جدول الأحداث الكلي

جدول الأحداث الكلي

Highlight
قضية فلسطين في الخطاب العام الألماني
الخلط بين الصهيونية وإسرائيل

تحدّدت المواقف الألمانية تجاه النضال الفلسطيني ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني إلى حد كبير من خلال تجربة اضطهاد اليهود الأوروبيين على يد النازيين الألمان والتي بلغت ذروتها في المحرقة . وقد سعت النخب الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية ، إلى دمج جمهورية ألمانيا الاتحادية في التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ، على الرغم من استمرار التواصل الشخصي والهيكلي متعدد الأوجه بين الجمهورية الجديدة وألمانيا النازية . وكانت إحدى الركائز الأساسية لهذا الجهد اتفاقية لوكسمبورغ سنة 1952 التي قدمت بموجبها الجمهورية الاتحادية مساعدات مادية كبيرة لإسرائيل بصفتها "تعويضات" عن المحرقة. ومن خلال الانخراط في هذه المقايضة التي سهّلت قبولها على المستوى الدولي، دعمت النخب الألمانية تأكيد الصهيونية بأنها تمثل الرد اليهودي الطبيعي والوحيد الممكن لمعاداة السامية. وهذا ما عزز المساواة بين اليهودية وإسرائيل والصهيونية في الخطاب العام الألماني، على الرغم من الاختلافات الحاسمة بين المصطلحات الثلاثة.

وعلى الرغم من أن هذا الخلط الخاطئ كان محل خلاف طوال العقود السبعة من وجود الجمهورية الاتحادية، فإنه ما زال قوياً، وفي السنوات الأخيرة صار أوسع انتشاراً. ففي سنة 2019، وافق البوندستاغ الألماني على قرار يساوي بين حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) التي يقودها الفلسطينيون ومعاداة السامية، وحثّ المؤسسات العامة الألمانية على أن تنأى بنفسها عن مؤيدي حركة المقاطعة. وأدى هذا القرار إلى إلغاء حضور العديد من العلماء والفنانين العالميين وسحب الجوائز الممنوحة لهم، ومن بينهم الكاتبة البريطانية الباكستانية كاميلا شمسي والفيلسوف الكاميروني أخيل مبيمبي . وصار الألمان الفلسطينيون واليهود الذين ينتقدون الصهيونية والسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين مستهدَفين من المسؤولين الحكوميين الألمان ووسائل الإعلام الرئيسية باعتبارهم "معادين للسامية" أو أنهم "يهود كارهون لذواتهم".

لهذا، فإن دراسة الوضع الحالي يجب أن تأتي في سياق التطور التاريخي للتصورات الألمانية العامة للنزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.

التصورات الألمانية للقضية الفلسطينية خلال الفترة 1949 - 1967

 تأثر الخطاب العام الألماني بشأن قضية فلسطين بالتاريخ الألماني الحديث. وحتى أوائل الستينيات، تبنّت ألمانيا الغربية ثلاثة توجهات في التعامل مع الماضي النازي: فقد رفض المحافظون، بصورة عامة، أي مناقشة للجرائم النازية، لأن مناقشات كهذه تتعارض بطبيعتها مع هوية وطنية تتصف بالإيجابية. وفي المقابل، كان الديمقراطيون الاشتراكيون والليبراليون على استعداد لمناقشة الجرائم النازية، لكنهم أكدوا أن الجمهورية الاتحادية تمثل قطيعة جوهرية مع الفاشية ويجب الدفاع عنها أمام كل نزعات "التطرّف". وحده اليسار الراديكالي استكشف الاستمرارية متعددة الأوجه بين النظام النازي والجمهورية الاتحادية. من ناحية أُخرى، عرَّفت جمهورية ألمانيا الديمقراطية نفسها بالكامل بأنها تعارض بوضوح الرايخ الثالث.

أدت الكنيسة الإنجيلية الألمانية (التيار البروتستانتي) دوراً رئيسياً في تشكيل التصورات العامة بشأن إسرائيل في ألمانيا الغربية، إذ كان للكنيسة تاريخ طويل من التشابك مع الدولة البروسية، وألمانيا الإمبراطورية، ولاحقاً مع الرايخ الثالث. وجادل اللاهوتيون البروتستانت بأن بقاء اليهود على قيد الحياة على الرغم من المحرقة، وإعادة تشكيل هويتهم الوطنية في دولة إسرائيل كانا دليلاً على أن إنشاء الدولة تم بمشيئة الله. وهكذا، بإمكان الألمان التكفير عن جرائم النازية بتقديم دعمهم للدولة اليهودية التي أعلنت قيامها بنفسها. وكانت هيئة "العمل التكفيري " التابعة للكنيسة الإنجيلية والتي كانت تنشط عادة في الدول التي كانت ضحية مباشرة للنظام النازي، ترسل متطوعين شباباً إلى إسرائيل كوسيلة للمصالحة في مرحلة ما بعد المحرقة، على الرغم من عدم إقامة علاقات دبلوماسية بين ألمانيا الغربية وإسرائيل في حينه.

وهناك عامل آخر ساعد على مرادفة إسرائيل لليهودية، وهو هيمنة أطروحة "الذنب الجماعي" (Kollektivschuldthese) في الحياة العامة الألمانية بعد الحرب. ووفقاً لهذه الفرضية فإن جميع الألمان كمجموعة ملومون جراء أهوال النظام النازي (بدلاً من كونهم يتحملون مسؤولية جماعية فقط). وقد سهّلت وجهة النظر هذه توظيف أفراد في  المراتب السياسية العليا في ألمانيا الغربية، ومؤسسات الدولة البيروقراطية وقطاع الصناعة كانت سيرهم الذاتية مشوبة بتورطهم النشط مع الرايخ الثالث. على سبيل المثال، كان هانزغلوبكي ، المستشار الرئيسي للمستشار الاتحادي الأول كونراد أديناور ، أحد المشاركين في صوغ قوانين نورمبرغ العرقية سيئة السمعة.

وكان الجدل العام بشأن اتفاقية لوكسمبورغ بمثابة مثال للمواقف الألمانية تجاه إسرائيل. فقد برر أديناور الاتفاق بعبارات (معادية للسامية) استرضائية تجاه اليهود الأميركيين الذين قيل إنهم أثروا في سياسة الولايات المتحدة تجاه ألمانيا. لكن العديد من زملائه الديمقراطيين المسيحيين رفض التصويت لمصلحة الاتفاقية التي فسروها بأنها اعتراف بالذنب عن المحرقة. ولم يكن من الممكن المصادقة على الاتفاقية إلاّ بفضل أصوات المعارضة الديمقراطية الاشتراكية التي حافظت على روابط واسعة مع الحركة العمالية الصهيونية واتحاد نقابات العمال الصهيوني الهستدروت .

وعلى الرغم من هذا التوجه نحو اعتبار إسرائيل الوريث الشرعي الوحيد لضحايا المحرقة، فإن بون لم تقم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب . وكانت المعارضة لمثل هذه العلاقات قوية، وخصوصاً في أوساط دوائر السياسة الخارجية التي كانت تخشى اعتراف الدول العربية بجمهورية ألمانيا الديمقراطية. وقد أكد مبدأ هالشتاين في ألمانيا الغربية أن الجمهورية الاتحادية هي الدولة الألمانية الشرعية الوحيدة، وهدّد الدول في الجنوب العالمي التي تعترف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية بقطع العلاقات ووقف مساعدات التنمية. أمّا رسمياً، فقد تم تبرير غياب العلاقات بين ألمانيا الغربية وإسرائيل بالحاجة إلى الحفاظ على "الصداقة الألمانية العربية" التقليدية.

حتى منتصف الستينيات، كان يُنظر إلى الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، بالكامل تقريباً، في ضوء اعتبار النخبة الألمانية الغربية أن ثمة تماهٍ بين إسرائيل و"اليهود". وكانت إسرائيل إمّا منبوذة لأسباب معادية للسامية وإمّا متخيَّلة كتجسيد للتقدم وحتى للاشتراكية الديمقراطية من طرف الجانب الليبرالي واليساري من الطيف السياسي الذي خاض حملة قوية من أجل إقامة علاقات دبلوماسية معها. وفي ظل هيمنة الدول العربية، وخصوصاً مصر الناصرية، لم يظهر الفلسطينيون بصفة فاعل ذي حضور بارز وإنما كـ"مفعول به" سلبي يتم التعامل معه من خلال سياسات إعادة توطين اللاجئين في المنطقة.

الثورة الفلسطينية تصل إلى ألمانيا (1967 – 1990)

سوف يتغير هذا الوضع على نحو كبير، ولا سيما بعد حرب عام 1967 . ففي سياق الحرب الباردة ، نشأ تحالف أوثق بين ألمانيا الغربية وإسرائيل وصولاً إلى إقامة علاقات رسمية في سنة 1965. وفي أعقاب هزيمة القومية العربية في سنة 1967، شبّهت صحيفة بيلد الشعبية من منظور إيجابي الجنرال الإسرائيلي موشيه دايان بالمارشال الألماني في الحرب العالمية الثانية إروين روميل . وبالنسبة إلى المحافظين في ألمانيا الغربية، صارت إسرائيل حينها وسيلة ملائمة يعبّرون من خلالها عن مواقفهم السياسية، وتجسيداً للبراعة العسكرية والقومية التي لم يعد بإمكانهم كألمان تمجيدها بسبب تجربة الحرب العالمية الثانية.

كان هذا التطور مناقضاً للتوجهات التي بدأت تظهر في ألمانيا الغربية إبان الاضطرابات التي اجتاحتها في سياق الحركة الطلابية في أواخر الستينيات. فأصبحت رابطة الطلاب الألمان الاشتراكيين اليسارية الراديكالية الأداة الرئيسية للمعارضة خارج البرلمان، وبدأ الطلاب يتناولون قضايا مثل النضال ضد الاستعمار. ومنذ أوائل الستينيات، صار التوجه المؤيد للصهيونية لدى اليسار الألماني الغربي موضع تساؤل من الحركة الداعمة لنضال التحرير الجزائري التي دعمها الرئيس المصري جمال عبد الناصر وعارضتها إسرائيل، حليف فرنسا  الرئيسي في الشرق الأوسط . ومع احتضان التيار المحافظ في ألمانيا الغربية الكامل لإسرائيل، وقف التأييد اليساري لإسرائيل على أرض هشة. ومع اكتساب الحركة الجماهيرية ضد حرب الولايات المتحدة في فيتنام زخماً، بدأ الطلاب يقارنونها على نحو متزايد بمصير الفلسطينيين، معلنين تضامنهم مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة "فتح "، التي صار يُنظر إليها على أنها التعبير الشرق أوسطي عن النضال العالمي المسلّح ضد الاستعمار. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً، صار للتضامن مع النضال الفلسطيني ركيزة قوية على الجانب الأيسر من الطيف السياسي في ألمانيا الغربية، بدءاً من العصابات المسلحة التابعة لـفصيل الجيش الأحمر والخلايا الثورية (التي تلقت التدريب والدعم من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ) إلى تيار الاشتراكيين الشباب المنتسبين إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي .

ما  كان لهذا التضامن أن يتحقق من دون المشاركة الناشطة للفلسطينيين أنفسهم. فعلى غرار الطلاب الأجانب الآخرين، نشر الفلسطينيون معلومات عن نضالهم في وطنهم للطلاب الألمان، وشكلوا العديد من لجان التضامن على المستوى المحلي، وهو ما ساهم في التوجه الراديكالي الشامل للحركة الطلابية الألمانية في أواخر الستينيات، والتي استلهمت حركات النضال في الجنوب العالمي. وفي أعقاب عملية مجموعة أيلول الأسود التي قُتل خلالها رياضيون إسرائيليون خلال دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ سنة 1972 ، شكّل الفلسطينيون تحالفات في المجتمع المدني مع الجماعات اليسارية والكنائس وغيرها من الجهات الفاعلة في مواجهة العقاب الجماعي وعمليات الترحيل التي مورست ضد الجالية الفلسطينية بأكملها. وعلى مدى عقود، سعى الفلسطينيون في ألمانيا بهمة حثيثة إلى إعادة تعريف الخطاب حول النزاع، ليس فقط كمشاركين في النضال الرامي إلى تحرير وطنهم، بل أيضاً كأعضاء في مجتمع ألماني متعدد الثقافات أغناه عدد وافر من التجارب الحياتية.

إعادة تقييم الماضي النازي وتأثير ذلك في الموقف من قضية فلسطين

كان دعم الفلسطينيين في ألمانيا الغربية محصوراً حتماً في عمليات إعادة تقييم الماضي النازي التي صارت تشغل موقعاً مركزياً في الخطاب العام منذ أواخر السبعينيات. لكن تناول هذه المناقشات بما فيها من تعقيدات يتجاوز نطاق هذه المقالة. إلاّ إن بعض الأحداث المتداخلة هي التي تسببت في التفكك التدريجي لحركة التضامن مع الفلسطينيين. فبادئ ذي بدء، وجد متصدر حركة التضامن الرئيسي، وهو اليسار الراديكالي الماركسي، نفسه في حالة تراجع حاد في أواخر السبعينيات، عندما حجبته "الحركات الاجتماعية الجديدة" مثل الحركات المناهضة للطاقة النووية والحركات البيئية، وتعبيرها السياسي المتمثل في حزب الخضر الناشئ الأقل راديكالية. ثانياً، بدأت عمليات إعادة النظر في العناصر التي تشكل الهوية اليهودية الأميركية وتعبيراتها في الثقافة الشعبية تصل إلى ألمانيا الغربية. وعلى وجه التحديد، أدى بث المسلسل الأميركي "الهولوكوست" إلى إثارة نقاش واسع النطاق حول مسألة ذنب الألمان العاديين في أثناء إبادة اليهود. ثالثاً، كان نموذج الكفاح المسلح ضد الإمبريالية والذي قام عليه التضامن مع الفلسطينيين يعاني أزمة عميقة في أوائل الثمانينيات. وقد تجسد ذلك في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت ، والحرب الإيرانية-العراقية ، وتحالف الصين الضمني مع الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي ، وقمع اليسار الإيراني على يد نظام الخميني .

رابعاً، سعت النزعة المحافظة المنتعشة مجدداً إلى إعادة الاعتبار للقومية الألمانية وإلى انتهاج سياسة خارجية حازمة، فضلاً عن تقليص المكاسب الاجتماعية التي حققتها الحركة الطلابية في ستينيات القرن العشرين. وكان الخطاب الذي ألقاه المستشار هيلموت كول أمام الكنيست سنة 1984 وتحدث فيه عن "نعمة الولادة المتأخرة" (Gnade der späten Geburt) تعبيراً عن هذا الإصرار الجديد. سعى كول للتوضيح أنه نظراً إلى صغر سنه، لا يمكن محاسبته هو وأعضاء آخرين في المؤسسة الحاكمة على الجرائم النازية. وأدت هذه المحاولة لـ"تطبيع" سياسة ألمانيا الغربية الخارجية أي لفصلها عن أي ضرورات أخلاقية تتعلق بالحرب العالمية الثانية – إلى إثارة مخاوف لدى العديد من الإسرائيليين من تقليص التزامات ألمانيا الغربية تجاه إسرائيل. وبلغت محاولات "التطبيع" التي بذلها المحافظون الألمان ذروتها فيما يُسمى "شجار المؤرخين" (Historikerstreit) في منتصف الثمانينيات، وهو عبارة عن تبادل علني للمجادلات بين المؤرخين في صحافة ألمانيا الغربية. وقد افتتح المؤرخ المحافظ إرنست نولت النقاش من خلال سعيه إلى تصوير المحرقة باعتبارها خطوة "وقائية" ضد "الإبادة الجماعية الطبقية" البلشفية. من ناحيته، انتقد خصمه الرئيسي، الفيلسوف الليبرالي يورغن هابرماس ، نولت لأنه قلل من ضخامة المحرقة، وأصر، من جهته، على فرادة الإبادة الجماعية النازية ضد اليهود الألمان وعدم قابليتها للمقارنة. وفي حين أن مسألة الاستمرارية مع العصر النازي كانت في السابق مقتصرة على الأوساط الفكرية والناشطين، فقد دل النقاش على الحضور المتزايد للهولوكوست في الحياة العامة والمسألة ذات الصلة بشأن الآثار المترتبة على الماضي القريب بالنسبة إلى الهوية الوطنية الألمانية.

كل هذه الأحداث المتداخلة أدت إلى إضعاف الدعم للنضال الفلسطيني في أوساط المجتمع المدني. وكانت نتيجة التراجع الموازي لكل من التوجه الراديكالي لدى منظمة التحرير الفلسطينية واليسار الراديكالي الألماني، جنباً إلى جنب مع تعزيز التوجه لتنقيح التاريخ الألماني، أن صار التضامن مع الفلسطينيين في ألمانيا الغربية يُعد في كثير من الأحيان تحالفاً مع المحافظين الجدد الألمان سواء طوعاً أو بغير قصد. ففي نهاية المطاف، ومن خلال الخلط السائد في المجتمع بين اليهودية وإسرائيل، تُرجمت مسلّمة هابرماس حول الفرادة الأساسية للمحرقة وعدم قابليتها للمقارنة إلى تصور واسع النطاق للدولة الإسرائيلية باعتبارها النتيجة "الطبيعية" للتاريخ الألماني، في حين تراجع مصير الفلسطينيين ليصبح مأساة "أقل" شأناً. كان انتصار هابرماس الملحوظ على نطاق واسع في "شجار المؤرخين" بمثابة تحول جيلي داخل الطبقة السياسية في ألمانيا الغربية، مع دخول مزيد من المشاركين في الحركة الطلابية في الستينيات إلى المسرح السياسي بعد تخليهم عن أفكارهم الراديكالية. ومع ذلك، فإن الدروس التي استخلصها هابرماس وآخرون - هي أن تكريم ضحايا الفاشية الألمانية استلزم النظر إلى إسرائيل باعتبارها "ضرورة تاريخية" (historische Notwendigkeit) تخللتها مفارقة متأصلة: هذه الدروس التي صيغت باللغة العالمية لما بعد القومية الليبرالية، أشارت مع ذلك إلى مسؤوليات ألمانية على وجه التحديد، لا إلى مسؤوليات عالمية. وبالتالي فإن هذه المفارقة جعلتهم مثاليين باعتبارهم يمثلون الخطاب المهيمن لألمانيا الموحدة التي تسعى لبناء هوية وطنية إيجابية.

إعادة توحيد ألمانيا وفلسطين

كان الأساس المنطقي الأيديولوجي الرسمي لدعم ألمانيا الغربية لإسرائيل يرتكز إلى عنصرين: التكفير عن الجرائم النازية، ومعاداة الشيوعية في أثناء الحرب الباردة. ومع نهاية الحرب الباردة وظهور جمهورية برلين ، كان لا بد من إعادة تقييم معايير العلاقات الألمانية الإسرائيلية. فقد وجدت ألمانيا نفسها على نحو متزايد في مواجهة التحدي المتمثل في صوغ هوية وطنية إيجابية تبدو متناقضة مع الماضي النازي. كان هذا تطوراً جديداً، إذ إن تقسيم ألمانيا على أسس أيديولوجية جعل في السابق أي إشارة إيجابية إلى الأمة الألمانية تبدو وقد عفا عليها الزمن. وقد ارتفع الدعم غير المشروط "لأمن إسرائيل" في السنوات الأخيرة إلى مستوى بطاقة الدخول إلى الخطاب السياسي المشروع، بدعم من الأغلبية الساحقة من القوى السياسية.

بالنسبة إلى المراقبين الخارجيين، يبدو الدعم الألماني لإسرائيل متجذراً في الشعور بالذنب بسبب المحرقة. ومع ذلك، فإن التفسير الأكثر دقة يحتاج إلى وضع هذا الدعم في سياق تصاعد القومية الألمانية وكراهية الإسلام. ففي الخطاب المهيمن، تظهر "إسرائيل" على أنها عنصر خلاص يسمح للألمان بالشعور بالفخر على "معالجتهم للتاريخ" (Geschichtsverarbeitung) غير المسبوقة، في حين أنهم يرسمون خطوط إقصاء واضحة داخل المجتمع الألماني بين أولئك القادرين على الشعور بالذنب تجاه المحرقة (الألمان البيض) والمحرومين من هذه القدرة (الأحفاد الكثر للمهاجرين، وخصوصاً من الدول ذات الأغلبية المسلمة). إن وجود الفلسطينيين يعطل سردية الخلاص الوطني المتمحور حول إسرائيل، وهو ما يدفع البعض إلى الحديث عن وجود عنصرية محددة مناهضة للفلسطينيين في ألمانيا. وقد لخص المؤرخ ديرك موسيس ببراعة هذه  الحالة في مقالته المنشورة سنة 2021 بعنوان "التعليم المسيحي الألماني"، مجادلاً بأن التصورات الذاتية الوطنية الألمانية الحالية تدور حول سلسلة من المبادئ الأساسية، التي يقوم بعضها على تفسير الهولوكوست بأنها حدث لا يمكن مقارنته أساساً بعمليات الإبادة الجماعية الأُخرى (على سبيل المثال، إبادة الهيريرو الجماعية التي ارتكبها المستعمرون الألمان في ناميبيا في أوائل القرن العشرين)؛ ووجود مسؤولية خاصة للألمان تجاه اليهود الذين يتماهون مع دولة إسرائيل؛ والمساواة بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية.

إن تطورات كتلك التي تتعلق بتجريم نشاط حركة المقاطعة (BDS) ليست مقتصرة على ألمانيا؛ فقد طُبقت تشريعات مماثلة أو اقتُرحت في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى . ومع ذلك، فإن الدعم غير المشروط لإسرائيل هو ركيزة أساسية للقومية الألمانية الحالية التي تعززها العنصرية المنتشرة ضد المسلمين والتي اجتاحت أوروبا في أعقاب "الحرب على الإرهاب" في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فضلا عن الأزمة الاقتصادية. ولكل هذا تأثير شديد على الجالية الفلسطينية في ألمانيا، وهي الأكبر في أوروبا. فعلى سبيل المثال، في السنوات الأخيرة، حظرت السلطات المسيرات التي تحيي ذكرى النكبة باعتبارها مؤشراً على "معاداة  السامية"، في حين فصلت هيئة الإذاعة الألمانية  عاملين في خدمتها الإخبارية الناطقة بالعربية بسبب آرائهم بشأن إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، يجب وضع مثل هذه التطورات في سياق الأزمة الاقتصادية المستمرة والاستقطاب السياسي وصعود اليمين المتطرف في السياسة الألمانية. وينظر الرأي العام العالمي على نحو متزايد إلى النخب السياسية والاقتصادية والثقافية في ألمانيا باعتبارها معادية بشكل خاص لتحرير فلسطين، نظراً إلى التشابكات بين الصهيونية والقومية الألمانية المعاصرة. ومع ذلك، يتزايد أيضاً التحدي الداخلي لهذا الموقف وينبع في الأغلب من ائتلاف من الجهات الفاعلة اليسارية الراديكالية والمجتمعات الفلسطينية وغيرها من المجتمعات المهاجرة، والمعارضين اليهود.

خلاصة

تكونت التصورات الألمانية للصراع بين الفلسطينيين والاستعمار الاستيطاني الصهيوني إلى حد كبير من خلال الخلط الخاطئ بين اليهودية وإسرائيل والصهيونية في الخطاب العام الألماني الذي يرتبط في حد ذاته بالجرائم التي ارتكبها النازيون الألمان ضد اليهود الأوروبيين. لم تكن الدوافع وراء هذا الخلط في معظمها مرتبطة بالصراع الفعلي على الأرض، لأنها مستمدة من عوامل داخلية. وفي حين أنه في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كان التعامل مع إسرائيل باعتبارها خليفة شرعياً لضحايا المحرقة مرتبطاً بسعي الجمهورية الاتحادية للحصول على الشرعية الدولية، في فترة ما بعد إعادة التوحيد، فإن الدعم غير المشروط لإسرائيل من جانب الطبقة السياسية في ألمانيا يخدم التعبير عن القومية الألمانية الإيجابية التي يبدو أن لا علاقة لها بالماضي النازي. لقد اتخذت وجهات النظر هذه منحى راديكالياً في السنوات الأخيرة وتم التعبير عنها في سلسلة من التدابير القانونية وغيرها ضد التحركات التضامنية مع فلسطين و/أو الأفراد الذين يتبنون وجهات نظر معارضة، وبسبب عمليات صعود اليمين المتطرف وكراهية الإسلام المرتبطة بالأزمة. ومع ذلك، وكما أظهرت الفترة ما بين أواخر الستينيات وأوائل الثمانينيات، لا يجب اعتبار المجتمع الألماني كتلة واحدة. فقد تجسدت إمكانات التضامن مع فلسطين تاريخياً في فترات الصراع والتمزق التي هيمنت عليها القوى السياسية التقدمية.

جدول الأحداث الكلي
E.g., 2024/12/21
E.g., 2024/12/21

يرجى محاولة عملية بحث جديدة. لا يوجد أي نتائج تتعلق بمعايير البحث الحالية. هناك العديد من الأحداث في التاريخ الفلسطيني والجدول الزمني يعمل جاهدا لالتقاط هذا التاريخ.