على الساحل الفلسطيني، وعلى بعد نحو 37 كلم إلى الجنوب من مدينة حيفا
، أُقيمت، في سنة 1977، على مساحة 3000 هكتار مستوطنة إسرائيلية حديثة، تتبع المجلس المحلي لـساحل الكرمل
، وتدعى قيسارية
، وتضم محمية طبيعية تُجرى فيها منذ سنوات تنقيبات أثرية، كما تضم مسرحاً رومانياً وميداناً رومانياً لسباق الخيل وحمامات رومانية. وهذه المستوطنة هي الوحيدة في إسرائيل التي لا تديرها المؤسسات البلدية الحكومية، وإنما تديرها جمعية خاصة تسيطر عليها عائلة روتشيلد، وتُعتبر من أرقى الأحياء السكينة في إسرائيل، إذ تضم عدداً من الفيلات الفخمة، من بينها فيلا خاصة برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو
، وفيلا لإحدى حفيدات
قبل النكبة
، كانت تقبع على أرض هذه المستوطنة بلدة عربية مزدهرة، نشأت في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وأُقيمت بالقرب منها، في سنة 1891، مستوطنة باسم خضيرة
على يد مجموعة من اليهود الروس، ثم أُقيم، في سنة 1940، في جنوبها كيبوتس سدوت يام
(حقول البحر)، الذي اشتُهر قاطنوه من المستوطنين اليهود بالصيد وركوب القوارب الشراعية، لكنه ضم، بصورة سرية، مركزاً لتدريب بحارة وحدات
الهجرة إلى أراضي الدولة العثمانية
في مؤتمر برلين
، الذي عُقد بين حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو 1878، الذي جمع الإمبراطورية العثمانية
والدول الأوروبية الرئيسية، تقرر وضع منطقة
وقد تمت الهجرة إلى أراضي الدولة العثمانية التي جمعت، بحسب بعض التقديرات، بين 60 إلى 80 ألف مهاجر على ثلاث موجات: الأولى في 1881-1882، بسبب فرض التجنيد الإجباري تحت العلم النمساوي الهنغاري؛ الثانية في حدود 1900-1901، عندما تصاعدت حركة الاحتجاج الإسلامي على محاولات التنصير؛ الثالثة في نحو 1909-1910، بعد قيام الإمبراطورية النمساوية- الهنغارية، في سنة 1908، بضم منطقة البوسنة والهرسك رسمياً إليها.
وقد أكمل أفراد الموجة الأولى من هذه الهجرة طريقهم، بعد توقفهم في إسطنبول
ثم في إزمير
، إلى بلاد الشام
(سوريا العثمانية
) حيث استقروا في بعض قرى ريف مدينة دمشق
على مشارف البادية السورية. ويبدو أن وجود بوسنيين في بلاد الشام قد سبق السيطرة النمساوية- الهنغارية على منطقة البوسنة والهرسك، إذ كان هناك هجرات فردية للعمل أو التجارة، كما كان الجيش العثماني يضم بعض القادة البوسنيين الذين استُقدموا إلى هذه البلاد، ومن أشهرهم
بعد عامين من الاستقرار في سوريا، لم ينجح معظم هؤلاء المهاجرين في التأقلم مع البيئة الجديدة، ومع الحرارة المرتفعة في الصيف على حواف الصحراء السورية، فقرر عدد منهم العودة إلى الأناضول ، بينما طلب عدد آخر منهم تسهيل إعادة توطينهم في مواقع أُخرى في بلاد الشام. وكانت السلطات العثمانية تحدد مواقع إرسال المهاجرين وفقاً لمعطيات إثنية وإستراتيجية واقتصادية، وبما أن منطقة فلسطين كانت قليلة السكان خلال القرن التاسع عشر، فقد وافقت على توطين مسلمي البوسنة فيها، إلى جانب أعداد من الشركس والمغاربة.
الاستقرار في قيسارية
وهكذا، انتقلت نحو خمسين عائلة من هؤلاء المهاجرين إلى قيسارية، بينما استقر عدد قليل منهم في قرية يانون
التابعة لقضاء
ويعود انجذاب معظم هذه العائلات البوسنية إلى موقع قيسارية القديم إلى ثلاثة أسباب رئيسية: كان الموقع خربة غير مسكونة، وهو ما أتاح لهم فرصة العيش بمفردهم، وكانت تحيط به مناطق زراعية خصبة؛ كما كان يوجد فيه ميناء صغير قديم وهو ما مكّنهم من الانفتاح على البحر وسهّل تجارتهم.
وقد عاش هؤلاء المهاجرون في مدينة حيفا والمناطق المجاورة لها مدة عامين تقريباً في أثناء إنشاء قيسارية، التي جاء تصميمها على غرار بلدات الهرسك القريبة من موستار، إذ اختلفت، في تخطيطها وهندستها المعمارية، عن البلدات والقرى العربية المجاورة لها، إذ ضمت مساكن حديثة وشوارع واسعة متقاطعة، كما ضمت مسجداً مع مدرسة قدمت أربع سنوات من التعليم للأطفال، ولجأ سكانها إلى خدمات معلم عربي يدعى الحاج حسن ، دفعوا له مقابلاً كي يكون إماماً للجامع أيضاً، فضلاً عن خان وسوق وميناء صغير ومكاتب جمركية.
وقد مرض العديد من المهاجرين في السنوات الأولى من الاستقرار في قيسارية جرّاء المناخ الصعب، والآثار السلبية للمستنقعات القريبة من البلدة. وقضت الملاريا، في السنوات العشر الأولى في فلسطين، على عائلات بأكملها. وفي البدء، كان المهاجرون البوسنيون إلى قيسارية هم الوحيدون الذين يعيشون في القرية الجديدة، وسرعان ما قامت السلطات العثمانية بتوطين سبع عائلات شركسية، وعائلة بلغارية مسلمة، وعائلتين تركيتين في قيسارية.
حافظ المهاجرون البوسنيون في العقود الأولى على تقاليدهم الأصلية في اللباس والأكل، ثم راحوا يغيّرون لباسهم اندماجاً في البيئة المحيطة، ويعدّون أطباق الأكل المحلية، إلى جانب أطباقهم التقليدية، وكانوا قد تمكنوا من امتلاك أراضٍ خارج البلدة، استأجروا للعمل فيها فلاحين من العرب، الذين راحوا يزرعون الحمضيات والحبوب والموز، كما عملوا في تربية الحيوانات وبعض الحرف اليدوية. ومع أنهم سعوا للحفاظ على الزواج العرقي بين البوسنيين فقط لحفظ اللغة والعادات والتقاليد، حتى إن بعضهم ذهب إلى الأناضول بحثاً عن زوجات من الشتات البوسني هناك، أو عادوا، منذ منتصف الثلاثينيات، إلى موطنهم الأصلي بحثاً عن زوجات، إلاّ إنهم صاروا يلجؤون، بالتدريج، إلى الزيجات المختلطة مع السكان العرب. وقد تعددت أسماء عائلاتهم، مثل: لاكشيتش، وبيغوفيتش، ومرادوفتش، وجيهانوفيتش وغيرها، إلى أن صارت تُعرف باسم واحد هو بُشناق، وهو تعريب لكلمة "بوشنجاك" التي هي في الأصل تسمية تشير إلى الأصل الجغرافي، وهو الاسم الذي صار يميّزها إلى اليوم.
هجرة البشناق من قيسارية وتهجيرهم منها
بدأت هجرة البشناق من قيسارية في وقت مبكر، أي قبل
في شباط/ فبراير 1948، غزت وحدات البلماح بلدة قيسارية وطردت سكانها ودمرت منازلهم، وتحوّلت البلدة إلى بلدة ميتة، بحيث لم يبقَ اليوم من مبانيها العربية سوى مئذنة جامع قديم. فاضطر سكانها إلى اللجوء إلى الأردن وسوريا ولبنان ومصر والكويت .
المشاركة في الدفاع عن فلسطين
يصف المؤرخ محمد م. الأرناؤوط مساهمة البشناق والألبان في حرب 1948 بالمسكوت عنه بحثياً، مقدّراً أنه على الرغم من كونهم حاربوا على جبهة عربية، فإنهم تحوّلوا إلى كتلة هامشية عقب النكبة.
في سنة 1948، وصل عدد من المتطوعين البوسنيين إلى فلسطين للمشاركة في الدفاع عن عروبتها، بلغ عددهم ما بين 300 إلى 500 متطوع، كان بينهم ضباط وجنود شاركوا في تدريب الفلسطينيين على السلاح، كما انضموا كخبراء عسكريين بالمتفجرات والألغام إلى
وفيما يتعلق بالدوافع وراء قدوم أولئك المتطوعين إلى فلسطين، يشير محمد الأرناؤوط إلى ثلاثة دوافع رئيسية، هي: إثبات أنفسهم كعسكريّين ذوي رتب عالية وخبرة، واختيار القتال إلى جانب الضحية، وإظهار هويتهم بصفتهم أوروبيّين مسلمين وليسوا محايدين.
مساهمات البشناق في مناحي الحياة الفلسطينية
ساهم البشناق، مساهمة فاعلة، في مختلف مناحي الحياة الفلسطينية، إذ برز في صفوفهم عدد من القادة والمناضلين السياسيين مثل:
- علي بشناق ، الذي شارك في سنة 1959، مع أحمد جبريل في تأسيس "جبهة التحرير الفلسطينية "؛
- الناشط السياسي والاجتماعي إبراهيم بشناق من قرية كفر مندا في الجليل ؛
- الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي
محمود وحسام وأمين بشناق من قرية رمانة في محافظة جنين؛ رامز بشناق من قرية كفر مندا في الجليل الذي استشهد خلال "هبّة أكتوبر " سنة 2000.
كما برز بينهم أكاديميون وفنانون وأدباء وإعلاميون ذاع صيتهم على نطاق العالم العربي والعالم مثل:
- الدكتور مصطفى بشناق (1887-1974) أحد مؤسسي جامعة النجاح الوطنية في مدينة نابلس وعضو المجلس الوطني الفلسطيني ومجلس الأعيان الأردني ؛
- الفنان التشكيلي محمد بشناق (1934-2017) الذي ولد في قرية بلد الشيخ بالقرب من مدينة حيفا ثم اضطر مع عائلته، بعد وقوع النكبة، إلى الانتقال إلى مدينة الخليل حيث برزت موهبته في الرسم والنحت، وذلك قبل أن يستقر، في سنة 1954، في الكويت ويترك تأثيراً كبيراً في الحركة الفنية التشكيلية فيها من خلال مؤسسة "المرسم الحر " التي أسسها بتوصية من إدارة المعارف الكويتية ؛
- ابنته الرسامة سوزان بشناق (1963-) التي تعيش في الكويت كذلك؛
- الموسيقية سعاد بشناق
(1982-) التي ولدت لأب فلسطيني وأم سورية، وتُعتبر أول امرأة عربية تنال درجة البكالوريوس في التأليف والتوزيع الموسيقي في كندا
من
جامعة مكغيل ، والتي استطاعت الفوز بـجائزة هوليوود للموسيقى في الإعلام ؛ - الأديب عبد الرحمن بشناق
(1913-1999) الذي ولد في بلدة قيسارية، وتلقى علومه الابتدائية في مدينة طولكرم، والثانوية في الكلية العربية في القدس
، وأكمل دراساته العليا في الجامعة الأمريكية في بيروت
وفي جامعتَي
إكستر وكامبريدج فيبريطانيا ، وعاد إلى فلسطين ليعيّن أستاذاً للأدب الإنكليزي في الكلية العربية في القدس، فوكيلاً لمديرها المربي أحمد سامح الخالدي ، ثم استقر في عمّان بعد النكبة، حيث عمل مديراً عاماً لـمؤسسة عبد الحميد شومان ، وانتُخب في سنة 1963 عضواً في اللجنة الملكية لشؤون التربية والتعليم في الأردن، ومجمع اللغة العربية الأردني ؛ - الإعلامي محمد بشناق ، وهو أول مذيع فلسطيني في إذاعة "هنا القدس " التي بدأ بثها في سنة 1936.
اندماج البشناق ضمن الشعب الفلسطيني
في البداية، تمسّك المهاجرون البوسنيون بثقافتهم الأصلية ولُغتهم الأم، ويرجع الفضل في ذلك إلى نسائهم اللواتي نقلن اللغة الصربية-الكرواتية التي كانوا يتحدثونها إلى أبنائهن، إلاّ إن اللغة العربية راحت تسود بينهم جيلاً بعد جيل، وفقد معظمهم لغته الأصلية، وذلك خلافاً لمجموعات عرقية أُخرى هاجرت إلى بلاد الشام ومنها فلسطين، مثل الشيشان والشركس، لكنها احتفظت بخصوصيتها وبمسافة تفصلها عن السكان العرب المحليين. كما كان اشتراكهم مع القسم الأكبر من السكان الفلسطينيين في الدين الإسلامي، وعدم تمتعهم، على عكس المهاجرين الألمان واليهود، بالامتيازات الممنوحة لمواطني الدول الأوروبية داخل السلطنة العثمانية، ثم تعامل سلطات الانتداب البريطاني معهم في إحصاءاتها السكانية بصفتهم مسلمين سُنة، وتبنيهم الجماعي اللقب العائلي "بشناق"، وتقاسمهم تجربة الطرد والنفي والوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين، بعد وقوع النكبة، كانت كلها عوامل ساعدت على اندماجهم في البيئة العربية الفلسطينية، مع حفاظهم على بعض الخصائص الثقافية والإثنية.
واليوم، باتوا، في نظر جيرانهم العرب، جزءاً أصيلاً من شعب عربي، ويُعتبرون فلسطينيين، بحيث يمكن القول إنه بعد مرور أكثر من مئة عام على وصولهم إلى فلسطين، لم يبقَ شيء يذكّر بماضيهم وأصولهم سوى اسم عائلاتهم.