بحجة حماية المسيحيين قاطني الأراضي المقدسة، وفي الحقيقة من أجل إرساء نفوذها في الإمبراطورية العثمانية
المتداعية، تتسابق الدول الأوربية إلى افتتاح قنصليات في القدس
: بريطانيا العظمى
سنة 1838، بروسيا
و
تبنّى العثمانيون سياسة سابقيهم المماليك
، واستمرّوا في إغلاق أبواب فلسطين أمام الأوروبيين تحسّباً من عودة عدوانية لـ
فتح أبواب فلسطين
خلال "الاحتلال المصري" لفلسطين (1832-1840)، فُتحت أبواب البلد أمام الأوروبيين، فسُمح لهم بافتتاح قنصليات. وسبق البريطانيون غيرهم فأقاموا قنصليتهم في سنة 1838، ولم يفعل الفرنسيون ذلك إلاّ في سنة 1843. وكان الاهتمام الأول للأوروبيين يتمثّل في "حماية" الطوائف غير المسلمة، حماية الكاثوليك بالنسبة إلى الفرنسيين، وحماية الأرثوذوكس بالنسبة إلى الروس. وباتت الأماكن المقدّسة المسيحية تشهد تنازعات، لم تلبث أن أفرزت تفاعلات سياسية قادت في المحصّلة إلى حرب القِرم (1854-1856) .
وبات بإمكان القنصليات الأوروبية بعد ذلك منح "حمايات قنصلية" لأشخاص قامت بتوظيفهم رسمياً. وبذلك بات لدى المشمولين بالحماية كما لدى الرعايا عدد من الحقوق والامتيازات الضريبية التي قرّبتهم من حقوق وامتيازات الأوروبيين التي ضمنتها المعاهدات المعروفة باسم "الامتيازات الأجنبية". وبات هؤلاء الأشخاص، وبأعداد متزايدة، يتفلّتون من السيطرة العثمانية.
دفع غياب الأمن الذي ساد خلال ستينيات القرن التاسع عشر الفرنسيين إلى التوجّه نحو الزعماء المحليين المسلمين، الذين اعتُبروا أيضاً كمحميين، في حين كانوا في الواقع هم الذين يوفّرون الحماية. وعندما نجحت الحكومة العثمانية في إعادة الأمن والنظام، سعت لأن تقتصر الحمايات القنصلية على غير المسلمين. إلاّ أن تدفّق الجزائريين المسلمين على المنطقة سيؤدي إلى مشكلة متواترة، إذ بينما كانوا يسعون للهرب من السيطرة الفرنسية في بلدهم، وجدوا أنفسهم بعد وصولهم إلى المنطقة يحاولون التفلّت من التجنيد العثماني ثقيل الوطأة، فعادوا إلى الحديث عن كونهم رعايا فرنسيين، وهو ما كان يثير استياء شديداً لدى السلطات العثمانية.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تمكّنت القنصليات من تشكيل جمهور محلي واسع بات يتعاطى معها، وهو ما شكّل أداة نفوذ قوية لها. ووجدت فرنسا، مع قيام يهود فرنسيين في سنة 1860 بتشكيل ’
وفي فلسطين نفسها، باتت لدى القنصلية الفرنسية في القدس
شبكة من القنصليات الفرعية والوكالات القنصلية التي تغطّي كل المنطقة، وتشمل صلاحياتها الجغرافية الدائرة العثمانية لـسنجق القدس
. لكن كلمة "فلسطين" كانت هي المستخدمة في اللغة الفرنسية، بما في ذلك في الأوراق الرسمية. وكانت فرنسا المستثمر الأجنبي الأول، مع ملكيتها خط سكة حديد يافا
-القدس. وكان هناك توجهات لربط هذا الخط بخط "دمشق
-حماة
وامتداده"، الذي تديره شركة فرنسية أيضاً، وكذلك بخط سكة حديد الحجاز
، الذي هو عثماني تحديداً. وكانت الإرساليات الكاثوليكية، ذات الدور المهم في مجال التعليم، تتشكّل في أغلبيتها الكبيرة من فرنسيين، كما كانت تتمتع ببعض الامتيازات (مثل الإعفاء من ضرائب الأملاك والرسوم الجمركية) اعترفت بها
وباتت اللعبة السياسية تدور بين الوجهاء المحليين، والحاكم العثماني وممثليه، والقناصل الأجانب. وفي حال وقوع صدامٍ طائفي، يتدخل القناصل لنزع فتيل التوتّرات لدى غير المسلمين، بينما يقوم الحاكم بالأمر نفسه مع المسلمين. وفي السياق ذاته، سمح تشكّل التحالف الفرنسي-الروسي في تسعينيات القرن التاسع عشر بالحدّ من الخصومات بين الكاثوليك والأرثوذوكس.
أدت ثورة تركيا الفتاة في سنة 1908 إلى المسّ بنظام التوازن هذا؛ فالسلطة الجديدة أرادت إعادة النظر في التدخّلات الأجنبية، بينما وجد الوجهاء المحلّيون مساحة جديدة لهم مع تشكّل حياة سياسية ناشطة وتنظيم انتخابات.
وفي مجمل الشرق الأوسط
، وسّعت الدبلوماسية الفرنسية نطاق توجهاتها فلم يعد دورها يقتصر على حماية الكاثوليك، إذ اعتمدت "سياسة مسلمة" طموحة هدفها مخاطبة الوجهاء المسلمين. وفي أعقاب حروب البلقان (1912-1913)
، توزعت الإمبراطورية العثمانية
بصورة غير رسمية إلى مناطق نفوذ. وبالنتيجة، باتت
فرنسا والصهيونية
في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، بدأت حركة الهجرة اليهودية المنظّمة نحو فلسطين. لكن المنظّمين الأوائل، "
وكان الكادر المُشرف على هذه المستعمرات يتشكّل من يهود فرنسيين لديهم خبرات في مجال الزراعة المتوسطية، وهي خبرات اكتُسبت في حالات كثيرة من العمل في الجزائر المستعمَرة. وشملت المنتوجات التي تصدّرها المستعمرات، في البداية، الخمر (الكاشير- الحلال يهودياً)، ومن ثم الحمضيات التي كان العرب يزرعونها منذ زمن طويل، وخصوصاً "برتقال يافا" الشهير. وفيما حافظ المستوطنون على جنسياتِهم الأصلية، التي كانت في الغالب روسية، أو تبنّى بعضهم الجنسية العثمانية، إلاّ إنهم استفادوا من الحماية القنصلية الفرنسية نتيجة دورهم في الإشراف على المستعمرات. وكانت مدارسهم الجديدة ناطقة بالفرنسية في أغلب الحالات.
وشكّل الاستيطان الذي دعمه روتشيلد أداة إضافية للدبلوماسية الفرنسية في إطار سياسات النفوذ. ولذلك عندما قام
عشية سنة 1914، كان اليهود من الأصول المغاربية في فلسطين، في أغلبيتهم، من الرعايا الفرنسيين أو من المشمولين بالحماية الفرنسية.
الحرب العالمية الأولى والانتداب البريطاني
لم تكن مسألة الصهيونية حاضرة في المداولات بين القوى الكبرى قبل سنة 1917. حينها استخدمت بريطانيا العظمى
الصهيونية للدفع نحو إعادة النظر في مضمون اتفاقات 1916 التي دخلت التاريخ بتسمية غير دقيقة "
وعند انعقاد
وهكذا، أُقيم الانتداب البريطاني على فلسطين على حساب المصالح الفرنسية. وأقدمت فرنسا على بيع خط سكة حديد يافا-القدس للانتداب البريطاني بسعر متهاون. وفي
وبقيت قنصلية فرنسا في القدس قبل كل شيء محطة مراقبة للوضع السياسي في فلسطين، الذي كان يهدّد بالتأثير سلباً في مجمل المنطقة، وخصوصاً أن مناهضة الصهيونية باتت عنصراً متزايد الأهمية في الحركة القومية العربية. ففي سنة 1929 مثلاً، كان لـ اضطرابات البراق انعكاسات سلبية في دول شمال أفريقيا المستعمَرة من فرنسا.
وعلى الصعيد الاقتصادي، كان واضحاً أن هدف استثمارات الانتداب البريطاني جعل حيفا منافسة لـبيروت ، وهو ما لم يكن الجانب الفرنسي بالطبع ينظر إليه بارتياح.
صحيح أن حركة صهيونية منظّمة ظهرت في فرنسا في تلك الفترة، لكنها كانت قليلة الأهمية. فالأوساط الاستعمارية الفرنسية كانت مناهضة لها إذ كانت تعطي الأولوية لاتباع "سياسة مسلمة". وفي فلسطين ذاتها، كان عدد اليهود الجزائريين، الذين يُعتبرون مواطنين فرنسيين منذ
فقط ثلاثة من رجال السياسة الفرنسيين، مصنّفون "من اليسار"، قدّموا أنفسهم كمدافعين عن المصالح الصهيونية: الاشتراكيان
"المؤامرة البريطانية"
في سنة 1937، بنشرهم تقرير
وهذا الموقف يسمح بفهم الاستقبال الذي لقيه في لبنان
وخلال الحرب العالمية الثانية
، فكّرت لندن مرة أُخرى بخطة تقسيم جديدة لفلسطين، مع دمج "الإقليمين السوريين". من جهتها، قامت حركة ’
الصهيونية و"السياسة المُسلمة"
فكّر الديغوليون في ذلك الزمن بإقامة تعاون سياسي سرّي بين الفرنسيين والصهيونيين الذين كانوا قد تحوّلوا آنذاك إلى خصوم للبريطانيين. ولذلك قامت
لكن الأوساط الاستعمارية الفرنسية بقيت متمسّكة بقوة بـ’السياسة المسلمة’ الضرورية لحماية المواقع الفرنسية في شمال إفريقيا، كما استمرت الاتصالات مع الوطنيين الفلسطينيين المنفيين في مصر
. وعندما جرت المناقشات في الأمم المتحدة
سنة 1947 بشأن
لكن عندما وصل مشروع القرار إلى المرحلة النهائية، عمل الاشتراكيون الفرنسيون أمثال ليون بلوم و
وخلال الأشهر الأخيرة للانتداب البريطاني على فلسطين، أدت القنصلية الفرنسية في القدس دوراً في لجنة قنصلية للهدنة التي نجحت في التوصّل إلى وقف موقت للنار في المدينة المقدسة في بداية أيار/ مايو 1948.
وبعد 15 أيار 1948، سلّمت الحكومة الفرنسية أسلحة إلى الصهيونيين سراً على الرغم من الحظر الذي فرضته منظمة الأمم المتحدة على تسليح الأطراف. ثم في أواخر سنة 1948 وأوائل سنة 1949، ربط تبادل الرسائل المعروف بـ"