجيرية. لكن، بالإضافة إلى هذا الحدث الاستثنائي، كان هناك حملات متواصلة هدفت إلى تخليص المشهد الطبيعي من الحضور الفلسطيني. وتجري بعض الحملات لتجريد الفلسطينيين من أملاكهم بواسطة القانون، في إطار حرب تُشنّ عبر المؤسسات القانونية بحيث يمكن وصفها بـأنها "حرب بأدوات قانونية"، تعمل على إزالة الحضور الفلسطيني على الأرض من خلال اللجوء إلى إلغاء الحق الفلسطيني في الملكية العقارية. وثمة وسيلة شبيهة بـ ’الحرب بأدوات قانونية’، لكنها تشكل نوعاً من العنف أكثر صلافة إذ تتمثّل في هدم المنازل بناء على نظام قوانين تصاريح البناء المتشدد ويحد من منحها للفلسطينيين ويصنّف المنازل الفلسطينية القائمة كمنازل غير مطابقة للمواصفات، وبالتالي غير شرعية.
كما يتم اللجوء إلى إجراء آخر لتخليص المشهد الطبيعي من الحضور الفلسطيني، ويتمثل في الاقتلاع الفجّ للمزروعات وإتلافها وحرقها. وهذا ما يوفّر فرصة لتلمّس كيف تؤثر المخيًلة الصهيونية مباشرة في الممارسات الصهيونية الساعية إلى إعادة تشكيل المشهد الطبيعي. فمن خلال إتلافهم المزارع الفلسطينية، يعمد الصهيونيون إلى حرمان الفلسطينيين من القدرة على تغذية أنفسهم - في خطوة أولى لدفعهم خارج أرضهم، بحيث يجري تحويل المشهد الطبيعي ليكون أكثر تساوقاً مع الجغرافيا الصهيونية المتخيّلة. فالفلسطينيون، في المخيّلة الصهيونية، لا يمكن أن يتصرّفوا بطريقة عقلانية هادفة أو مستقلة على الأرض.
وجرى التعبير عن هذا التخيّل، بصورة بديهية تماماً، من فتاة مراهقة من مستوطَنة يهودية، حين سألتها الجغرافية القانونية إيروس برافرمان لِمَ قامت مع أصدقائها بحرق أشجار الزيتون الفلسطينية واقتلاعها في قرية سنجل ، فجاء ردّها – "ليس لديّ مشكلة مع الأشجار، فالأمر يتعلّق بالأرض- إنها أرضنا، وليست أرضهم" – ليؤكّد حجّة إدوارد سعيد بأن الخيال ليس منغرساً في الروحية فحسب، وإنما أيضاً هو جزء من اندفاعة مادية حقيقية جداً.