الشعور العام بالتفاؤل الذي ساد لدى الفلسطينيين عند توقيع ’
استياء متزايد
وفي أواخر التسعينيات الماضية، ضَعُفت ثقة الجمهور في قدرة السلطة الفلسطينية على إعلاء منزلة المصلحة الوطنية، وسجّل الفلسطينيون بوجومٍ ظهور العلامات الجليّة للنزوع السلطوي والفساد. ولم تكن بعض الجماعات، بقيادة حركة "
وكان المجتمع الفلسطيني ككل يشهد تغيّرات اجتماعية سريعة مُزعزِعة للاستقرار، وهي بمثابة نتيجة حتمية لتدفّق فلسطينيين من الشتات، مرتبطين بشكل ما بـ م.ت.ف. والتي كانت تُوفّر لهم أحياناً وظائف ذات دخل مالي جيد في الوزارات المشكّلة حديثاً. وهذا ما ساهم بلا شكّ في الشعور بأن السلطة الفلسطينية يمكن أن تقبل باستمرار
وساهمت التطوّرات العسكرية في النصف الثاني من التسعينيات الماضية بشكلٍ ملموس في اندلاع الانتفاضة الجديدة. وتمثّل الحدث الأول في ما عُرف بـانتفاضة النفق في أواخر أيلول 1996، التي أطلقها قيام إسرائيل بافتتاح نفق تحت الحرم الشريف ، لتأكيد سيادتها رمزياً على منطقة المسجد. وقام الفلسطينيون بتظاهرات غاضبة ردّت عليها إسرائيل بالرصاص الحي، الأمر الذي أدّى الى مقتل خمسة متظاهرين وإصابة عدد كبير آخر، بمن فيهم فيصل الحسيني ، مسؤول شؤون القدس في م.ت.ف.. ثم امتدّت التظاهرات إلى مختلف أنحاء الأراضي المحتلة، وقامت قوى الأمن الفلسطينية بتوجيه بنادقها نحو العسكريين الإسرائيليين. واستمرّ العنف ما يقارب الأسبوع، وقُتل فيه 25 جندياً إسرائيلياً ونحو مئة فلسطيني، أي أن "نسبة القتل" كانت واحداً إلى أربعة. وهذا ما قاد الفلسطينيين لاعتبار هذه المواجهة انتصاراً، في حين وافق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ، الذي أُخذ على حين غرّة، على إعلان وقف رسمي لإطلاق النار مع عرفات.
وجاء الحدث العسكري الثاني المهم حين أَرغَمت المقاومة العسكرية لـحزب الله الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من لبنان في 24 أيار/ مايو 2000. وكان الدرس المستخلص من الانسحاب أن المقاومة المسلّحة ضد إسرائيل يمكن أن تُعطي ثماراً.
الاندلاع، 29 أيلول 2000
لم يكن الوضع المحتقن يحتاج إلّا إلى عود ثقابٍ للاشتعال، وجاء ذلك على شكل الزيارة الاستفزازية التي قام بها، يوم 28 أيلول 2000، زعيم حزب الليكود
أريئيل شارون
إلى الحرم الشريف، محاطاً بألف شرطي. وكان الغرض من الزيارة تأكيد السيادة الإسرائيلية على موقعٍ فلسطينيٍ مقدّس. وفي اليوم التالي، قام مئات من الشبّان بالتظاهر في أحياء متعددة من القدس. وأدّى إطلاق النار من جانب الشرطة الإسرائيلية الى مقتل سبعة منهم، وهو ما شكّل بداية
وكان رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات يقف على رأس قطاعات سياسية واقتصادية وأمنية متنوعة في السلطة، لكنه لم يكن يسيطر عليها بشكل كامل. وداخل "فتح"، شعر ’التنظيم’ بقيادة مروان برغوثي
بأن إسرائيل خانت تعهّداتها واندفعت نحو الضمّ تحت زعم التفاوض؛ وآخرون، ويمثّلهم محمود عباس
، اعتبروا أن المواجهة العسكرية لا يمكن أن تقود إلاّ إلى انتصارٍ إسرائيلي. وحاول عرفات استخدام كلا التيارين ضد إسرائيل. وكانت "حماس" والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تقف بحزم وراء هذه الانتفاضة، إذ إنها كانت دائماً تعتبر المفاوضات عبثية، والوضع القائم غير مقبول. أمّا لاعبون دوليون، مثل الرئيس الفرنسي
القدرة على الصمود
وكان العديد من الفلسطينيين يرفضون أي عودة إلى الوضع القائم السابق. ودفعت جماعات مناضلة نحو ابتداع أشكال جديدة من المقاومة المسلحة، وقامت بتطوير أسلحة وجدتها في ترسانات الأجهزة الأمنية. أمّا إسرائيل فنصبت شيئاً فشيئاً المئات من الحواجز على الطرق، وفرضت إغلاقات دائمة، وحاصرت قرى ومخيمات ومدناً، وفصلت فيما بينها. وفُرض على مئات الآلاف من الأشخاص البقاء في بلداتهم لأشهر عدة. وتعرّضت أعداد كبيرة من النساء لمخاض الولادة عند حواجز مغلقة، عاجزات عن الوصول إلى المستشفيات، وهو ما أدّى في بعض الأحيان إلى وفاة المولودين الجدد.
وراهنت إسرائيل على كسر إرادة المقاومة لدى الفلسطينيين من خلال الضغط الاقتصادي المستند إلى إجراءات حظر تجوّل متكرّرة ونظام الإغلاقات الدائمة. وتراجع متوسط دخل الفرد الفلسطيني بحلول أوائل سنة 2003 إلى حدود 50 بالمئة، لكن التقاليد المحلية في الاعتماد على الذات في القرى والمخيمات والأحياء ساعدت الناس على مواصلة مقاومتهم. وبدأ متطوّعون أجانب يأتون إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، منهم من كان ينتمي إلى ’حركة التضامن الدولية ’. فعلى امتداد أربعة أعوام، أقام أكثر من ألف منهم مع عائلات فلسطينية تعيش في أحياء خطرة، ونقلوا ما شاهدوه إلى العالم. ومع ذلك، شعر الفلسطينيون بأنهم تُركوا لشأنهم من المجتمع الدولي، وبصورة خاصة من العالم العربي. وكانت أشهر أناشيدهم في تلك الحقبة... "وين الملايين؟".
سنوات التصعيد 2001-2003
على الجبهة العسكرية، تمكّن المقاتلون الفلسطينيون أحياناً، ولو موقتاً، من الالتفاف على بعض الحواجز. وفي لحظة مثيرة، تمكّن مقاتل فلسطيني، اسمه ثائر حمّاد ، مستخدماً بندقية قديمة، من قتل عشرة إسرائيليين على حاجزٍ عسكري في منطقة وادي الحرامية ، شمال رام الله . وانطلقت حركة "حماس" والجهاد الإسلامي في سلسلة منتظمة من التفجيرات الانتحارية (وهو أسلوب لم يكن متبعاً سابقاً إلاّ على نطاقٍ ضيّق)، وذلك ردّاً على العنف الإسرائيلي. والآن باتت الجماعات الإسلامية، وأيضاً "فتح" والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تلجأ بشكل متزايد إلى هذا الأسلوب. وفي بعض الحالات، كان المقاتلون من النساء. وخلال العامين الأوّلين للانتفاضة، جرى تنفيذ العشرات عمليات كهذه؛ لكنها وتيرتها بدأت بالانخفاض بالتدريج مع تصاعد المعارضة الداخلية لها.
عندما قرّرت إسرائيل إعادة احتلال المنطقة أ في أواخر آذار/ مارس 2002، شهدت مدن ومخيمات اللاجئين الفلسطينية أعنف المواجهات العسكرية في فترة الانتفاضة. وأدّت الحملة الإسرائيلية، التي استمرّت حتى مطلع أيار، إلى مقتل 500 فلسطيني، كما تمت محاصرة عرفات عسكرياً في مقرّه الرئيسي في رام الله، حيث بقي هناك بصورة دائمة تقريباً حتى نهاية حياته. وبنظرة إلى الخلف، يمكن اعتبار أن تلك الحملة لاستعادة السيطرة على المنطقة أ كانت سهلة نسبياً، باستثناء حالة واحدة، وأظهرت أن الجيش الإسرائيلي استوعب دروس انتفاضة النفق: فقد استخدم عدداً كبيراً من القنّاصة، والطائرات الطوّافة الهجومية، وكذلك الجرّافات المصفّحة (وأحياناً الدبابات)، بحيث فرض ثقل هجمته على المقاتلين الفلسطينيين، الذين التزموا أساليب حروب العصابات المدينية ’اضرب واهرب’.
لقد تمثل الاستثناء المذكور في الصعوبة التي واجهتها القوات الإسرائيلية في إخضاع مخيم جنين للاجئين ، إذ دام الهجوم الإسرائيلي عليه عشرة أيام وكان مُكلفاً، فقُتل 22 جندياً إسرائيلياً و52 فلسطينياً من المقاتلين وغير المقاتلين. أمّا فلسطينياً، فكانت إدارة المقاومة في المخيم تحت قيادةٍ موحّدة (غير فئوية)، وإن تمّ تقسيم المنطقة إلى عدّة وحدات قتالية مستقلة ذاتياً. وعلى الرغم من أن الغزاة نجحوا في نهاية المطاف عبر تحويل المخيم إلى ركام، فإن أصداء مقاومة مقاتلي المخيم تردّدت في أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبحت المعركة نموذجاً يُقتدى به في المواجهات المسلّحة التي تواصلت، وخصوصاً في قطاع غزة.
إنهاء الانتفاضة
على الجبهة السياسية، تعرّض عرفات لضغوط دولية كثيفة لاستحداث منصب رئيسٍ حكومة وللعمل على تخفيض حدّة المواجهة. وفي آذار 2003، قام، على مضض، بتعيين نائبه، محمود عباس، رئيس وزراء "تنفيذي". ونظراً إلى التنافس الشخصي والخلافات السياسية (كان أبو مازن يرغب في الحدّ السريع من العمليات العسكرية)، كان هذا الترتيب محكوماً عليه بالفشل منذ البداية، إذ قدم محمود عباس استقالته بعد ستة أشهر. وفي هذه الأثناء، قامت "
طرد إسرائيل من غزة
بحلول سنة 2003، انتقلت ساحة المعركة الرئيسية إلى غزة، حيث كانت المقاومة حاذقة تستند إلى المخيمات، في نسخة موسّعة جغرافياً عن إستراتيجية جنين. فكان مقاتلون فلسطينيون يقومون بمحاصرة المستوطنات الإسرائيلية بشكل متكرّر، وبإحاطتها، على ما يبدو، بألغام مميتة كانت تدفن خلسةً في الرمال: وبالفعل تعرّضت دبابات إٍسرائيلية وحاملات جند مصفّحة للتفجير. من جهتها، قامت إٍسرائيل باغتيال قيادات فلسطينية، ولا سيما قيادات من "حماس"، وهو ما أدّى إلى عمليات انتقامية قاتلة، تسبّبت بدورها بحملات انتقام إسرائيلية محمولة جواً، أسفرت عن خسائر وإصابات بشرية مدنية كبيرة. وفي سنة 2003، أعلن شارون نيته إزالة المستوطنات (والجنود كذلك بالمحصّلة) من غزة. وتطلّبت هذه العملية عامين من الزمن لتنفيذها فعلاً.
بيروقراطية فلسطينية جديدة – قديمة
في تشرين الأول/أكتوبر 2004، نُقل ياسر عرفات، الذي تدهورت صحّته بصورة خطرة، جواً من مقرّه المحاصر إلى
في السنوات اللاحقة، شهدت الأراضي الفلسطينية استمرار حدوث هبّات متقطّعة، وخصوصاً في القدس، بدعم شعبي في كل أنحاء فلسطين التاريخية. غير أن المجتمع الفلسطيني وجد نفسه منقسماً بشكل متزايد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. واستمرّ نظام الاحتلال الاستيطاني في اندفاعته التي لا ترحم للسيطرة، متمدّداً في كل زوايا القدس والضفة الغربية، في حين بقيت حدود قطاع غزة ومعابره، البرية والبحرية كافة، مسيطراً عليها من إسرائيل.
جاد، إصلاح. "رؤية فلسطينية الوضع الفلسطيني ما بعد الاجتياح الإسرائيلي واستشراف لآفاق المستقبل". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 51 (صيف 2002)، ص 31.
حويل، جمال. "معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي" (تقديم مروان البرغوثي)، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2022.
زايتس، شارمين. "حركة التضامن الدولية مع فلسطين على مفترق طرق". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 56 (خريف 2003).
كيالي، ماجد. "الانتفاضة والمقاومة والعمليات الاستشهادية: التأثيرات والإشكاليات". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 52 (خريف 2002)، ص 43.
منصور، كميل. "أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 والمواجهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 49 (شتاء 2002).
هلال، جميل. "انتفاضة الأقصى: الأهداف المباشرة ومقومات الاستمرار". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 44 (خريف 2000)، ص 26.
Chagnollaud, Jean-Paul. “Intifada ou lutte de libération?” Confluences-Méditerranée, no. 37 (2002), pp. 11–18.
Heacock, Roger. “Seizing the Initiative, Regaining a Voice: The Palestinian al-Aqsa Intifada as a Struggle of the Marginalized.” In Subalterns and Social Protest: History from Below in the Middle East and North Africa. Edited by Stephanie Cronin. London: Routledge, 2008.
Pressman, Jeremy. “The Second Intifada: Background and Causes of the Israeli–Palestinian Conflict.” Journal of Conflict Studies, vol. 23, no.2 (Winter 2003), pp. 114–141.
World Bank. Twenty-seven Months–Intifada, Closures and Palestinian Economic Crisis: An Assessment. Jerusalem: Author, May 2003.
Related Content
إجراء عقابي عنف
إسرائيل تفتح نفقاً في المدينة القديمة بالقدس، مواجهات فلسطينية - إسرائيلية
1996
24 September 1996 - 28 September 1996
عنف
إستراتيجية إسرائيل الانتقامية وأولى علامات "عسكرة" الانتفاضة
2000
19 October 2000 - 7 November 2000
عنف سيرة ذاتية
انتخاب أريئيل شارون رئيساً للحكومة الإسرائيلية؛ ضحايا الانتفاضة في عهد إيهود باراك
2001
6 February 2001
استعمار سياساتي - برامجي
فك الارتباط الإسرائيلي عن قطاع غزة، 2005
مفاقمة الحصار واستهداف أراضي الضفة الغربية