جدول الأحداث الكلي

جدول الأحداث الكلي

Highlight
اللد، 9-13 تموز/ يوليو 1948
مذبحة مدينة تفاقمها مسيرة الموت

شكلت الهدنة الأولى التي أُعلنت في فلسطين في 11 حزيران/ يونيو 1948 لمدة أربعة أسابيع فرصة للإسرائيليين لاستكمال مخططات احتلال المدن والقرى الفلسطينية وتهجير سكانها، وكانت مدينتا اللد والرملة الهدف القادم. فبين انتهاء الهدنة الأولى في 9 تموز/ يوليو وبداية الثانية في 18 تموز، وقعت مجزرة اللد فأُضيفت إلى سلسلة المجازر التي حفلت بها حرب فلسطين . واللافت وقوع المجزرة على مرحلتين: الأولى عند احتلال المدينة، والثانية خلال عملية الطرد الجماعي والتي تعتبر من أكبر عمليات التطهير العرقي ("الترانسفير") التي نفّذها الإسرائيليون.

تقع اللد في الجنوب الشرقي من مدينة يافا وفي الشمال الشرقي من مدينة الرملة، وترتفع 50 متراً عن سطح البحر. تميزت بوجود خط سكة حديد ومحطة قطارات كانت تُعتبر أهم محطة بعد محطة حيفا . وأخذت اللد تتوسع في عهد الانتداب البريطاني نتيجة مرور سكة حديد القنطرة -حيفا، وإنشاء مطار اللد الدولي. وفي سنة 1945 كانت مساحة المدينة 3,855 دونماً، وقدّر عدد سكانها سنة 1946 بنحو 18,250 نسمة، وكانت حينها خالية من اليهود. اشتهرت اللد بمعاصر زيت الزيتون وزيت السمسم، وكان سوقها التجاري الذي يُعقد كل يوم اثنين مبعث حركة تجارية لها وللقرى والبلدات الأُخرى.

اقترن اسم اللد بمدينة الرملة، فهما توأمان، تقعان في وسط فلسطين تقريباً، وتبعد الواحدة عن الأُخرى نحو 3 كم فقط. وبحسب خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين ، الصادرة في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1947، كانت منطقة اللد – الرملة ضمن الدولة العربية. وقد واجهت المدينتان مصيراً مشتركاً في تموز 1948 عندما احتلتهما القوات الصهيونية. وفي نظرة موجزة إلى التطورات التي سبقت المجزرة يمكن رصد ما يلي:

- بين أواخر نيسان/ أبريل ومنتصف أيار/ مايو سقطت مدينة يافا وقراها وهُجّر سكانها فلجأ آلاف منهم إلى اللد ما أدّى إلى اكتظاظ المدينة بالنازحين، وتضييق الخناق على اللد والرملة.

- ترك استشهاد حسن سلامة قائد قوات جيش الجهاد المقدّس في المنطقة، في معركة رأس العين في أواخر نيسان، أثراً سلبياً في معنويات السكان. فبعد احتلال رأس العين، تم عزل منطقة اللد – الرملة عن " المثلّث " الفلسطيني، وإغلاق الطريق أمام الإمدادات الغذائية.

- بعد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين لدى انتهاء الانتداب البريطاني في 15 أيار، تمركزت سرية من الجيش الأردني في منطقة بين اللد والرملة، وتبين لقائد السرية أن المدينتين لا يمكنهما الصمود أمام هجمات الصهيونيين بالدبابات والمدفعية إلاّ فترة زمنية محدودة، بالإضافة إلى النقص في التنظيم والتدريب. وهكذا انسحبت السرية عند بدء الهجوم الإسرائيلي على اللد في تموز.

في المقابل كان أهالي اللد يستعدون لمواجهة الهجوم الإسرائيلي، فألفوا لجنة قومية، وأُخرى عسكرية، وصحية، ولجنة من تجار المدينة. وكانت اللجنة القومية قد عقدت اتفاقاً مع مختار مستعمرة بن شيمن القريبة قضى بإبقاء الطريق بين اللد والقرى الجبلية آمنة أمام سيارات المدينة وسكانها. وكان لهذه الطريق أهمية كبيرة كونها الأقصر والأسهل لنقل البضائع من المدينة وإليها، لكن قوات الهاغاناه قامت بإغلاقها في أواسط حزيران. كما عمدت إلى تعبيد مهبط صغير للطائرات شمالي شرقي المستعمرة للتزود بالمؤن والنجدات العسكرية، وقد تمكّن مقاتلو اللد من إسقاط إحداها في أواخر حزيران.

في إطار تخفيف الضغط عن مدينة القدس شبه المحاصرة عن طريق تأمين طريق تل أبيب – القدس، قررت القيادة الإسرائيلية أنه لا بد من احتلال اللد والرملة واللطرون والمرتفعات شمالي الطريق بما فيها رام الله ، فوضعت أكثر من خطة في سبيل ذلك:

- عملية لودار (Operation Ludar)، وهي اختصار لكلمتي اللد والرملة.

- عملية ل ر ل ر (Operation LRLR)، وهي الحروف الأولى من اللد والرملة واللطرون ورام الله.

- عملية داني ، تيمناً باسم ضابط في البلماح قُتل في كانون الثاني/ يناير 1948، وهي الخطة الأخيرة التي جرى تبنيها. وحُددت ليلة 9-10 تموز تاريخاً لانطلاقها من مستعمرة بن شيمن.

عشية المجزرة

خلال يومين من انطلاق عملية داني، احتل الإسرائيليون بعد معارك طاحنة، القرى المحيطة باللد في الجبهتين الشمالية والغربية، بالإضافة إلى مطار اللد الدولي. وبهذا تمكنوا من الاتصال بقواتهم في المستعمرات المجاورة، وقد تم ذلك دون أن تحرك مصفحات الجيش الأردني المرابطة في بيت نبالا ساكناً، مع أن القوات الصهيونية لم تكن تبعد عنها أكثر من كم واحد. وفي قرية جمزو القريبة التي كانت ترابط فيها قوة إسرائيلية، أرسل قائد اللواء الأردني دورية إلى القرية تمكنت من طرد القوة الإسرائيلية وقتل عدد من أفرادها، لكن الإسرائيليين عادوا واحتلوا القرية بعد انسحاب الدورية الأردنية. وعشية الهجوم على اللد والرملة، شنّت الطائرات الإسرائيلية غارات مكثفة على البلدتين في أثناء تناول الأهالي طعام الإفطار في شهر رمضان، وهو ما أدى إلى مقتل وجرح العشرات. وقد اكتظ مستشفى المدينة بالجرحى، وفيما انهمك أطباء وممرضون وعمال آخرون في إسعاف المصابين، عمل رجال المدينة على إقامة تحصينات وخطوط دفاعية، رافضين فكرة الاستسلام.

وقائع المجزرة

في صباح 11 تموز ألقت الطائرات الإسرائيلية منشورات دعت الأهالي إلى التسليم ومغادرة المدينة قبل أن تسقط على رؤوسهم، وظهراً بدأ الإسرائيليون هجومهم على اللد من الناحية الشرقية عند قرية دانيال ، وتمكن المدافعون عن المدينة من صد الهجوم بعد معركة عنيفة. وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي ألحقها المدافعون بالقوات المعادية، فإن عتادهم القليل نفد، الأمر الذي مكّن الصهيونيين من شن هجوم جديد بدعم من المدرعات ودخول المدينة مساءً، فبدأوا بإطلاق النار عشوائياً. وفي اليوم الثاني للهجوم في 12 تموز، تمركز الإسرائيليون حول وسط المدينة. ومع أن اللد لم تستسلم، وأن عمليات المقاومة المتفرقة بإمكانات متواضعة استمرت، إلاّ إن الإسرائيليين تمكنوا من السيطرة على المدينة، فاحتجزوا عشرات المدنيين ودعوا السكان الذكور إلى التجمع في الجامع الكبير وفي جامع دهمش  والكنائس وفرضوا حظر تجول في المدينة.

وكانت المفارقة عندما أرسلت القيادة الأردنية قوة مدرعات للتثبت من حقيقة الموقف في اللد، فظن الأهالي أنها مقدمة لقوة أكبر قادمة لشن هجوم معاكس وإنقاذ المدينة، فتشجعوا وراحوا يهاجمون القوات الصهيونية ولا سيما من الناحية الشمالية حيث دخلت المدرعات الأردنية. لكن المفاجأة كانت في انسحاب المدرعات الأردنية بعد وقت قصير، فاضطر المقاومون الذين تحصنوا في مركز الشرطة إلى الانسحاب نحو الجبال، بعد أن نفدت ذخيرتهم، فكانت النتيجة زيادة في بطش الإسرائيليين الذين راحوا ينتقمون من سكان المدينة متذرعين بالرد على مقتل عدد من جنودهم.

وروت مجندة إسرائيلية أن أحد الجنود كان يجول في شوارع اللد حاملاً مكبراً للصوت واعداً السكان بالحماية شرط البقاء في المنازل وفي المسجدين اللذين دخلهما المئات. غير أن الجنود الإسرائيليين كانوا يرمون قنابل يدوية داخل المنازل بحجة وجود قناصين فيها، الأمر الذي جعل السكان، المذعورين من استمرار إطلاق النار، يخرجون ويحاولون الهرب، فما كان من الإسرائيليين إلاّ إطلاق النار عليهم. وذكر أحد المراسلين أن جثث الرجال والنساء والأطفال تراكمت في شوارع المدينة وبقيت في العراء تحت الشمس أكثر من 10 أيام. أمّا الذين احتموا في مسجد دهمش، فقد أطلق الإسرائيليون النار عليهم، فقُتل العشرات منهم (بين 80 و176 شخصاً). ويقدر أن مجموع القتلى داخل المدينة تجاوز 400 شخص.

تهجير سكان اللد

لم تقتصر مأساة اللد على عمليات القتل العشوائي ومذبحة المسجد، إذ في اليوم نفسه، 12 تموز، اُتخذ قرار إسرائيلي، بحسب المؤرخ بني موريس ، بطرد جميع السكان من مدينة اللد. فلدى سؤال وجهه قائد البلماح يغآل آلون  إلى ديفيد بن غوريون عن مصير سكان اللد والرملة، أجاب الأخير، مع إشارة مزدرية وحازمة من يده، "اطردوهم". ومباشرة بعد ذلك، قام يتسحاق رابين ، قائد عملية داني، بتوقيع أمر عسكري تضمن الآتي: "يجب طرد سكان اللد بسرعة دون الالتفات إلى السن".

وفي اليوم التالي، في 13 تموز، أجبر الجنود الإسرائيليون سكان اللد (والبلدات المجاورة بما فيها الرملة) البالغ عددهم نحو 70 ألفاً على الخروج من المدينة خلال نصف ساعة وسلوك طريق وعرة للوصول إلى رام الله، فقضى المئات في الطريق بسبب العطش والجفاف والتعب إذ كانت رحلة الخروج شديدة القسوة والهول. فقد مشى الفلسطينيون في طريق الموت في صف طويل، بينما كانت طائرة عسكرية إسرائيلية صغيرة تحلق فوق رؤوسهم على علو منخفض لإرغامهم على مواصلة الرحيل. ويورد موريس، على لسان ضابط المخابرات شماريا غوتمان : "أعداد غفيرة من السكان يمشون الواحد تلو الآخر. النساء مثقلات بأحمال على رؤوسهن، والأمهات يجررن أطفالهن، وبين حين وآخر تُسمع أصوات طلقات تحذيرية، وبين حين وآخر تواجهك نظرة خارقة من أحد الشبان في الطابور، نظرة تقول: لم نستسلم بعد، سنعود لنقاتلكم."

شهادات على الرحيل من اللد

وتختصر شهادات فلسطينية مشهد المأساة، منها ثلاث تعود إلى شخصيات سيكون لها شأن على المستوى الوطني: إسماعيل شمّوط ، الفنان التشكيلي؛ رجائي بصيلة ، الأستاذ الجامعي في الولايات المتحدة ؛ جورج حبش ، الذي قاد حركة القوميين العرب ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فترة طويلة.

في مقابلة مع مايكل بالومبو يروي إسماعيل شموط، الذي نزح مع أهله من اللد، قصة معاناته في طابور الموت (حيث توفي أخوه عطشاً) فقد أُجبر الآلاف على المسير تحت شمس تموز الحارقة، لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون، لكن العطش كان قاسماً مشتركاً بينهم جميعاً. وربما كان محظوظاً عندما رأى بعض الماء، فهرع ليملأ وعاء كان يحمله. وفي تلك اللحظة يظهر جيب عسكري على متنه ثلاثة جنود. أحدهم، ضابط، يصوب بندقيته إلى رأسه ويأمره بوضع الماء جانباً. ولم يكن أمامه من خيار سوى الطاعة. لكنه يتمكن في النهاية من الحصول على بعض الماء بعيداً عن أعين الجنود. وعلى الرغم من أن الماء كان قذراً وملوثاً، فإنه يشرب بعضاً منه، ويبلل ثيابه بهذا السائل الشبيه بالماء. وعندما يحاول اللحاق بعائلته، تتبعه مجموعة من العطشى أملاً في الحصول على السائل الثمين، حتى أن إحدى النسوة تعصر قميصه المبلل لتحصل على بعض قطرات. ولن ينسى شموط مشهد الآلاف وهم يمضغون الحشائش للحصول على السوائل، بينما يضطر آخرون إلى شرب البول. وعلى جانب الطريق نساء حوامل يلدن أطفالاً لم تكن لديهم أية فرصة في النجاة، فيكتفي الناس بتغطية الجثث بالأعشاب وتركها خلفهم.

معتمداً على حاسة السمع يحكي رجائي بصيلة، الفتى الضرير، قصة الخروج من اللد:

كان اليهود متمركزين هنا وهناك مزودين بمكبرات الصوت والبنادق المعمّرة والجاهزة. أحد هذه المكبرات كان يكرر أنه من الأفضل لنا أن نرحل كي نتفادى ما جرى في المسجد... ثم وجهونا بسرعة خارج الطريق الرئيسي، وأمرونا بالسير في طريق، إذا صحت هذه التسمية... في الواقع، كان هذا طريقاً مرة، ومساراً مرة أُخرى، ثم لا شيء سوى صخور وحجر وتلال ووديان وأدغال وشوك... ولفترة طويلة، لم نكن نعلم إلى أين نتجه... لكن الحركة العامة للناس كانت في اتجاه الشرق ونحو أراضٍ أكثر ارتفاعاً. أمّا الجنود اليهود، فقد انتشروا على مسافة ساعتين من المدينة ليتأكدوا من أن الموكب يواصل تحركه، وكانوا يطلقون النار معظم الوقت في الهواء...، الأمر الذي كان يزيد ويسرّع في وتيرة خوفنا وهلعنا. ومن حين إلى آخر، كانوا يلجؤون إلى أعقاب البنادق مطلقين الشتائم بالعربية، ثم يقومون بالتفتيش والسرقة، وقد وجدوا الكثير، نقوداً وذهباً وجواهر وساعات وأقلام حبر. لقد سمعت في ذاك النهار ولاحقاً روايات كثيرة ... عن شحمات آذان قُطعت مع الأقراط، وأصابع بُترت مع الخواتم، وأيادٍ وحتى أذرع مع الأساور. وسمعت عن شبان دفعوا حياتهم ببساطة لأنهم يملكون وسامة الشكل، أو لأنهم يتمتعون بطول القامة أو قوة العضلات ...

أمّا جورج حبش، طالب الطب العائد من الجامعة الأمريكية في بيروت ليكون مع عائلته في اللد، فيتذكر مشهد الأطفال المحتضرين، والمرضى، والمسنين يمشون تحت أشعة الشمس، لقد استنفد كل قوته وشجاعته كي يبقى حيّاً.

كنا نمشي، كان يوماً حاراً، من أيام شهر رمضان، كان بعض من حولنا يقول هذا هو يوم القيامة، وآخرون يقولون: هذه جهنم. وصلنا إلى آخر البلدة حيث أُقيم مركز يهودي كبير لتفتيش المغادرين، لم يكن معنا أي سلاح، ويبدو أن ابن جارنا واسمه أمين حنحن كان يخبئ بعض المال فلم يقبل أن يفتشوه. عندها أطلق جندي صهيوني النار عليه أمامنا فقتله. واندفعت والدته وشقيقته نحوه وقد علا نحيبهما." ستشكل هذه المعاناة نقطة تحول في حياته. فهو لم ينسَ، وأقسم يومها على الانتقام لمأساة شعبه.

وكغيرها من المذابح وحالات التهجير، لا يوجد إحصاء دقيق لعدد الضحايا، لكن المرجح أن العدد كان قريباً من الألف، بين مَن قُتل في المدينة ومَن لقي حتفه خلال رحلة الموت.

لا شك في أن سقوط اللد والرملة كان بمثابة كارثة حقيقية، وخصوصاً أنه جرى في الفترة الفاصلة بين الهدنتين، فجاء السقوط خاطفاً كأنه في الوقت الضائع الذي أحسن الإسرائيليون استغلاله بينما وقفت الجيوش العربية موقف المتفرج. وقد حقق الإسرائيليون من خلال العملية أهدافاً استراتيجية أهمها: التخلص من الخطر العسكري الذي كان يهدد طريق تل أبيب – القدس، والاستيلاء على مطار اللد ومحطة سكة الحديد، وطرد سكان اللد والرملة والقرى المحيطة.

في رام الله، توزع اللاجئون على مخيمات مكتظة، ولم تعد المدينة قادرة على تحمّل هذا العبء. ولم تقف مأساة السكان عند هذا الحد، إذ لاحقتهم إلى مخيمات اللجوء، فمات المئات منهم. في 2 آب/ أغسطس 1948 زار وسيط الأمم المتحدة في فلسطين، الكونت برنادوت ، اللاجئين في رام الله حيث هاجمه الآلاف طالبين العودة إلى منازلهم. ولاحقاً كتب برنادوت ملاحظاته عن هذه الزيارة قائلاً إنه زار العديد من مخيمات اللاجئين في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية لكنه لم يواجه أبداً هذا المشهد المرعب الذي صادفته عيناه في رام الله، واصفاً النازحين بمجموعة من الوجوه الخائفة في بحر من المعاناة الإنسانية.

 

جدول الأحداث الكلي
E.g., 2024/12/05
E.g., 2024/12/05