إضاءة على –

فلسطين والعدالة الدولية

إضاءة على –
فلسطين والعدالة الدولية
البحث الحثيث والمتعرج عن المساءلة

عرض جدول الأحداث

متظاهرون أمام قصر السلام في لاهاي

مسيرة احتجاج سلمية دعماً للفلسطينيين أمام قصر السلام، نظمتها منظمة "ازرع شجرة زيتون" و"طلاب من أجل فلسطين - لاهاي" خلال مسيرة "العدالة لجنين". في 3 تموز 2023، نفذت القوات المسلحة الإسرائيلية عملية عسكرية عنيفة اقتحمت خلالها مدينة جنين ومخيم جنين كعقاب جماعي إثر تنامي المقاومة الفلسطينية. اقتحم المخيم أكثر من 1000 جندي إسرائيلي وتعرض لهجوم بالطائرات المسيَّرة والصواريخ والآليات العسكرية المسلحة. قُتل 12 فلسطينياً، أربعة منهم في عمر 18 عاماً أو أصغر، وأصيب عشرات آخرون. وقالت إسرائيل إنها تستهدف مقاتلين. دُمرت البنية التحتية للمخيم، مما اضطر سكان جنين إلى إعادة البناء من جديد. واضطُر 3000 فلسطيني إلى الفرار من مخيم اللاجئين.

8 تموز 2023
Source: 
SOPA Images / Getty Images
Author(s): 
Charles M. Vella

منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، توجه الفلسطينيون بصورة متزايدة إلى الجهات القضائية الدولية، ولا سيما محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ، سعياً وراء محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها الممنهجة للقانون الدولي في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها. يشكل هذا التحول نحو القضاء الدولي خطوة إضافية على طريق "التدويل" التدريجي للقضية الفلسطينية الذي اتبعته بدايةً منظمة التحرير الفلسطينية منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي.

شكلت الجهود التي بذلتها منظمة التحرير الفلسطينية في مبادراتها الدبلوماسية وسعيها للحصول على اعتراف المنتديات الدولية بها، إستراتيجية سياسية مكمّلة للكفاح المسلّح داخل فلسطين. وقد تُوّجت هذه المساعي في سنة 1974 باعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية كـ "ممثلة للشعب الفلسطيني"، مما أدى إلى دعوتها إلى الاشتراك في مداولات الجمعية المتعلقة بقضية فلسطين (قرار 3210 في 14 تشرين أول/ أكتوبر 1974) ومنحها صفة مشارك "مراقب" في دورات، وأعمال، ومؤتمرات الجمعية العامة وأجهزة الأمم المتحدة الأخرى (قرار 3237 في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974). بحلول ذلك الوقت كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد مُنحت بالفعل صفة مراقب في محافل دولية أُخرى، بما في ذلك "المؤتمر الدبلوماسي لتأكيد وتطوير القانون الدولي الإنساني المنطبق على المنازعات المسلحة وتطويره"، والذي سيؤدي في سنة 1977 إلى اعتماد البروتوكولين الإضافيين لـ اتفاقيات جنيف لسنة 1949. وفي نهاية سنة 1988، وفي ضوء قبول منظمة التحرير الفلسطينية التدريجي "حل الدولتين"، وبناءً على قيام المجلس الوطني الفلسطيني (في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988) بإعلان دولة فلسطين "تمشياً مع قرار الجمعية العامة 181 (د ـ 2)"، أقرّت الجمعيّة العامة بـهذا الإعلان وبحق "الشعب الفلسطيني في ممارسة سيادته على أرضه المحتلة منذ سنة 1967 "(قرار 43/177)، وتم السماح للممثل الفلسطيني في الأمم المتحدة باستخدام اسم " فلسطين" عوضاً عن منظمة التحرير الفلسطينية. وفي حين أن محاولات تحقيق العضوية الكاملة في الأمم المتحدة فشلت حتى الآن بسبب غياب الدعم لدى مجلس الأمن ، إلاّ إن مكانة فلسطين داخل الأمم المتحدة تمت ترقيتها في 29 تشرين ثاني 2012 من خلال قيام الجمعية العامة بمنحها مركز دولة غير عضو ذات صفة مراقب (قرار 19/67). وقد أتاح القرار لفلسطين أن تنضم إلى عدد من معاهدات حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف لسنة 1949، بالإضافة إلى نظام روما الأساسي بشأن المحكمة الجنائية الدولية.

بالتوازي مع محاولتها كسب الاعتراف بمكانتها القانونية داخل الأمم المتحدة، سعت منظمة التحرير الفلسطينية أيضاً للحصول على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين وإدانة الممارسات الإسرائيلية غير القانونية. جاء قرار الجمعية العامة رقم 3236 الصادر في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1974 علامة فارقة على هذا الصعيد، إذ اعتبر أن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وحقه في الاستقلال والسيادة الوطنيتين، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، (الذي تم تأكيده سابقاً في قرار رقم 194 الصادر في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1948) هي حقوق غير قابلة للتصرّف. وفي سنة 1975 أنشأت الجمعية العامة ما سُمي "اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف " لتعزيز إنفاذ هذه الحقوق وممارستها. علاوة على ذلك دانت الجمعية العامة ومجلس الأمن من خلال قرارات عديدة الإجراءات الإسرائيلية غير القانونية التي تنتهك حقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وضم القدس الشرقية .

وقد سعت جهود مناصرة أُخرى لمحاسبة إسرائيل من خلال آليات اللجان المعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، ولا سيما لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان السابقة وخليفتها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة . وأدت هذه الجهود مع مرور الوقت إلى إنشاء عدد من الآليات، منها ولاية المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، والعديد من لجان التحقيق المختصة، مثل تلك المكلّفة بالتحقيق في انتهاكات القانون الدولي المرتكبة في غزة خلال الأعمال القتالية في 2008-2009 و2014، بالإضافة إلى مسيرة العودة الكبرى في 2018-2019، وإنشاء لجنة غير محددة المدة في أيار/ مايو 2021، وهي لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلّة، بما في ذلك القدس الشرقية، وإسرائيل .

محكمة العدل الدولية

محكمة العدل الدولية هي "الجهاز القضائي الرئيسي" المكلف وفقاُ لـميثاق هيئة الأمم المتحدة بأداء وظيفتين: تسوية النزاعات بين الدول، وتقديم الآراء الاستشارية حول المسائل القانونية إلى أجهزة الأمم المتحدة. وحالياً، فيما يتعلق بفلسطين، ثمة رأيان استشاريان وقضية واحدة.

في 9 تموز/ يوليو 2004، أصدرت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً، رداً على طلب الجمعية العامة (في قرارها رقم ES-10/14 بتاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2003)، بشأن العواقب القانونية الناتجة من بناء إسرائيل للجدار الفاصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وجدت المحكمة أن بناء الجدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة "يتعارض مع القانون الدولي" بما يتضمن ميثاق الأمم المتحدة، وحق تقرير المصير، والقانون الدولي الإنساني (القانون المعني بالنزاعات المسلحة)، والقانون الدولي لحقوق الإنسان. ورأت كذلك أن إسرائيل ملزمة بوقف بناء الجدار، وإزالة الأجزاء المبنية منه على الأراضي الفلسطينية، و "إلغاء أو إبطال" جميع التشريعات والأنظمة المرتبطة به، وتقديم تعويضات عن جميع الأضرار الناجمة عن تشييده. كما أشارت المحكمة إلى أن جميع الدول ملزمة بالامتناع عن الاعتراف "بالوضع غير القانوني المترتـب علـى تشييد الجدار"، وعن تقديم "العون أو المساعدة في الإبقاء على الوضع الناشئ عن هذا التشييد."

وفي حين أقرّت الجمعية العامة بـ "فتوى محكمة العدل الدولية" وطالبت إسرائيل "بالتقيد بالتزاماتها القانونية على النحو المذكور في الفتوى" (قرار رقم ES-10/15 الصادر في 20 تموز/ يوليو 2004)، إلاّ إن إسرائيل لم تقم بتنفيذ التدابير التي طلبتها المحكمة. وعلى الرغم من أن الآراء الاستشارية ليست إلزامية في حد ذاتها، فإنها تتمتع بموثوقية قانونية عالية لأنها توضح التزامات الدولة بموجب القانون الدولي، بما في ذلك التزامات إسرائيل. وقد أصبح الرأي الاستشاري بشأن الجدار الفاصل منذ ذلك الحين مرجعية أساسية داخل منظومة الأمم المتحدة، وتم التذكير به مراراً وتكراراً من جانب مجلس الأمن، والجمعية العامة، والأمين العام، ومجلس حقوق الإنسان، والمحكمة الجنائية الدولية، وآليات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. كما بات له قيمة معتبرة فيما يتلعق بالتحليلات الأكاديمية وتحليلات الخبراء ونشاطات المجتمع المدني المتعلقة بالدفاع عن القضية الفلسطينية.

في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2022، طلبت الجمعية العامة (في قرار 77/247) من محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً جديداً، مع التركيز هذه المرة على "العواقب القانونية الناتجة عن انتهاك اسرائيل المتواصل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير"، وعلى وجه الخصوص عن "احتلالها واستيطانها وضمها للأراضي الفلسطينية لفترة طويلة" وعن "تبنيها تشريعات وتدابير تمييزية ذات صلة". كما طلبت الجمعية العامة من المحكمة تحديد "كيف تؤثر هذه السياسات والممارسات في الوضع القانوني للاحتلال" و"ماهية العواقب القانونية التي قد يتسبب بها هذا الوضع فيما يتعلق بالدول كافة وبالأمم المتحدة."

إن التوجه إلى محكمة العدل الدولية من أجل تحديد مدى قانونية احتلال إسرائيل المتواصل للأراضي الفلسطينية كان مطلباً دعت إليه منذ زمن طويل منظمات المجتمع المدني، فضلاً عن عدد من الخبراء والأكاديميين. فمثلاً، أوصى بهذا التوجه جون دوغارد ، المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك في تقرير قدمه في سنة 2007. وقبل وقت قصير من طلب الجمعية العامة، قدمت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلّة، بما في ذلك القدس الشرقية، وإسرائيل توصية مماثلة في تقرير نشرته في 14 أيلول/ سبتمبر 2022. وتكمن أهمية الطلب الذي قدمته الجمعية العامة في أنها، بدلاً من التركيز على انتهاكات منفصلة للقانون الدولي أو ممارسات محددة مثل بناء الجدار الفاصل، دعت محكمة العدل الدولية إلى تحديد ما إذا كان الاحتلال نفسه قانونياً أم لا. كما أن الإشارة إلى "التشريعات والإجراءات التمييزية" الواردة في الطلب تمنح المحكمة فرصة النظر فيما إذا كانت تؤسس لنظام أبارتهايد في الأراضي الفلسطينية. من الجدير ذكره كذلك أن الجمعية العامة طلبت أيضاً توضيح الالتزامات التي قد تقع على الدول كافة وعلى الأمم المتحدة في حال أكدت المحكمة عدم قانونية سياسات إسرائيل وممارساتها، وهو ما قد يعزز الأثر العملي للرأي الاستشاري، ولا سيما في ضوء تحدي إسرائيل المحتمل له. وحتى كتابة هذه السطور لم تصدر محكمة العدل الدولية رأيها بعد.

كان القرار (رقم ES-10/14)، الذي ورد فيه طلب الرأي الاستشاري الأول، حصل على موافقة 90 دولة في مقابل اعتراض 8 دول عليه وامتناع 74 دولة عن التصويت. ومن بين الدول التي امتنعت عن التصويت، صرحت كندا وسويسرا  والمملكة المتحدة وإيطاليا نيابة عن الاتحاد الأوروبي ، بأنها تعتبر الجدار الفاصل غير قانوني، كونه تم بناؤه داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكنها تعتقد أن السعي للحصول على رأي قانوني من محكمة العدل الدولية ليس مناسباً ضمن سياق ذي طبيعة "سياسية". وأكدت هذه الدول أن تسوية مختلف القضايا العالقة بين الطرفين يجب أن تكون موضوع مفاوضات مباشرة بينهما. أمّا القرار 77/247، الذي تضمن طلب الرأي الاستشاري الثاني، فقد تم تمريره بأغلبية 87 صوتاً في مقابل 26 صوتاً معارضاً وامتناع 53 عن التصويت. وقد ردت الحكومة الإسرائيلية على التوجه للحصول على الرأي الاستشاري بتبني عدداً من العقوبات المالية وغيرها ضد السلطة الفلسطينية ، بما في ذلك منع تحويل 139 مليون شيكل (39,6 مليون دولار) من الإيرادات الضريبية وعدم إصدار تصاريح بناء في أراضي المنطقة ج من الضفة الغربية .

علاوة على ذلك، رفعت دولة فلسطين قضية ضد الولايات المتحدة  أمام محكمة العدل الدولية بشأن قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بـالقدس عاصمة إسرائيل في 6 أيلول/ ديسمبر 2017، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس في 14 أيار/ مايو 2018. واعتبرت دولة فلسطين أن نقل السفارة ينتهك التزامات الولايات المتحدة الأميركية بموجب اتفاقية فيينا بشأن العلاقات الدبلوماسية لسنة 1961 ، وطلبت من المحكمة أن تأمر الولايات المتحدة بسحب بعثتها الدبلوماسية من القدس. وكانت حجة دولة فلسطين أن الولايات المتحدة لا تستطيع إقامة بعثة دبلوماسية لدى إسرائيل سوى في الإقليم الذي يعتبره القانون الدولي تابعاً لهذه الدولة. والحجة الفلسطينية مرتبطة بوضع القدس الخاص في نظر القانون الدولي (القدس كـ" كيان منفصل") تبعاً لـخطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين الصادرة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 (قرار الجمعية العامة رقم 181) التي تستثني المدينة من الإقليم التابع لدولة إسرائيل. وهو ما جعل مجلس الأمن والجمعية العامة ينددان، مراراً وتكراراً، بالإجراءات التي اتخذتها إسرائيل منذ سنة 1967 لضم القدس باعتبارها مخالفة للقانون الدولي. وقد اعتبرت الولايات المتحدة أن محكمة العدل الدولية ليست مختصة بالنظر في القضية لأنها (أي الولايات المتحدة) ليست مرتبطة بأي معاهدة مع فلسطين بموجب اتفاقية فيينا لسنة 1961. ثم في 12 نيسان/ أبريل 2021، طلبت فلسطين من محكمة العدل الدولية تأجيل جلسات الاستماع الشفوية المقرر عقدها في 1 حزيران/ يونيو 2021، وذلك لفتح المجال للأطراف بإيجاد حل ودي من خلال المفاوضات. لم تعترض الولايات المتحدة على الطلب، وبناءً على ذلك أجلت محكمة العدل الدولية الجلسات الشفوية حتى إشعارٍ آخر.

لجنة القضاء على التمييز العنصري

هناك قضية دولية أُخرى قيد النظر بين فلسطين وإسرائيل أمام لجنة القضاء على التمييز العنصري (CERD) التابعة للأمم المتحدة والتي تراقب احترام وتنفيذ الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري لسنة 1965 (ICERD). فقد قدمت فلسطين بلاغاً إلى اللجنة في 23 نيسان/ أبريل 2018 تتهم فيه إسرائيل بانتهاك التزاماتها المنصوص عليها في المادة (3) من الاتفاقية التي تمنع "التمييز العنصري والأبارتهايد"، وتلزم الدول الأطراف "بمنع وحظر واستئصال كل الممارسات المماثلة". وطلبت فلسطين من اللجنة إصدار قرار يفيد بأن "إسرائيل تمارس سياسة تمييز عنصري منظّم في كل مكان من إقليم دولة فلسطين المحتل"، وأن "سياساتها وممارساتها تشكّل نظام الأبارتهايد". وطلبت دولة فلسطين بصورة خاصة أن تقوم إسرائيل "بإزالة المستوطنات الإسرائيلية الحالية" لإنهاء هذا الوضع، وطالبت الدول الأُخرى "بوضع حد لنظام التمييز العنصري الذي أقامته إسرائيل"، وألاّ "تعترف بقانونية هذا الوضع الذي هو في الأساس غير قانوني، وألاّ تقدم أي مساعدة أو دعم بأي شكل من الأشكال من شأنه الحفاظ على هذا الوضع."

أصدرت لجنة القضاء على التمييز العنصري قرارين بشأن البلاغ الذي رفعته دولة فلسطين: ففي 12 كانون الأول/ ديسمبر 2019، أكدت امتلاكها الاختصاص في هذه المسألة، وفي 30 نيسان/ أبريل 2021، أكدت قبول البلاغ، بينما رفضت إسرائيل الاعتراف باختصاص اللجنة. ثم عيّنت اللجنة، في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، من بين أعضائها لجنة توفيق موقتة مكوّنة من خمسة أشخاص لفحص جوهر شكاوى دولة فلسطين. تم تعيين لجنة التوفيق، مع أن إسرائيل رفضت أيضاً المشاركة في اختيار أعضائها بالتوافق مع دولة فلسطين. وخلال الفترة من كانون الثاني/ يناير 2022 حتى أيار/ مايو 2023، عقدت لجنة التوفيق اجتماعين عن بعد وأربعة اجتماعات وجاهية. ونصت قواعد الإجراءات التي اعتُمدت في 25 نيسان 2022 على أنه من المتوقع أن تنجز اللجنة مهمتها ضمن مهلة معقولة إلى حين إتمام النّظر في المسألة بصورة كاملة. لم يتخذ قرار نهائي بعد حتى لحظة كتابة هذا النص.

المحكمة الجنائية الدولية

المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة دولية دائمة تأسست بموجب نظام روما الأساسي. وخلافاً لمحكمة العدل الدولية، فإنها تركز على المسؤولية الجنائية للأفراد. وتتمثل مهامها بالتحديد في التحقيق "في أخطر الجرائم ذات الأهمية الدولية"، المذكورة في نظام روما وهي: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب وجريمة العدوان، تمهيداً لمحاكمة مرتكبيها المفترضين. وللمحكمة الجنائية ولاية قضائية على الجرائم الدولية المرتكبة على أرض دولة عضو في نظام روما أو من مواطني هذه الدولة.

في 22 كانون الثاني/ يناير 2009، عقب الحرب على غزة (كانون الأول/ ديسمبر 2008 - كانون الثاني/ يناير 2009)، قدمت دولة فلسطين إعلاناً إلى مسجل المحكمة الجنائية الدولية بقبول اختصاص المحكمة بشأن الجرائم الدولية المفترضة المرتكبة في الأراضي الفلسطينية منذ 1 تموز/ يوليو 2002 (اليوم الذي دخل فيه نظام روما الأساسي حيز التنفيذ). بيد أن المدعي العام لويس مورينو أوكاميو رفض، في 3 نيسان/ أبريل 2012، بعد الانتهاء من الفحص الأولي، فتح التحقيق الكامل المطلوب مشيراً إلى أن مكتبه ليس لديه سلطة تحديد ما إذا كانت فلسطين تصنف على أنها "دولة" تمتلك صلاحية قبول اختصاص المحكمة، وأكد أنه يقع على عاتق الهيئات ذات الصلة في الأمم المتحدة أو جمعية الدول الأطراف (في نظام المحكمة) اتخاذ مثل هذا القرار، وفي حال كان القرار إيجابياً، تمكين المحكمة من ممارسة ولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية. وبعد أكثر من سنتين ونصف السنة، منحت الجمعية العامة في قرارها 67/19، الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، فلسطين صفة دولة غير عضو تتمتع بصفة مراقب في الأمم المتحدة. فمهدت هذه الخطوة الطريق أمام فلسطين للانضمام إلى نظام روما الأساسي. وفي 1 كانون الثاني/ يناير 2015، أعلنت دولة فلسطين قبولها اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وفي اليوم التالي أودعت صك انضمامها إلى نظام روما، الذي أعلنت فيه قبولها اختصاص المحكمة بأثر رجعي اعتباراً من 13 حزيران/ يونيو 2014، وذلك من أجل إيراد حرب غزة (عملية الجرف الصامد ) التي وقعت في صيف سنة 2014 ضمن اختصاص المحكمة.

بعد فترة وجيزة، بدأ مكتب المدعي العام بقيادة فاتو بنسودا بإجراء فحص أولي لتقييم ما إذا كانت الظروف ملائمة لفتح تحقيق كامل. غير إنه كان يجب الانتظار نحو خمس سنوات، وتحديداً في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2019، كي يعلن المدعي العام أن هناك أساساً معقولاً للشروع في التحقيق في الوضع في فلسطين، لا سيما فيما يتعلق بجرائم الحرب المفترضة التي ارتكبت خلال الأعمال العدائية في غزة سنة 2014، وبنقل المستوطنين الإسرائيليين إلى الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبالجرائم المرتكبة من خلال استخدام إسرائيل القوة خلال مسيرة العودة الكبرى في غزة سنة 2018-2019. وضمن هذا السياق، طلب المدعي العام من المحكمة إصدار حكم يؤكد أن اختصاصها الإقليمي، وبالتالي نطاق التحقيق، يشمل قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. وفي 5 شباط / فبراير 2021، قررت الدائرة التمهيدية الأولى أن"اختصاص المحكمة الإقليمي في الحالة الفلسطينية يمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ سنة 1967 وهي غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية". وفي 3 آذار/ مارس 2021، أعلن مكتب المدّعي العام فتح تحقيق في الوضع في دولة فلسطين، وما زال التحقيق مستمراً حتى وقت كتابة هذه المقالة.

يُعتبر اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية الخيار الأقوى لتحميل الحكومة الإسرائيلية والمسؤولين العسكريين المسؤولية الجنائية عن الجرائم الدولية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية. وبناءً على ذلك تواصلت منظمات المجتمع المدني مع مكتب المدعي العام من خلال توفيرها مواد إثبات ذات صلة بالتحقيقات الجارية والدعوة إلى توسيع نطاق تركيزها. ومن المؤكد أن تحقيق مكتب المدعي العام يمكن أن يشمل جرائم حرب أُخرى وجرائم ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي مثل جرائم الحرب المفترضة التي ارتكبت خلال الأعمال العدائية في أيار/ مايو 2021 في غزة، والتهجير القسري أو الترحيل أو الإبعاد للفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية أو خارجها، وجريمة الأبارتهايد.

إن فاعلية هذه التحقيقات قد تتأثر بتحدي إسرائيل المستمر للمحكمة الجنائية الدولية. فعلى الرغم من الدعوة التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية نفسها إلى إسرائيل للمشاركة في إجراءات القضية، فإن هذه الأخيرة رفضت أن تضطلع بأي دور فيها. فهي تزعم فعلاً أن المحكمة ليس لها ولاية قضائية على مواطنيها لأنها لم تصادق على نظام روما الأساسي على الرغم من أن الجرائم المفترضة قد ارتكبت على أراضي دولة هي طرف في النظام (أي فلسطين). ومن الجدير بالذكر أنه، في 11 حزيران/ يونيو 2020، ورداً على تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المفترضة التي ارتكبها مسؤولون أميركيون وإسرائيليون في أفغانستان وفلسطين، فرضت الحكومة الأميركية عقوبات مالية وعقوبات سفر على المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، وعلى مسؤول ثانٍ كبير في المحكمة هو فاكيسو موشوشوكو . وفي 2 نيسان/ أبريل 2021، رفع الرئيس جو بايدن هذه العقوبات لكنه ذكر أن الإدارة الأميركية "لا توافق بتاتاً على إجراءات المحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بالأوضاع الأفغانية والفلسطينية"، كما تؤكد "اعتراضها الطويل الأمد على جهود المحكمة لتأكيد الولاية القضائية على موظفي الدول غير المشاركة مثل الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل".

بالنظر إلى سيطرة إسرائيل الكاملة على جميع نقاط الدخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة والخروج منها (باستثناء معبر رفح بين غزة ومصر وهي دولة أُخرى ليست عضواً في نظام روما الأساسي)، فإن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد لا يتمكن من إجراء تحقيقات في هذه الأراضي. كما إنه من المتوقع ألاّ تسلم إسرائيل أياً من مواطنيها إذا أصدرت المحكمة مذكرة توقيف ضد مسؤولين حكوميين أو عسكريين إسرائيليين. لكن من ناحية أُخرى، قد يواجه هؤلاء الأفراد الاعتقال إذا سافروا إلى أراضي أي دولة طرف في نظام روما الأساسي.

الخاتمة

لا يمكن لتدويل القضية الفلسطينية قضائياً أن ينهي احتلال إسرائيل المستمر للأراضي الفلسطينية، إلاّ إن اللجوء إلى الجهات القضائية الدولية قد يؤدي إلى انتصارات تكتيكية يمكن أن تساعد المسارات السياسية والدبلوماسية ونضالات المجتمع المدني. وعلى الرغم من أن الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية ليست ملزمة للدول، فإنها ساهمت في بعض الأحيان في إنهاء انتهاكات القانون الدولي مثل احتلال جنوب أفريقيا لـناميبيا ، أو أثرت في سلوك الدول، كما جرى خلال المفاوضات بين المملكة المتحدة وموريشيوس بشأن وضع أرخبيل شاغوس . ومن الممكن أن تحدث آثار مماثلة في حال رأت محكمة العدل الدولية أن الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني بموجب القانون الدولي. كما إنه من الممكن توظيف مثل هذا الرأي الاستشاري للمحكمة لحث الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل، على استخدام نفوذه الاقتصادي للتأثير في سلوك إسرائيل تجاه مسألة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية. من جهة أُخرى، فإن قراراً صادراً عن لجنة القضاء على التمييز العنصري (CERD) بأن السياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ترقى إلى مستوى الأبارتهايد، من شأنه أن يشكل مساهمة إضافية في هذا الاتجاه. أمّا فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، ففي حين ترفض إسرائيل التعاون معها، فإن إصدار أوامر توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين قد تكون لها عواقب ملموسة على قدرتهم على السفر إلى معظم دول العالم، حيث يمكن أن يواجهوا فعلياً الاعتقال والنقل إلى لاهاي . وهذا بدوره قد يكون له تأثير رادع إزاء ارتكاب جرائم دولية في المستقبل على يد مسؤولين حكوميين وعسكريين إسرائيليين، لا سيما فيما يتعلق بالقيام بعمليات عسكرية في غزة أو ببناء مستوطنات غير قانونية في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية.

قراءات مختارة: 

أزاروف، فالنتينا. "فلسطين في المحكمة؟ التداعيات غير المتوقعة للتقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية".

http://lawcenter.birzeit.edu/lawcenter/ar/2012-11-20-11-37-22/1108-2015-...

فراج، دانا وعاصم خليل. "إحجام إسرائيل عن مقاضاة مجرمي الحرب المشتبه بهم، أهي فرصة؟" الشبكة، 27 آب/ أغسطس 2020.

https://al-shabaka.org/briefs/إحجام-إسرائيل-عن-مقاضاة-مجرمي-الحرب-

Diakonia International Humanitarian Law Centre. “The ICJ Advisory Opinion on the Legal Consequences of Israel’s Occupation of Palestinian Territory: Questions and Answers.” 29 November 2022. https://www.diakonia.se/ihl/news/qa-icj-advisory-opinion-iopt/.

Erakat, Noura. Justice for Some: Law and the Question of Palestine. Stanford: Stanford University Press, 2019.

Imseis, Ardi. “Negotiating the Illegal: On the United Nations and the Illegal Occupation of Palestine, 1967–2020.” European Journal of International Law, vol. 31, issue 3 (August 2020), pp. 1055–85.

Keane, David. “Palestine v Israel and the Collective Obligation to Condemn Apartheid under Article 3 of ICERD.” Melbourne Journal of International Law, vol. 23 (2022), pp. 1–24. https://law.unimelb.edu.au/__data/assets/pdf_file/0007/4629454/Keane-unp....

Kiswanson, Nada. “Palestine, Israel, and the International Criminal Court.” In Nada Kiswanson and Susan Power, eds., Prolonged Occupation and International Law: Israel and Palestine, pp. 253–88. The Hague: Brill, 2023.

Maupas, Stéphanie. “La longue marche des Palestiniens vers la justice internationale.” Le Monde, 24 November 2024.

Wilde, Ralph. “Using the Master’s Tools to Dismantle the Master’s House: International Law and Palestinian Liberation.” Palestine Yearbook of International Law 22 (2019–2020), pp. 3–74.

t