تُعتبر أشجار الزيتون من أقدم الأشجار في منطقة البحر الأبيض المتوسط ، وقد تتجاوز أعمار بعضها أكثر من 1500 عام، وتنتشر في الجزء الشرقي من حوض المتوسط على طول المنطقة الساحلية التي تمتد من سوريا إلى فلسطين. وينتشر الزيتون في فلسطين على سلاسل القرى، ابتداءً من عكا وصفد وصولاً إلى المنطقة الوسطى التي تشمل قرى جبال نابلس والقدس والخليل . فالظروف البيئية والمناخية السائدة في المناطق الجبلية الشمالية والوسطى في البلد، ومنها المناخ المعتدل ونسيم البحر، أتاحت ازدهار زراعة شجر الزيتون، علاوة على الهيكل الاجتماعي الزراعي الخاص بالمناطق الريفية. ويُلاحظ ندرة هذه الشجرة كلما ابتعدنا عن محيط البحر.
ويُعزى السبب الرئيسي للانتشار التاريخي لشجر الزيتون إلى زراعته من أجل استخراج الزيت، إذ تشير الأدلة الأثرية إلى أن إنتاج زيت الزيتون بدأ في العصر الحجري الحديث (8300 إلى 4500 ق.م.) تزامناً مع الثورة الزراعية التي حدثت قبل 10.000 سنة ق.م. فقد عُثر مثلاً على نوى زيتون وأدوات إنتاج زيت الزيتون في المناطق الساحلية قرب جبل الكرمل في مدينة حيفا ، تعود إلى الألفية السابعة قبل الميلاد. ويُعتبر إنتاج زيت الزيتون من أقدم وأهم الصناعات التجارية القديمة في البلد. ويجمع العديد من الباحثين في مجال ثقافة الزيتون على أنه يمكن وصف زيت الزيتون بمثابة "بترول" العصور القديمة. وبفضل تطور التقنيات العديدة المستخدمة عبر مختلف العصور لاستخراج الزيت من الزيتون، تعززت وتيرة تنمية إنتاج الزيت لأغراض صناعية في هذه المنطقة. وفي فلسطين بصورة خاصة، استمر إنتاج الزيت بوتيرة صناعية، إنما الكمية المنتجة ازدادت في منتصف القرن التاسع عشر بفضل إدخال آلات شبه ميكانيكية.
تركز هذه النبذة على اقتصاد الزيتون كجزء من الموروث الصناعي لفلسطين في القرن التاسع عشر، ففي تلك الفترة تم اقتناء عدد كبير من مكابس البرغي الحديد وضمها إلى مباني المعاصر القديمة في قرى ومدن كثيرة، والعديد منها لا يزال موجوداً في مباني المعاصر المهجورة، وهو ما يمكن اعتباره شاهداً مادياً (أرشيف مادي) عن الآلات التي استخدمت في عملية استخراج الزيت من الزيتون، كما توثق ازدهار القرية والعلاقة مع المدينة الفلسطينية في تلك الفترة المهمة من تاريخ فلسطين الحديث. تم إهمال مكابس البرغي الحديد في الأبحاث الاثرية على عكس التقنيات القديمة التي ساهمت أيضاً في إنتاج زيت الزيتون على مر التاريخ. فالتقنيات التي سبقت استخدام المكبس تم توثيقها بشكل كبير من جانب العديد من علماء الآثار المهتمين في هذه المنطقة. أمّا مكابس البرغي الحديد، فهي أيضاً تُشكّل تراثاً مادياً لصناعة ريفية ساهمت في ازدهار القرى، وخصوصاً المدن الفلسطينية في القرن التاسع عشر. ويمكن القول إنها تشكل موروثاً صناعياً، إذ كان دورها الرئيسي إنتاج سلعة معدّة للاستهلاك والتجارة. هذا الموروث يتحدث أيضاً عن "مبانٍ صناعية" ومعالم مهمة ميزت بقوة المشهد المعماري للقرى الفلسطينية.
التجارة
كان زيت الزيتون جزءاً لا يتجزأ من اقتصاد الإمبراطورية العثمانية . وفي سنة 1863، أدت سياسة الاستثمار في هذا القطاع إلى زراعة 500 ألف شجرة زيتون سنوياً لزيادة الإنتاج، اذ تستغرق شجرة الزيتون من 10 إلى 12 سنة لتبدأ في إنتاج الثمار. وكانت التجارة الخارجية العامل الرئيسي في تنمية إنتاج زيت الزيتون وقطاع صناعة الصابون.
عرف القطاع الصناعي الأولي في فلسطين بداياته في عهد إبراهيم باشا (1831-1840). ومن خلال تركيب طواحين الهواء في القدس، أراد أن يرتقي بالأعمال المحلية التقليدية لإنتاج الدقيق إلى المستوى الصناعي، أو على الأقل أن يجعلها في مستوى الصناعة الأولية. وكان قطاع زيت الزيتون بلا شك ضمن اهتماماته، وهو ما ظهر بوضوح من الحصة الكبيرة من الطلب على زيت الزيتون والصابون من سوق مصر التي استمرت في استيراد أكبر كمية من الصابون وزيت الزيتون من هذا الجزء من الإمبراطورية العثمانية. وكان زيت الزيتون والصابون أكثر ما جرى تصديره من موانئ فلسطين الثلاثة الرئيسية (حيفا وعكا ويافا ). وجاءت المنتوجات المصدرة من موانئ حيفا وعكا من شمال البلد، وصُدّر من ميناء يافا تلك الآتية من الجنوب.
كذلك مثّل زيت الزيتون إنتاجاً صناعياً: فهو مخصص في المقام الأول للأغراض التجارية، وخصوصاً للتصدير. وتتحكَّم في الإنتاج سلطة مركزية تحصل على الضرائب كحصة من زيت الزيتون المنتج محلياً. ومن العوامل الحاسمة الأُخرى التي سهّلت توسيع صادرات زيت الزيتون قرار السلطات العثمانية بتخفيض رسوم التصدير. ففي سنة 1861، خفضت الرسوم الجمركية من 12% إلى 8%. وبعد ذلك، شهد هذا المعدل انخفاضاً سنوياً من 1%، ليصل في النهاية إلى 1% فقط بحلول سنة 1869. ويبيّن الجدول-1 نمو صادرات زيت الزيتون والصابون بين سنتي 1857 و1882، وذلك من ميناء يافا وحده.
الجدول-1
متوسط الصادرات السنوية من ميناء يافا، 1857-1882
القيمة (بالقروش) |
زيت الزيتون (بالأقات) |
القيمة (بالقروش**) |
الصابون (بالأقات*) |
السنة |
|
20.000 |
6.000.000 |
1.000.000 |
1857 |
|
100.000 |
4.480.000 |
800.000 |
1858 |
|
100.000 |
2.500.000 |
500.000 |
1859 |
10.200.000 |
2.040.000 |
|
50.000 |
1860 |
10.879.024 |
1.673.696 |
|
100.000 |
1862 |
|
300.000 |
|
70.000 |
1863 |
|
250.000 |
|
600.000 |
1873 |
|
130.000 |
6.000.000 |
1.000.000 |
1874 |
|
1.000.000 |
5.580.000 |
1.300.000 |
1875 |
24.500.000 |
3.500.000 |
11.030.000 |
246.000 |
1876 |
5.500.000 |
1.000.000 |
|
220.000 |
1877 |
10.000.000 |
2.000.000 |
7.425.000 |
1.350.000 |
1879 |
|
800.000 |
7.612.500 |
1.450.000 |
1880 |
|
160.000 |
5.100.000 |
850.000 |
1881 |
|
406.115 |
6.182.000 |
1.124.000 |
1882 |
* الأقَّة تعادل 1.28 كيلوغراماً.
** القرش: الجنيه الإنكليزي الواحد كان يعادل (1858) 117-140 قرشاً عثمانياً (القرش باللغتين العربية والتركية).
المصدر:
Alexander Schölch. Palestine in Transformation, 1856-1882: Studies in Social, Economic and Political Development. Washington, DC: Institute for Palestine Studies, 1993, pp. 83-84.
عملية استخراج الزيت
بعد جدّ الزيتون ونقله إلى مبنى المعصرة يتطلب استخراج الزيت استخدام العديد من التقنيات للحصول على نوعية وكمية جيدة منه. فكانت التقنية الأولى تتطلب سحق حب الزيتون بواسطة حجر البد أو ما يُعرف بعملية الدرس، أي تحويل حب الزيتون إلى عجينة متجانسة تسمى الدريس، لتسهيل عملية عصرها لاحقاً واستخراج الزيت منها بواسطة تقنية العصر المتبعة داخل المعصرة. ومن الجدير ذكره هنا، أن تقنية الدرس صمدت مئات السنين عبر العصور، في حين تعددت تقنيات العصر أي عملية استخراج الزيت. عند استخراج الزيت يجب فرد العجينة في قفف مصنوعة من الخوص وترتيبها بشكل عمودي في المعصرة. ثم يضغط على القفف بواسطة المكبس أكثر من مرة (مرتين أو ثلاثاً) حتى استخراج آخر قطرة زيت. (انظر الصور رقم 1و3).
يتم تجميع خليط زيت الزيتون وماء النبات المستخرج في حفرة معدّة سلفاً بجانب المكبس، ولدى الانتهاء من عملية استخراج الخليط السائل، عندما يطفو الزيت على سطح الحفرة، يجب فصل زيت الزيتون عن ماء النبات فوراً بواسطة مغرفة. بعد العصرة الأولى التي تنتج زيتاً الأكثر جودة وصالحاً للأكل (والتصدير)، تخضع عجينة الدريس المستهلكة التي تسمى الجفت للتسخين ولعصرة ثانية أو ثالثة لاستخراج المزيد من الزيت منها، يُسمى زيت العملة. وكان زيت العملة يباع لمصانع الصابون، وخصوصاً في مدينة نابلس التي اشتهرت بإنتاج الصابون منذ بداية القرن التاسع عشر. وأخيراً، يمكن استغلال ما يتبقى من الجفت كوقود نظراً إلى قدرتها على الاشتعال. ومن الجدير بالذكر أن نصف زيت الزيتون المنتَج في فلسطين كان يُستخدم لإنتاج الصابون، والربع للغذاء والتدفئة والربع المتبقي للتصدير.
تطور تقنيات استخراج الزيت
تتطلب المرحلة الأساسية لاستخراج الزيت ابتكارات تقنية دائمة، بهدف تحقيق الحد الأقصى من الضغط، عبر وسائط عديدة، لاستخراج الزيت من عجينة الثمر. وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان عصر الزيتون يتم إمّا بواسطة مكابس الرافعة واللولب (الصورتان رقم 1 و 2)، وإمّا مكابس البرغي الخشب ذات الضغط المباشر (الصورة رقم 3)، التي كانت معتمدة في المناطق الشمالية من فلسطين. وبما أن القرى الفلسطينية كانت تعتبر زيت الزيتون من أهم منتوجاتها، فقد واكبت التقنيات الحديثة التي ظهرت في أوروبا، وبدأت في أواسط القرن التاسع عشر تعتمد مكابس البرغي الحديد المستوردة من أوروبا (الصورة رقم 4) بدلاً من التقنيات القديمة التي كانت تعتمد عبر التاريخ على المواد (الخامات من الحجر والأخشاب) المحلية الموجودة في القرية والمناطق المحيطة بها. وبما أن المكابس الحديدية كانت تسمح بأن يستخرج من عجينة الزيتون ضعف كمية الزيت التي كانت تستخرجها التقنيات القديمة، فقد اختفت عملياً مكابس البرغي الخشب في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. واستمر استعمال مكابس البرغي الحديد في القرى الفلسطينية حتى سنة 1948.
تُعتبر المكابس الحديدية اليدوية ابتكاراً رئيسياً لجملة تقنيات الضغط المباشر المستخدمة لاستخراج زيت الزيتون. وعندما نقارن الصورتين رقم 3 ورقم 4، وكلاهما من آلات الضغط المباشر، والتي يمكن تصنيعها إمّا من الخشب وإمّا الحديد، نلاحظ أن المواد الحديدية الأحدث فقط هي التي حلت محل الاستخدام التقليدي للخشب. وهذا يدل على التطور المستمر للعمليات التقنية، مع حلول إحدى الطرائق محل الأُخرى، كما هو موضح في النص.
في المنشآت "الحديثة" الموثقة في فلسطين، يجري تشغيل المكبس يدوياً أي باستخدام القوة البشرية بشكل أساسي.
يمكن وصف المكابس الحديدية بأنها كانت بمثابة آلات صناعية أولية (proto-industrial) لا تمثل تطوراً تقنياً ملحوظاً بحد ذاته، إنما تظهر كيف تبنّى المجتمع الريفي الفلسطيني الأدوات المطلوبة للتكيف مع التقدم التكنولوجي من أجل تلبية متطلبات التطور الاقتصادي. وثمة ميل اليوم إلى تجاهل القيمة التراثية للمكابس الحديدية وكونها تشكل شاهداً على الاستمرارية التكنولوجية في إنتاج زيت الزيتون وعلى التحديث الصناعي في المناطق الريفية الذي انتشر في القرى الفلسطينية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى الثلث الأول من القرن العشرين، وذلك قبل استعمال المحركات الآلية.
ساهمت هذه الآلات كذلك في إقامة علاقة بين القرية والمدينة التي تحتاج إلى زيت الزيتون للاستهلاك المنزلي والتصدير، أو لأغراض صناعية-تجارية مثل إنتاج الصابون. وحافظ الفلاحون الميسورون اقتصادياً من الطبقة الوسطى الريفية ممن يمتلكون رأس المال وموارد الأرض، على علاقات وثيقة مع التجار والعائلات ذات النفوذ في المدن الفلسطينية الكبرى مثل نابلس. ونتيجة ذلك، دعمت هذه العائلات البارزة بشكل فعال اقتناء هذه الآلات ضماناً لتوفير إمدادات أكبر من زيت الزيتون.
وفي الواقع، صار إدخال المكابس الحديدية إلى القرية ممكناً بفضل تأثير هؤلاء التجار الكبار والبورجوازية الريفية التي كانت تمتلك بساتين زيتون واسعة النطاق في المنطقة. وقد استوردوا هذه المعاصر لزيادة إنتاجهم من زيت الزيتون، وخصوصاً لأغراض التصدير وإنتاج الصابون المحلي.
استيراد وتصنيع المكابس اللولبية الحديدية اليدوية
على عكس عناصر استخلاص زيت الزيتون الأُخرى التي أمكن صنعها وتوفيرها داخل القرية، صُنِّعت المكابس اللولبية الحديدية اليدوية - MISP) (Manual Iron Screw Press خارج القرية. وجرى استيراد الآلات التي أُدخلت أول مرة عبر ميناء يافا الرئيسي من الدول الأُخرى المجاورة للبحر الأبيض المتوسط المنتجة لزيت الزيتون وبشكل رئيسي من
كانت المكابس اللولبية الحديدية اليدوية "المصنوعة محلياً"، وتحديداً تلك التي أعاد إنتاجها ليون شتاين أو الأخوان فاغنر، أكثر نجاحاً، وربما كانت الأكثر انتشاراً منذ فترة إنتاجها في نحو سنة 1890 فصاعداً؛ ومهما كان سعرها، فلا بد أنها كانت أرخص من المكابس المستوردة من جنوب فرنسا أو من اليونان.
وبحسب إحصاءات