إضاءة على –

مخيم الرشيدية

إضاءة على –
مخيم الرشيدية

مخيم الرشيدية

12 كانون الأول 2009
Source: 
grabbelaar/Flickr

من موقعه على شاطئ البحر يطل مخيم الرشيدية، أكبر مخيمات منطقة صور في الجنوب اللبناني على شواطئ فلسطين، فهو الأقرب إليها جغرافياً، إذ يبعد فقط، نحو 13 كلم عن الحدود الفلسطينية – اللبنانية، بينما يبعد نحو 5 كم من مدينة صور في الجنوب اللبناني. والمخيم محاط بالأشجار والبساتين، ويحاذيه شاطئ البحر الذي تصل أمواجه إلى حدود المنازل، وهو ما يجعل الرشيدية شبه معزول عن محيطه.

شهدت الأوضاع في المخيم تقلّبات كثيرة على عدة مراحل، أبرزها: الأولى قبل توقيع اتفاق القاهرة بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1969؛ الثانية بعد الاتفاق؛ الثالثة بعد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 حتى الآن.

نشأة المخيم وبنيته التحتية

في سنة 1949 استأجرت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) أرض المخيم من الحكومة اللبنانية فأُنشئ المخيم الأول، أو ما صار يعرف بالمخيم القديم. ولم يكن الفلسطينيون أول من سكن المخيم، إذ كانت الحكومة الفرنسية قد أنشأته في سنة 1936 لإيواء الأرمن الذين لجأوا إلى لبنان قبل أن يغادروه لاحقاً.

وفي سنة 1963 قررت السلطات اللبنانية نقل سكان مخيم ثكنة غورو من مدينة بعلبك البقاعية إلى الرشيدية، فنشأ المخيم الثاني، أو الجديد. وهكذا صار سكان المخيم يقسمون إلى: سكان المخيم القديم، وسكان المخيم الجديد.

تقدر مساحة الرشيدية بـ 228 دونماً، تفصله عن مدينة صور القريبة، منطقة الشواكير، وهي مساحة رملية طويلة نسبياً، كان من المستحيل على التمدد الأسمنتي أن يقطعها، وكان يحلو دائماً للإسرائيليين اختيارها لتنفيذ إنزالاتهم البحرية. وفي هذه المساحة الرملية أيضاً كانت الشرارة الأولى لانتقال حرب المخيمات في ثمانينيات القرن الماضي بين حركة أمل والفصائل الفلسطينية من بيروت إلى الجنوب، فساهمت في عدم تمدد المخيم شمالاً ليتصل بالمدينة.

من ناحية البناء، ربما يعتبر الرشيدية أفضل من مخيمات أُخرى، إذ إن بناء المخيم الجديد بعد سنوات من النكبة وإقامة عدد من المخيمات في مناطق متعددة من لبنان، أتاح للأونروا تنظيم عملية البناء بطريقة أكثر تنظيماً وأقل عشوائية. لكن هذه العملية استغرقت فترة من الزمن عانى خلالها السكان كثيراً، إذ تم إُسكانهم في غرف مكتظة، ودون ماء ولا كهرباء، وعانوا الحشرات، وكان عليهم استعمال الحمامات العمومية.

وبعد اكتمال عملية البناء بالتدريج، بدا المخيم ببناء أفقي متناسق، وبمساحات ليست ضيقة بين المنازل، وبشوارع تُعتبر واسعة إلى حد ما. لكن هذا التنظيم لم يأخذ بالاعتبار محاذاة الشاطئ للمنازل، فتفاجأ السكان مع أول فصل شتاء بطوفان مياه البحر التي وصلت إلى المنازل القريبة، فجرفت الصفين الأولين من المنازل. الأمر الذي كان يتسبب بخسائر مادية كبيرة، بالإضافة إلى حالات الهلع التي كانت تصيب السكان قبل أن تقوم الأونروا بهدم ما يلزم من المنازل وببناء سور يفصل البحر عن بقية المنازل.

لم تدم هذه الحال طويلاً، إذ إن الزيادة في عدد السكان حتمت زيادة في عدد المنازل، فأخذ البناء يتمدد أفقياً وعامودياً داخل المخيم حتى عادت المنازل لتلاصق شاطئ البحر، وعادت المياه لتشكل خطراً سنوياً يهدد المنازل والسكان من دون إيجاد حلول ناجعة للمشكلة.

أمّا الصورة الهندسية الجميلة للمخيم فتغيرت بالتدريج، وخصوصاً بعد الاجتياح الإسرائيلي في سنة 1982، وإعادة إعمار المخيم الذي دمرت القوات الإسرائيلية جزءاً كبيراً منه، فكان البناء عشوائياً وأصبحت الشوارع ضيّقة، واختفت المساحات المزروعة، وصارت المنازل شبه متلاصقة.

لكن حركة البناء توقفت لاحقاً بعد إصدار السلطات اللبنانية قراراً قضى بمنع اللاجئين الفلسطينيين من إدخال مواد البناء إلى مخيمات الجنوب بتاريخ 1 كانون الثاني/ يناير 1997، ليشمل لاحقاً مخيم برج البراجنة في بيروت. وقد بررت الدولة اللبنانية هذا القرار بقضية "رفض التوطين". وبموجب هذا القرار يُمنع على اللاجئ الفلسطيني إدخال مواد البناء التالية: الأسمنت وحديد البناء والبحص والرمل والبلاط والألمنيوم ومواد الدهان وخزانات المياه، بالإضافة إلى مولدات الكهرباء.

وينص القرار على أنه في حال المخالفة تتم مصادرة مواد البناء أولاً، ثم اعتقال اللاجئ المخالف وعرضه للتحقيق، بعد أن يُسجل بحقه محضر عقوبة بتهمة التهريب ويغرّم بدفع مبلغ مالي.

وتشير مصادر في المخيم إلى منح استثناءات فيما يتعلق بإدخال مواد البناء بعد الحصول على إذن من استخبارات الجيش في مدينة صور، أو بطلب من الأونروا. لكن هذه الأذونات بالكاد تسمح السلطات اللبنانية بإصدارها. وعليه، فإن المنازل القريبة من شاطئ البحر تبقى عرضة سنوياً لتسرب المياه وللتصدع خلال فصل الشتاء وهو ما يعرّض حياة ساكنيها للخطر، وينطبق الأمر ذاته على المنازل الأُخرى التي تحتاج إلى ترميم أو إصلاح أو ما شابه.

التركيبة الديموغرافية

عندما أُنشئ المخيم كانت عائلاته بمعظمها تنتمي إلى قرى شمال فلسطين، وخصوصاً قرى منطقة الجليل، وأهمها: أم الفرج، الشيخ داود، فارة، سحماتا، دير القاسي، شعب، علما، الكويكات، الغابسية وغيرها من القرى. وكما في سائر مخيمات اللجوء، كان من الطبيعي أن يتجمّع أبناء كل قرية في أحياء و"حارات" تحمل اسم القرية في فلسطين. فهناك مثلاً، حيّ الديارنة، وحيّ السحامنة، وحيّ الشعابنة .... لكن هذه الأحياء لم تمنع التواصل فيما بينها، فكان المخيم صورة عن منطقة الجليل بقراها المتعددة. وحرص أبناء الرعيل الأول من سكان المخيم على زراعة أشجار التين والعنب في "حاكورة" المنزل على غرار ما كانوا يفعلون في فلسطين. فإذا سألت الأجداد عن هذا، يأتي الجواب أن شجرة التين أو "دالية" العنب تحمل رائحة فلسطين.

ومع مرور الوقت أخذت التركيبة السكانية تتغير نتيجة عدة عوامل، أهمها:

1. دخول قوات منظمة التحرير الفلسطينية إلى مخيمات لبنان بعد توقيع اتفاق القاهرة مع السلطات اللبنانية في سنة 1969. وقد استقبل مخيم الرشيدية مجموعات من المقاتلين الفلسطينيين القادمين من الأردن.

2. مغادرة أعداد لا يستهان بها من سكان المخيم في أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل الثمانينيات بسبب الاعتداءات والاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، إذ اضطرت عائلات بأكملها إلى الخروج من المخيم، فمنها من اختار السكن في مدينة صور القريبة، ومنها من ذهب أبعد من ذلك إلى مناطق لبنانية أُخرى، واستقر عدد لا بأس به من هذه العائلات في مدينة صيدا الجنوبية بعد اجتياح 1982.

3. استقبال المخيم مجموعات من العائلات التي لجأت من سورية بعد سنة 2011. ووفق المصادر فإن المخيم استقبل مع بداية الأزمة السورية نحو 500 عائلة نازحة، ثم انخفض العدد إلى 200 عائلة تقريباً، إذ هاجر العدد الأكبر إلى أوروبا ضمن برامج جمع الشمل، وعاد البعض الآخر إلى سورية.

وقد انعكست هذه التغييرات على المخيم فاختلطت الأحياء إلى حد ما، ولم يعد التقسيم القروي هو السائد كما كان عند نشأة المخيم، لكن الانتماء بمعناه الوطني لا يزال طاغياً حتى اليوم.

أمّا عدد السكان، فبحسب سجلات الأونروا، يبلغ عدد السكان 27.000 نسمة. لكن إحصاءات التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان، الصادر عن لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني في سنة 2017، تشير إلى أن عدد الذين شملهم الإحصاء في المخيم هو 8641 فرداً فقط. بينما تعتبر مصادر اللجان الشعبية والأهلية أن الأرقام التي صدرت عن هذا الإحصاء غير دقيقة، وتؤكد أن عدد المقيمين حالياً يتراوح بين 20 و22 ألفاً يتوزعون على نحو 4500 عائلة، بمتوسط أربعة أفراد لكل عائلة.

التركيبة الاجتماعية

المخيم في جميع الأحوال هو صورة مصغّرة عن المجتمعات الأكبر التي تضم مختلف الطبقات؛ فهناك العائلات الميسورة، والمتوسطة، والفقيرة. لكن المخيم احتفظ من ناحية ثانية بخصوصية معينة، فعلى الرغم من أن أهالي القرى أصبحوا بجميع فئاتهم لاجئين بعد النكبة، فإن المكانة العائلية حافظت على هيبتها في المخيمات، ولا سيما في السنوات الأولى. وقد يصح القول إن العائلات الميسورة لم تفقد كثيراً من مكانتها على الأقل بين أبناء القرية الواحدة، وظل "مختار القرية" مثلاً يحتفظ بلقبه حتى وإن خسر منصبه، وظل وجهاء القرى وكبار السن يشكلون مرجعية عائلية داخل المخيمات. وفي المرحلة الأولى كانت الوظائف البارزة في الأونروا من نصيب أبناء العائلات الكبرى والميسورة، بينما توزع أبناء الطبقتين المتوسطة والفقيرة بين الموظفين العاديين وأصحاب المهن الحرة الصغيرة والعمّال والعاطلين عن العمل.

العلاقة مع المحيط

يختلف مخيم الرشيدية عن غيره من مخيمات لبنان بسبب بعده عن المناطق السكنية المجاورة، وهو ما أدى إلى عدم التواصل بين سكان المخيم وأهالي القرى اللبنانية المجاورة في البدايات، بالإضافة إلى وجود القوى الأمنية اللبنانية على مداخل المخيم لمراقبة حركة الدخول والخروج. فكان المخيم في شبه عزلة، يغادره المزارعون وعمّال البناء صباحاً ويعودون إليه مساء، ولاحقاً تعوّد السكان على الخروج قاصدين مدينة صور لشراء ما يحتاجون إليه، ويوماً بعد يوم نشأت علاقات بين أصحاب العمل اللبنانيين والعمّال الفلسطينيين، وبين أصحاب المحال في المخيمات والتجار في القرى المجاورة ومدينة صور.

العمل

لم تكن خيارات العمل كثيرة أمام سكان الرشيدية في الفترة الأولى من إنشاء المخيم، فالأعمال المتاحة كانت في معظمها تتركز في قطاعي الزراعة والبناء. وبما أن منطقة الجنوب اللبناني تشتهر بزراعة الحمضيات، فقد أقبل عدد كبير من أبناء المخيم على العمل في البساتين المجاورة للمخيم في مواسم الزراعة، والعمل في مجال البناء في مواسم أُخرى. وشكّلت اليد العاملة الفلسطينية فرصة ذهبية لأصحاب العمل اللبنانيين، إذ وجدوا أيدي عاملة ماهرة ترضى بأجر زهيد.

لكن الأوضاع تغيرت في المرحلة الثانية، بعد وصول الفدائيين إلى المخيم، إذ تحوّل قسم من الشباب والرجال إلى الانتظام في صفوف الفصائل المقاتلة، مع بقاء نمط العمل في قطاعي الزراعة والبناء. لكن يمكن القول إن الأوضاع المادية تحسّنت بشكل ملحوظ في هذه المرحلة عن سابقتها نظراً إلى التسهيلات التي أمّنتها منظمة التحرير في المخيمات ولا سيما فيما يتعلق بحرية التنقل ومجالات العمل.

بعد اجتياح سنة 1982، وخروج قوات منظمة التحرير من لبنان بدأت فرص العمل تتضاءل بالتدريج حتى أصبحت النسبة الأكبر من سكان المخيم عاطلة عن العمل بسبب التضييق في مسألة الدخول والخروج، والقوانين اللبنانية التي تمنع الفلسطينيين من العمل في معظم الوظائف. يضاف إلى ذلك تقلّص المساحات المخصصة للزراعة في المنطقة، الذي قلّص بدوره الحاجة إلى أيدي عاملة في قطاع الزراعة، وبالمثل أيضاً في قطاع البناء بسبب الأوضاع المتعثرة التي أصابت الاقتصاد اللبناني بصورة عامة. وفي مقابل نسب البطالة المرتفعة جداً، قامت مشاريع صغيرة في المخيم: مطاعم وجبات سريعة، متاجر بيع ألبسة، تزيين نسائي ورجالي، صالة أفراح، محلات بيع الخضار والحاجات اليومية، ... وغيرها.

ومع ذلك فإن الأوضاع المعيشية داخل المخيم ليست بالجيدة أسوة بالأوضاع في لبنان بصورة عامة، وهي أوضاع ساهمت في انتشار ظواهر سلبية أخطرها تجارة المخدرات التي نشطت بصورة لافتة، ونجم عنها إشكالات أمنية تصل في أحيان كثيرة إلى حد اندلاع اشتباكات مسلحة، وقد أدت هذه الحوادث إلى سقوط ضحايا من سكان المخيم وهو ما بات يثير غضباً واستياء كبيرين ومناشدة لتدخل القوى الأمنية في المخيم للقضاء على هذه الآفة.

وبسبب نسبة البطالة المرتفعة التي تكاد تصل إلى أكثر من 60%، يسعى كثير من الشباب والعائلات للهجرة إلى أوروبا عبر وسائل متعددة منها القوارب التي تعرض حياتهم للخطر.

الخدمات

تولت الأونروا، بصفتها المسؤولة عن شؤون اللاجئين في المخيمات، مهمة تأمين الخدمات العامة في المخيم، وفي مقدمتها التعليم والصحة، بالإضافة إلى المساعدات الغذائية، إذ ظل سكان المخيمات حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي يحصلون على "إعاشة" عبارة عن بعض المواد الغذائية التي كانت توزع دورياً.

التعليم

في البداية أقامت الأونروا مدارس ابتدائية ثم متوسطة في المخيم، وكان يتعين على الطلاب الراغبين في متابعة تعليمهم الثانوي الانتقال إلى مدارس غير مجانية خارج المخيم، قبل أن تقيم الأونروا مدرسة ثانوية في المخيم تستقبل أيضاً طلاب المرحلة الثانوية من مخيمي البص والبرج الشمالي.

حالياَ يضم المخيم أربع مدارس تابعة للأونروا؛ اثنتان ابتدائيتان، وواحدة متوسطة، وواحدة ثانوية، بالإضافة إلى خمس رياض للأطفال. ويشار إلى أن الأونروا قلّصت خدماتها كماً ونوعاً في هذا القطاع بسبب الأزمات المالية التي تواجهها. وباتت مسألة المعلمين المياومين تثير عاصفة من المشكلات في بداية كل عام دراسي بسبب تراجع الأونروا عن الاستعانة بهم، وهو ما يؤدي إلى حرمانهم من المورد المادي الذي يعوّلون عليه.

لكن، وعلى الرغم من كل الأوضاع السيئة، يُسجل ارتفاع ملحوظ في مستوى التعليم بين أبناء المخيم، إذ يتوجه العشرات سنوياً إلى الجامعات في لبنان والخارج. لكن تبقى فرصة الحصول على عمل الهاجس والتحدي الأكبر أمام خريجي الجامعات والمعاهد.

الصحة

حتى أوائل السبعينيات كانت الخدمات الطبية تقتصر على تلك التي تقدمها الأونروا عبر عيادتها في المخيم، والتي كانت تحتل مساحة واسعة بين المخيمين القديم والجديد. لكن مع دخول قوات منظمة التحرير إلى المخيم، بدأت الفصائل بإقامة مستوصفات صغيرة إلى أن افتتحت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني مستشفى بلسم، الذي شكل نقلة نوعية من ناحية الخدمات الطبية، وهو يضم معظم الاختصاصات، وتُجرى فيه عمليات جراحية، بالإضافة إلى قسم للولادة. لكن المستشفى يفتقر إلى أجهزة التصوير الحديثة، وفي هذا الإطار يتعين تحويل المرضى إلى مراكز طبية خارج المخيم. لكنه في الحد الأدنى يؤمن الخدمات الطبية الأساسية التي يحتاج إليها أبناء المخيم. كما يوجد في المخيم عدد من المختبرات الطبية. أمّا الأدوية فيتم تأمينها عبر عدد من الصيدليات، فبالإضافة إلى صيدلية الأونروا، يوجد في المخيم 9 صيدليات، وهو عدد لا بأس به بالنسبة إلى مساحة المخيم وعدد سكانه.

الخدمات العامة

أ - المياه: لم يحظَ سكان المخيم عندما نقلوا إليه بترف التمتع بالخدمات العامة من ماء وكهرباء كسائر البشر. فالحصول على الماء لم يكن بالأمر السهل، إذ أنشأت الأونروا مضخات للمياه في أماكن معينة، فكان على السكان الذهاب إلى أقرب مضخة لتعبئة المياه. وفي أحيان كثيرة كان النسوة ينتظرن دورهن الواحدة تلو الأُخرى لتعبئة "تنكة الماء" والعودة بها إلى المنزل. واعتاد السكان على تسمية المكان بـ "الحنفية". وظلت الحنفية مصدراً وحيداً للمياه إلى أن بدأت عملية جر المياه إلى المنازل.

حالياً يحصل المخيم على المياه من عدة مصادر أهمها: مياه الينابيع والبرك داخل المخيم وتضع عليها الأونروا مضخات وشبكة أنابيب وخزانات. بالإضافة إلى مجموعة آبار ارتوازية تابعة للجمعية الإنسانية للتنمية تزود المساكن بمياه إضافية من خلال شبكة أنابيب خاصة في مقابل اشتراكات شهرية رمزية. كما أن قسماً صغيراً من المخيم يستفيد من مياه مصلحة الليطاني.

أمّا فيما يتعلق بالصرف الصحي، فقد أنشئت شبكة جديدة، في سنة 2016، لكنها لم تشمل سوى ثلاثة أرباع المخيم، فيما لم يتم إنجاز الجزء المتبقي حتى الآن، بالإضافة إلى شبكة من القنوات لتصريف مياه الأمطار. كما أُنشئت محطة مركزية لمعالجة الفضلات، وإعادة ضخها إلى محطة معالجة مركزية موجودة في المنطقة وتتبع لبلدية صور وضواحيها.

ب - الكهرباء: ما ذُكر عن المياه يصح قوله على الكهرباء. فسكان الرشيدية ظلوا سنوات يعتمدون على مصابيح الكاز للإضاءة، بينما كانت العائلات الميسورة تضيء أمسياتها "بلوكس" الغاز المميز. ذلك قبل أن تقوم الأونروا بالتدريج بمد شبكة خطوط الكهرباء إلى المخيم، التي دمرت خلال الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982. وحالياً يحصل سكان المخيم على الكهرباء من مصدرين: شبكة كهرباء لبنان وهو المصدر الأساسي. والمولدات والاشتراكات الشهرية والتي تتراوح قيمتها الشهرية بحسب تكلفة مادة المازوت. وبسبب أزمة المحروقات التي يشهدها لبنان، يعاني سكان المخيم حالياً انقطاعاً حاداً في ساعات التغذية، بينما لا تستطيع نسبة كبيرة من السكان تغطية بدلات الاشتراك في المولدات الخاصة.

إدارة شؤون المخيم

في المرحلة الأولى من إنشاء المخيم تولّت القوات الأمنية اللبنانية المعروفة بالشعبة الثانية مهمة الأمن، بينما كانت الأمور الخدماتية من مسؤولية الأونروا. وحتى أواخر الستينيات خضع السكان لإدارة أمنية مشددة، إذ كانت مهمة عناصر "الدرك" التابعين لما يُعرف داخل المخيم بـ "المكتب الثاني" تبدأ من توقيت الخروج والدخول من المخيم وإليه، مروراً بشؤون حياتية عادية كإصلاح المنازل وتعبئة المياه، وصولاً إلى المسائل الأمنية. وبهذا أطبقت الشعبة الثانية سيطرتها على المخيم، فسادت علاقة يحكمها الخوف والترقب من ناحية والقوة والشدة من ناحية ثانية.

ظل هذا الوضع سائداً حتى توقيع اتفاق القاهرة سنة 1969 الذي نظم الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، وقضى بتسلّم منظمة التحرير الفلسطينية الإشراف على المخيمات وانتهاء مرحلة الشعبة الثانية في مخيمات لبنان. فتنفس أبناء المخيم الصعداء، وبدأت مرحلة جديدة في المخيم أعطت سكانه نوعاً من الشعور بالأمن والقوة والحرية. ومنذ تلك الفترة وحتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، صار المخيم عرضة لشتى أنواع الاعتداءات الإسرائيلية براً وبحراً وجواً، بحجة وجود قواعد عسكرية في المخيم.

في السنوات الأولى بعد الاجتياح الإسرائيلي سادت الضبابية، إذ ضاعت الأمور بين القوى الأمنية اللبنانية والقوى الحزبية اللبنانية. وبينما كانت الفصائل الفلسطينية تعيد ترتيب صفوفها سراً، كان سكان المخيم يعيشون حالة من عدم الاستقرار والترقب. وفي سنة 1985 أُطلقت حرب المخيمات التي قادتها حركة أمل، وتعرّض الرشيدية لحصار محكم ولعمليات قصف أدت إلى سقوط عدد من أبناء المخيم بين قتيل وجريح.

حالياً، تتولى الفصائل الفلسطينية إدارة شؤون المخيم من الناحية الأمنية عبر القوة الأمنية المشتركة التي تنسّق مع السلطات الأمنية اللبنانية، بينما تشرف اللجان الشعبية والأهلية إلى جانب الأونروا على إدارة الشؤون الخدماتية.

المقاومة

لا يكتمل الحديث عن مخيمات لبنان بصورة عامة، ومخيمات الجنوب بصورة خاصة، من دون التوقف عند مسيرة الكفاح المسلح والمقاومة، وهي مسيرة مرّت أيضاً بأكثر من محطة. فحتى منتصف ستينيات القرن الماضي، كان مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مشتتاً، مستسلماً، ومن دون قيادة جامعة، لكن الأمور تغيرت بعد ظهور المقاومة الفلسطينية، فأصبح المقاتل الفلسطيني (الفدائي)، وبندقيته (الكلاشينكوف)، في نظر الفلسطينيين والمقاتلين اللبنانيين الذين ساندوا القضية الفلسطينية، صورة ورمزاً للحرية والثورة والقوة. وشكل موقع لبنان الجغرافي على حدود فلسطين السبب الرئيسي لاعتماد الفدائيين عملية تسلل الحدود كتكتيك عسكري رئيسي. 

وخلال الاجتياح الإسرائيلي في سنة 1982 اجتاحت القوات الإسرائيلية المخيم كما حدث بالنسبة إلى سائر مخيمات الجنوب اللبناني، واحتلته بعد أن دارت فيه معارك طاحنة، وقد خاض المدافعون قتالاً شرساً في مخيمي الرشيدية والبرج الشمالي، وبحسب المصادر الإسرائيلية فإن الأمر استدعى مشاركة فرقة كاملة (أي أكثر من 10.000 رجل) على مدى ثلاثة أو أربعة أيام تكبد خلالها الإسرائيليون نحو 120 إصابة. 

خاتمة

على الرغم من حياة الشتات، ومآسي اللجوء، فإن لسكان المخيم مجتمعهم الخاص، بأفراحه وأتراحه؛ فجدران المنازل ملأى بصور الشهداء المبتسمين، وهناك تقام الأعراس، وهناك يذهب التلامذة يومياً إلى مدارسهم، ويلهو الأطفال في الأزقة، ويجلس المسنون أمام المنازل (على المصاطب) يتذكرون ويحكون القصص. هو نبض الحياة اليومية بكل تفصيلاته. وحدها يوميات الفلسطينيين المثقلة بهموم اليوم وهواجس المستقبل صامدة.  ووحدهم سكان الرشيدية بإمكانهم النظر بعيداً صوب فلسطين، يحلمون بالعودة، كلما صعدوا إلى أسطح منازلهم، أو راقبوا شاطئ البحر الغاضب.

قراءات مختارة: 

الأمين، حازم. "الرشيدية مخيم الأوهام والحقائق الثقيلة، وفلسطينيو صيدا مختلفون عن المقيمين في عين الحلوة"، جريدة "الحياة"، العدد 13403 (18 تشرين الثاني/ نوفمبر 1999).

الخالدي، رشيد. "تحت الحصار: صناعة القرار في منظمة التحرير الفلسطينية خلال حرب 1982". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018.

صفير، جيهان. "الفلسطينيون في لبنان: نشوء مفهوم ’العدو الداخلي’". في: محمد علي الخالدي. "تجليات الهوية: الواقع المعاش للاجئين الفلسطينيين في لبنان". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2010.

الشوفي، فراس. "جدار الرشيدية: لا لشيطنة الفلسطينيين". جريدة "الأخبار". 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2018.

منظمة ثابت لحق العودة. "15 سنة على عدم إدخال مواد البناء إلى مخيمات اللاجئين في لبنان.. ماذا بعد؟":

 thabit-lb.org/ar/Default.asp?ContentID=641&menuID=4

وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى. " مخيم الرشيديه للاجئين":

unrwa.org/ar/where-we-work/لبنان/مخيم-الرشيديه-للاجئين      

t