القدس
مدينة مقدسة لمؤمني الديانات التوحيدية الثلاث، إذ يعتبرها اليهود "عاصمة" دولتهم القديمة ويديرون وجوههم نحوها في صلواتهم، وفي أعين المسيحيين هي مكان آلام السيد المسيح. أمّا بالنسبة إلى المسلمين، فهي ثالث الحرمين (بعد مكة
و
وكانت مدينة القدس تستقبل على مدار السنة، وخصوصاً، في شهر رمضان حجاجاً من المسلمين سنّة وشيعة. ويختلط هؤلاء بالسياح وبالحجاج اليهود والمسيحيين المتجولين في شوارع
تندرج زيارة الحجاج المسلمين إلى القدس ضمن سلسلة متواصلة من الشعائر، تمتد من مناسك الحج إلى مكة وصولاً إلى وقفة المصلين عند قبور الأولياء المحليين. وعندما يتوجه الحجاج إلى الديار الحجازية، قد تتخذ زيارتهم الدينية شكلين: الحج الأكبر وهو فرض واجب مرة واحدة في العمر وفي مواقيت محددة ويمثل الركن الخامس من أركان الإسلام؛ الحج الأصغر وهو العُمرة التي ليست فرضاً واجباً، إنما مستحسنة، ويمكن أن يقوم بها المسلم في أي وقت من السنة، وتتمثل في بعض مناسك الحج الأكبر. أمّا زيارة القدس، فهي كالعُمرة ليست فرضاً واجباً، إنما تختلف عنها كونها غير خاضعة لشعائر محددة. ويُستحسن أن تبدأ رحلة العمرة من مدينة القدس، وأن ينتهي الحج بأداء الصلاة في القدس، وهو ما يُدعى بتقديس الحج. ويمكنك أن تشاهد في القدس فلسطينيين أو مسلمين آخرين في لباس الإحرام وهم يستعدون للرحيل إلى مكة.
وإلى جانب القدس، تحتضن فلسطين مواقع لها قيمتها الرمزية كمقامات الأنبياء لدى الديانات التوحيدية (ومنهم موسى وإبراهيم)، وصحابة الرسول وشخصيات مهمة في التاريخ الإسلامي. وتُعبر زيارة هذه المقامات، بالإضافة إلى زيارة القدس، عن السعي للبركة والشفاعة، وتستند إلى أدبيات ما يُسمى الـ "فضائل الروحية" التي تُبرز الطابع الإسلامي والمقدس للمواقع المعنية. وتكتسي هذه الزيارات طابعاً محلياً وتختلف عن الحج إلى القدس الذي يستقطب الحجاج من أقطار العالم كافة، ويمثل في نظر الزائر قطيعة مع حياته اليومية. غير أن بعض حالات الزيارة الدينية إلى القدس قد يتسم ببعد محلي، كما هي الحال في تقاليد مهرجان النبي موسى التي تنطلق مسيرتها من الحرم الشريف وتنتهي في مقام النبي موسى في منطقة أريحا . ويعتبر بعض علماء الدين هذه الممارسات مشبوهة من أساسها، خوفاً منهم على ما قد تنطوي عليه من أعمال الشِرك، لكن البعض الآخر يتقبلها ضمن شروط معينة. أمّا قدسية الحرم الشريف فالمذاهب الأربعة في الفقه الإسلامي تعترف بها.
في العصر الأموي، الذي تعود إليه أساسات الحرم، كان الاحتفاء بالطابع المقدس لمدينة القدس واسع الانتشار. وكانت فترة الهجوم المضاد على الصليبيين وفتح المدينة على يد
وكان بعض الحجاج، بعد عودته من الحج إلى مكة، وسعياً منه لملامسة الحرم القدسي على أفضل نحو، يحط الرحال أحياناً في جواره المباشر فيما يسمى المجاورة. وهكذا استقر في المدينة وافدون من بلاد المغرب
والهند
وأفريقيا جنوب الصحراء
وآسيا الوسطى
، وشكلوا جماعات بمساعدة مجموعات من الطرق الصوفية. وبالتالي فظاهرة الحج كان لها دور مهم في تأسيس التجمعات السكنية من المسلمين في القدس. ومنذ الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967، تؤدي هذه التجمعات دوراً مهماً في المحافظة على الوجود الفلسطيني في مدينة القدس، نذكر منها بصورة خاصة الطوائف التي تعيش في الرباط المتاخمة للحرم والمنحدرة من البلدين اللذين يحملان اليوم اسم
ومن المعروف أن الاحتلال الإسرائيلي لـ الضفة الغربية ، بما فيها القدس الشرقية ، وقطاع غزة ، تعمّد تنفيذ سياسة هدفها تفتيت الأراضي الفلسطينية وعزل القدس ومواقعها الدينية عن محيطها الفلسطيني. إن هذه السياسة تتعارض مع فكرة فلسطين كـ"أرض مقدسة"، كما يصفها الحجاج، وكمحط الرحال بامتياز، وكمكان يعج بالحركة. فلقد حال الاحتلال دون الوصول الحُر لفلسطينيي الشتات ولمواطني الدول العربية (باستثناء الأردن ومصر اللتين وقعتا معاهدة سلام مع إسرائيل) إلى المسجد الأقصى. كذلك يتم منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وخصوصاً بعد سنة 2000، وضع العراقيل أمام وصول الزوار من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال إخضاعهم لتصاريح دخول لا تمنحها السلطات العسكرية الإسرائيلية إلاّ وفق شروط قاسية، حتى أن الوصول بات صعباً على فلسطينيي القدس أنفسهم وعلى فلسطينيي 1948 بسبب حواجز التفتيش العسكري وعراقيل أُخرى متعددة.
وثمة عامل إضافي جعل حرم المسجد الأقصى مكاناً مقدساً مغلقاً وخاضعاً لرقابة شديدة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وهو جملة الممارسات العدوانية التي تقوم بها جمعيات يهودية مسيحيانية تهدف إلى تغيير
في مثل هذه الأوضاع المضطربة، ومنذ سنة 2010 تقريباً، برز موضوع حج المسلمين القادمين من الدول الإسلامية، والذي كان يمثل ظاهرة مركزية في الثقافة المتوارثة، كإحدى قضايا النقاش العام، كون مدينة القدس تئن تحت الاحتلال الإسرائيلي. فحركة "
وفي نيسان 2014، عقد فريق من العلماء بتشجيع من الحكومة الأردنية، مؤتمراً في عمّان
عنوانه "
إن النقاش بين مؤيدي زيارة القدس ومعارضيها (وأيضاً تردد المترددين) هو من دون شك مؤشر إلى تضاؤل الشعور بالحرج حيال ما كان يُعتبر من المحرمات. ففي الوقت الحالي، يزداد عدد المسلمين الذين يزورون القدس (أكثر من 140,000 سنة 2018). ويتوافد أكثر الحجاج من تركيا
وماليزيا
وسنغافورة
وإندونيسيا
و
الخالدي، وليد. "القدس: من العهدة العمرية إلى كامب ديفيد الثانية". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001.
عثامنة، خليل. "فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي، 1187 – 1516". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2006.
العسلي، كامل جميل. "بيت المقدس في كتب الرحلات عند العرب والمسلمين". عمّان: ك. ج. العسلي، 1992.
محمود، معين أحمد. "بيت المقدس: مدينة كل الأديان". بيروت: دار الصادق، 1970.
Aubin- Boltanski, Emma. Pèlerinages et nationalisme en Palestine : Prophètes, héros, ancêtres. Paris: Editions de l’EHESS, 2007.
Ben Arieh, Yehoshua. Jerusalem in the 19th Century. The Old City. Jerusalem: Yad Izhak Ben Zvi, 1984.
Chiffoleau, Sylvia and Anna Madœuf (ed.). Les pèlerinages au Maghreb et au Moyen-Orient. Espaces publics, espaces du public. Beirut: IFPO, 2005.
Ende, Werner. “Mudjāwir”. In Encyclopedia of Islam (2nd ed., vol. 7), pp. 293–294. Leiden: Brill, 1986.
Hercbergs, Dana and Chaim Noy. “Mobile Cartographies and Mobilized Ideologies: The Visual Management of Jerusalem”. Antipode, vol. 47, no. 4 (September 2015), pp. 942–962.
Kister, Meir Jacob. “You Shall Only Set out for Three Mosques”. A Study of an Early Tradition. Le Muséon, vol. 82 (1969), pp. 173–196.
Meri, Joseph W. “Ziyāra”. In Encyclopedia of Islam (2nd ed., vol. 11), pp. 524–529. Leiden: Brill, 2002.
Peters, Francis Emmanuel. Jerusalem and Mecca: The Typology of the Holy City in the Near East. New York: New York University Press, 1986.
Sivan, Emmanuel. “Le caractère sacré de Jérusalem dans l'Islam aux xiie- xiiie siècles”. Studia Islamica, no. 27 (1967), pp. 149–182.
Sivan, Emmanuel. Mythes politiques arabes. Paris: Fayard. 1995.