والهويَّةُ؟ قُلْتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات...
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها لا
وراثة ماضٍ..
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ
نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ..
محمود درويش
توطئة
يقدم قسطنطين زريق في كتيبه "معنى النكبة"، الذي نشره في آب/أغسطس 1948، وصفاً طازجاً ومؤسسا ًللحال القاسية الذي تركت هزيمةُ سنة 4819 العربَ عليها، ناعتاً إياها بالنكبة، لما خلفته من مآسٍ وتشريد، وتجريد للممتلكات، وتيه، في ظل كيان عربي أصابه التصدع والانهيار، وفي سياق دولي لم يجد العرب فيه من يناصرهم، ما قاد إلى تسرب اليأس إلى قلوب الشعوب، وهز ثقتها بحكوماتها وقادتها. ويتوقف زريق عند القوة الكبيرة والصاعدة للحركة الصهيونية ونفوذها وحداثتها، في مقابل أمة عربية مقهورة بفعل تاريخ طويل من الاستبداد والاستعمار، ويضيف أن النكبة أدت إلى تشريد أفكار الناس وآرائهم، وسيطرة حالة من البلبلة بينهم، وخصوصاً في أوساط الشباب الذين بدوا غير قادرين على تلمس طريق الخلاص بعد.
ويمكن هنا تحسس قسوة البيئة التي كان على المثقفين الفلسطينيين العمل فيها لمواجهة تلك الحالة من الصدمة والتشتيت واليأس، ولإشاعة الأمل واستنبات إرادة الصمود والمقاومة والعودة، لندرك حجم الفعل الكبير الذي راكمته الثقافة الفلسطينية على مدى العقود اللاحقة للنكبة، وقدرته على مواكبة الأحداث المفصلية في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني الذي يمثل مسيرة بلورة الهوية الوطنية الفلسطينية المعاصرة.
يرى زكريا محمد في كتابه "في قضايا الثقافة الفلسطينية" أن الهوية الفلسطينية كانت قد شهدت في عقود مضت بزوغ براعمها، لكن ما أخّر تطورها ودفعها إلى التشبث بطابعها العربي العام هو نفوذ الحركة الصهيونية الاستيطانية وتنامي تهديدها، ولا سيما في أعقاب وعد بلفور، ومحاولة درء خطرها عن فلسطين.
لم تكن مهمة الفعل الثقافي الذي قام على كاهل فاعلين أفراد في أعقاب النكبة، تقتصر على مساعدة الفلسطينيين على التعامل مع ذلك الحاضر القاسي فسحب، بل كذلك، على حماية الماضي الذي أصبح، أيضاً، عرضة للاحتلال والنهب والمحو والتحوير على يد الحاضر الاستعماري الذي أخذ يعمل على إزاحة الفلسطينيين وطردهم، ليس من الجغرافيا فحسب، بل من التاريخ كذلك، حاشراً حكايته فيه، وفي الأسطورة، ومتسلحاً بالحق الإلهي.
تجليات مبكرة للنكبة في الفن والأدب
لقد تسببت الصدمة التي أحدثتها النكبة بحالة من الصمت، ما يفسر تأخر التعبيرات الثقافية التي تناولت تلك التجربة الجمعية القاسية. ونجد تعبيرات بصرية أولى عن مآسي النكبة في لوحات حملت أسلوباً واقعياً "جرعة ماء" و"إلى أين؟" (1953)، و"سنعود" (1954) لإسماعيل شموط، رائد الفن التشكيلي الفلسطيني بعد النكبة. كما التقطت تمام الأكحل مشهد اقتلاع وتهجير أهل مدينتها يافا، وصورت لوحات إبراهيم البياري يافا فارغة من أهلها. وكان شموط قد أقام معرضاً لأعماله في مدينة غزة سنة 1953، يمكن اعتباره الأول بعد النكبة (وإن سبقه معرض ارتجالي له في خانيونس)، قبل أن ينظم بمشاركة الأكحل ونهاد سباسي معرضاً في القاهرة 1954، بعنوان "اللاجئ الفلسطيني".
كما ظهرت النكبة بتجليات متعددة في كتابات فدوى طوقان ("رُقيّة من صور النكبة")، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) (ديوان "المشرد" 1953)، وفي ديوان هارون هاشم رشيد "مع الغرباء"(1954) الذي غنت منه فيروز قصيدة "سنرجع يوماً"، وضم قصيدة "إنا عائدون" التي انتشرت مغناة عبر الإذاعات بعد النكسة، وقصائد معين بسيسو (ديوان "المعركة" 1952) التي حملت رفضاً مبكراً لواقع النكبة، متبنّياً خياراً نضالياً مقاوماً، وخليل زقطان ("صوت الجياع" 1953) وغيرهم مثل حسن البحيري ويوسف الخطيب وكمال ناصر.
صدارة الشعر في فلسطين المحتلة بعد النكبة
تركت النكبة الأقلية العربية التي بقيت في فلسطين المحتلة في عزلة تامة عن سائر أبناء شعبها، مهددة في لغتها وثقافتها، محدثة صدمة مدوية هزت تركيبها الاجتماعي، أعقبها صمت كبير سرعان ما انفجر شعراً شعبياً، على حد تعبير غسان كنفاني، متخطياً مقص الرقيب العسكري. فلعب شعراء شعبيون وزجالون معروفون مثل يوسف الحسّون، وأبو سعيد الحطّيني، ومحمد أبو السعود الأسدي والذين ذاعت أشعارهما في أرباع فلسطين، دوراً مهماً في المحافظة على الهوية العربية بعد قيام دولة الاحتلال. واحتاج مثقفو الشتات حتى منتصف الخمسينيات للخروج من صمتهم إلى دائرة الفعل. فمثلاً، تناولت سميرة عزام في كتاباتها من منفاها الفجيعة الفلسطينية، ثم بدأت تتحسس طريق المقاومة والعودة الشاق. أمّا من بقي في وطنهم من مثقفين، مثل إميل حبيبي، وحنا أبو حنا، وتوفيق طوبي، وصليبا خميس، وجبرا نقولا، فقد اضطلعوا، من خلال نشاطاتهم السياسية والإعلامية والأدبية، بمهمة مواجهة محاولات الإلغاء والمحو الثقافيين. فتناول حبيبي في قصته "بوابة مندلباوم" (1954) تشبث الفلسطيني ببيته ووطنه بصفته مكان ذكرياته الأولى، مقدماً الذاكرة وفعل التذكر سلاحاً في مواجهة محاولات المحو. برزت في هذه الفترة صورة الفلسطيني اللاجئ المقتلع من أرضه والهائم على وجهه، يقاسي ألم التشريد وذله وانكساره، كما ظهرت نداءات مبكرة تستنهض روح الأمل والكفاح والعودة.
وفي أواخر الخمسينيات، أخذت أصوات شعرية شابة لافتة تعلو في فلسطين المحتلة، تصدح بنبرة متحدية للاحتلال ورافضة له، كان من أهمها راشد حسين وسميح القاسم وتوفيق زيّاد الذين أخذت قصائدهم الوطنية تذيع في أوساط الجماهير العربية، لينضم إليهم محمود درويش بصوته الشعري الغامر، وخصوصاً في ديوانه "أوراق الزيتون" (1964) بقصائده التي ستتناقلها الأجيال الفلسطينية، ولا سيما "بطاقة هوية" التي أحدثت أثراً بالغاً تجاوز فلسطين المحتلة، وبدت عبارة "سجل أنا عربي" صرخة هويّاتية مؤسسة وواثقة وعنيدة في وجه المحتل، حفرت عميقاً في وجدان العربي الفلسطيني. وكثيراً ما كان يتواصل هؤلاء الشعراء بطريقة مباشرة مع جماهيرهم العربية بإلقاء قصائدهم في الساحات العامة في مناسبات عديدة، وهو ما ساهم في انتشارها وتداولها بسرعة كبيرة، لتصبح ناطقة باسمهم ولسان حالهم.
وقد شكّل درويش وزيّاد والقاسم الثالوث الشعري الأكثر تأثيراً في الوجدان الفلسطيني، والذي أخذ يحدث اختراقات مدوّية لجدران العزلة والتغريب لفلسطيني الداخل نحو عمقهم الفلسطيني والعربي والإنساني.
يرى الشاعر أحمد دحبور النكبة كخطوة فارقة على طريق الحداثة الثقافية، بصفتها تمثل قطيعة مع الخطاب الثقافي الذي قاد إليها، ولحظة مخاض لولادة الجديد. كما يرى أن حسّ الفجيعة مثّل قاسماً مشتركاً بين الكثير من الكتابات الأدبية المتعددة، وإن اتخذت، لاحقاً، عناوين فرعية مثل أدب الخيام، وأدب الحنين، وأدب الغضب، مشيراً إلى نماذج خرجت عن السرب مثل جبرا إبراهيم جبرا، وخصوصاً في روايته "صيادون في شارع ضيق" (1960) والتي تتبع حياة مثقف يسعى بهمومه الوجودية لتحقيق ذاته بعد النكبة، وكتابات توفيق صايغ الذي بدا حينها متطرفاً في نثريته، مشيراً إلى أن ذلك الأدب الذي أعقب النكبة ساهم، إضافة إلى دوره التعبوي المباشر، في رسم صورة الشخصية الفلسطينية.
كان غسان كنفاني أول من التقط الظاهرة الشعرية والأدبية الصاعدة داخل الأرض المحتلة، وقام ببلورة مفهوم أدب المقاومة في كتابه "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1968"، ومفهوم الالتزام، وقدم فيه أهم أصواتها حينئذ.
مثلت كتابات كنفاني ركناً أساسياً ومؤسساً في أدب المقاومة، وإن اكتست بداياتها (قصص "عالم ليس لنا" و"سرير رقم 12") بمسحة تشاؤمية وفلسفية عن الموت والمنفى واللجوء، لتؤكد أن الإنسان قضية، لكنها في جوهرها كانت تحث على المقاومة بالمعنى العميق للكلمة. وقد مثّل التحاقه بالفعل الكفاحي، ونهايته شهيداً في ريعان شبابه وعطائه، تطابقاً لفكره وفعله، وهو ما جعل حبر قلمه يحمل قوة الدم على حد تعبير درويش، ليصبح من أكثر الكتّاب تأثيراً في بلورة الملامح الحادة للشخصية الفلسطينية.
سرعان ما انتقلت الروح المقاومة التي حملها الشعر إلى الفنون التشكيلية، فأخذت تتجلى بصرياً في أعمال كثير من الفنانين مثل إسماعيل شموط الذي أخذ أسلوبه ينحو إلى الرمزية ("طاقة تنتظر" (1961) "عروسان على الحدود" (1962) و"الطريق" (1964)، وبشير السنوار، ومصطفى الحلاج، وعبد الحي مسلم، وتوفيق عبد العال، ورسومات ناجي العلي الكاريكاتورية في مجلة "الحرية" ببيروت، ولاحقا في "الطليعة" بالكويت.
وجد المثقفون الفلسطينيون أنفسهم، كما يرى زكريا محمد، وكأنهم مطالبون، بتقديم البراهين والأدلة الثقافية على وجود الشعب الفلسطيني، وعلى أحقيته بوطنه المسلوب، فلسطين، بعد أن كان الآخر قد كتبها أسطورة لا تقبل نقداً على حد تعبير محمود درويش. فتنامى الوعي والشعور بالمسؤولية الذي صاحبه، بضرورة حفظ الذاكرة الفلسطينية، وبلورة سردية فلسطينية للصراع تحفظ الحقوق التاريخية وتؤكدها. وفي هذا السياق، وفي إطار هذا المسعى، تم في سنة 1963 تأسيس "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، ومن خلال مسيرتها الحافلة، يمكن رصد المساهمة الكبيرة لأحد مؤسسيها المؤرخ وليد الخالدي في حفظ الذاكرة الفلسطينية.
تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية
بعد تأسيس منظمة التحرير كمؤسسة ممثلة للكل الفلسطيني في سنة 1964، أصبح ممكناً بدء الحديث عن ثقافة فلسطينية جامعة لحالة التمزق التي حلّت بالفلسطينيين في إثر النكبة، والتي أعاقت عملية التفاعل والمواكبة ما بين تجليات الثقافة الفلسطينية في جغرافياتها السياسية المتعددة. وأظهر الأدب قدرة كبيرة على تخطي الحدود، والمواكبة والتأثير والتأثر، وخلق رموز مشتركة في مواجهة حالة التمزق والعزلة القاسية.
أخذت المنظمة تتؤدي دوراً مركزياً في قيادة الحراك الثقافي الصاعد كرافعة للمشروع الوطني التحرري، الأمر الذي أخذ يحقق قدراً من الوحدة الثقافية والنفسية للفلسطينيين، ويخلق سياقاً حاضناً لمعظم أشكال العمل والتعبير. وقد أصبح هذا المسعى معملاً نشيطاً تجري فيه بلورةُ وجدان وطني وسمات هوياتية جامعة للوجود الفلسطيني المشتتة أجزاؤه على جغرافيات الوطن والمهاجر والمنافي، وبناءُ سرديتها التي جاءت لتجابه وتفند الرواية الصهيونية الداحضة للوجود الفلسطيني وماضيه وتاريخه، ونشرُ روح الصمود والمقاومة لإنجاز مشروع التحرر.
وفي إطار المنظمة، تم في سنة 1965 تأسيس "مركز الأبحاث الفلسطيني" في بيروت بهدف رعاية الإنتاج الفكري والمعرفي حول القضية الفلسطينية من خلال فصلية "شؤون فلسطينية". وفي السنة نفسها، انطلقت "جمعية إنعاش الأسرة" في الضفة الغربية كجمعية خيرية بهدف تعزيز صمود الشعب الفلسطيني بتمكين المرأة والحفاظ على التراث. وتوالى ظهور الجمعيات والمؤسسات التي أخذت تعمل على الاهتمام بحفظ الذاكرة الفلسطينية المبعثرة والتركيز على جمع وإحياء أشكال التراث الفلسطيني.
نكسة 1967
مثلت النكسة منعطفاً مهماً في صيرورة التاريخ الفلسطيني، تمثل في صعود الحركة الفدائية والتي صاحبها صعود للهوية الوطنية الفلسطينية العلمانية. كما أدت إلى حدوث التلاقي الأول بعد النكبة بين فلسطيني الـ 48، وأخوتهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين أصبحوا، بدورهم، معزولين عن محيطهم العربي، وهو ما أرّخ لحقبة جديدة من الفعل الثقافي التي انفتحت أشكاله على صيغ متعددة أكثر تفاعلاً ولحمة وتشابكاً، وأكثر قدرة على بناء أسس وملامح هوياتية جامعة، على الرغم مما ظلت تجابهه أجزاؤه من خصوصيات ومحاولات للهيمنة أو التذويب أو العزل.
اتخذ الأدب المنتج في فلسطين المحتلة 1948 صدارة التعبير عن الفلسطيني فارضاً تأثيراته على الكثير من حقول التعبير المتنوعة. فكتب إميل حبيبي "سداسية الأيام الستة" (1968)، والتي يقع موضوعها في صلب هزيمة 67، وواصل شعراء المقاومة حضورهم القوي والمتصاعد. ففي ديوانه" عاشق من فلسطين" (1966)، رسخ محمود درويش تلك الاستعارة الكبرى والمؤسِسة لتلاحم صورة الأرض/ الحبيبة والتي كشفت، بدورها، تلاحماً بين الذاتي والعام، وأخذت تتوالد في الفنون التشكيلية، كما أدخل درويش تعبير الجرح الفلسطيني كمرادف لأثر النكبة في الفلسطيني. وخرج في هذه الأثناء من الضفة الغربية صوت شعري كبير زاد من زخم شعر المقاومة حمله عز الدين المناصرة في ديوانه "يا عنب الخليل" (1968)، وكان فاتحة مسيرة ثقافية ونضالية طويلة لصاحبه.
كان لهذه الأعمال وغيرها وقع كبير على تعميق شعور الفلسطينيين الجمعي، وتحفيزهم على مواصلة النهوض والصمود والمقاومة، وتمكنت اللغة الأدبية والفنية الرمزية والتصورات التي حملتها للفلسطيني ولفلسطين من الحفر عميقاً في الوجدان الجمعي، مقدمة تعبيرات جديدة أخذ الفلسطينيون يتداولونها للتعبير عن كينونتهم وآمالهم، مرسخةً فيهم روح الجماعة وقوتها، وراسمة ملامح جديدة ومؤسسة في هويتهم.
سينمائياً، يعتبر فيلم "صراع في جرش" (الأردن، 1957) الذي تناول موضوع الحرية وتحرير الأرض أول الأفلام الروائية بعد النكبة. تبعه عدة محاولات في مصر وسورية بمعالجات فنية رومانسية، قبل أن تتولى السينما التسجيلية مهمة مرافقة مسيرة الكفاح الفلسطيني، لتوثق صمود الفلسطيني ومقاومته في المخيمات والمعسكرات وجبهات المواجهة. بدأ ذلك حينما قامت سلافة مرسال ومصطفي أبو علي وهاني جوهرية، بتأسيس وحدة التصوير التي انطلقت بإقامة معرض صور توثق بطولات معركة الكرامة، لتصير لاحقاً مؤسسة السينما: وحدة أفلام فلسطين"، الأمر الذي فتح الباب واسعاً لإنتاج الكثير من الأفلام التي واكبت أفعال المقاومة ومحطاتها الأساسية، بمشاركة واسعة من سينمائيين عرب وأجانب.
وربما كان غسان كنفاني هو أول من طرح سؤال الهوية بشكل وجودي وبحدة غير مسبوقة، وذلك في روايته "عائد إلى حيفا" (1970) حينما جعل من الطفل خلدون، فلسطيني المولد والدم، يُمسي دوف الجندي الإسرائيلي، مبيناً أن هوية الإنسان "هي ما يُحقن فيه". كما قد دفع بشخصيات روايته "رجال في الشمس" (1963) إلى مواجهة مصيرهم المحتوم موتى، مشدداً على فكرة الخلاص الجماعي، ومثيراً ذلك السؤال الكبير؛ "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ وبذات الحدة، رسم صورة أيقونية للأم الفلسطينية اللاجئة والقوية في روايته "أم سعد" (1969). يرى الناقد فخري صالح أن كنفاني استطاع أن يرسم من خلال أعماله الروائية التحولات التاريخية في التجربة الفلسطينية محمولة على شخوص رواياته بما حملته من هموم وأمل وتوق وأحلام.
مخيم اللاجئين
احتل المخيم مكانة هامة في الوعي الفلسطيني، باعتباره أحد أكثر تجليات النكبة وضوحاً وقسوةً وديمومة. ففيه تظهر النكبة كفعل مستمر، ويتواصل إعادة إنتاج معناها وتجلياته، والإبقاء على حكاياتها حاضرة تتناقل وتتناسل عبر الأجيال، بما يعنيه ذلك من مواصلة لإنتاج صور الوطن ورموزه، وبالتالي مواصلة إنتاج الحنين والتوق إلى العودة إليه. حضر المخيم بقوة في أعمال كنفاني باعتباره مساهماً جوهرياً في رسم ملامح شخصياته وتحديد مصائرهم، وحملت كتاباته رفضاً لواقع المخيم المؤلم على اعتبار أنه تجل لفقدان الفلسطيني لأرضه وكرامته. وأسس غسان كنفاني لفكرة تحويل صورة المخيم من مكان للبؤس والفقر والسرقة، إلى منبع للثورة على طريق العودة. كما ظهر المخيم بقوة في أشعار علي فودة، وكذلك في رسومات ناجي العلي الكاريكاتورية، التي مثلت لسان حال الشارع الفلسطيني محمولاً على أقوال شخصياته الأساسية اللاجئة؛ فاطمة، القوية والصابرة ذات الرؤية الثاقبة، وزوجها الطيب المقهور المثخن بالحزن والألم والجراح، و"حنظلة" وليد النكبة، والشاهد الذي لا يكبر، حيث شكل المخيم المنظور الذي يرى منه اللاجئ الفلسطيني كل ما هو خارجه، محاكماً الأفعال والأقوال بقدر ما تقربه من مشروع العودة أو تبعده عنها.
ورغم قيام شموط برسم مشهد المخيم في لبنان (مخيم النبطية، وتل الزعتر)، وإن كان بحيادية فوتوغرافية على حد وصف فاروق وادي، وقيام فنانين آخرين مثل فتحي غبن وغيره بتناول صورة المخيم في لوحاتهم، فقد ظلت تمثيلات المخيم في الفنون التشكيلية محدودة، لمصلحة هيمنة صور الوطن المسلوب، بما انطوى عليه ذلك من عدم رغبة الفنانين الذين قاسى معظمهم حياة اللجوء بالتوقف عند واقع المخيم أو اللجوء القاسي، لمصلحة تجاوزه حنيناً أو توقاً إلى الماوراء؛ سواء كماضٍ، قبل النكبة، أو كمستقبل، كفعل عودة.
نشر إميل حبيبي الذي أخذ يكرس اسمه واحداً من أعمدة الرواية الفلسطينية إلى جانب جبرا وكنفاني، روايته "المتشائل" (1974)، والتي وظف فيها الكثير من أشكال الموروث الشفوي، ليتناول بعمق وسخرية سوداء حال فلسطيني الـ 48 منذ النكبة، وتأرجحهم بين التشاؤم والتفاؤل، ومأزقهم مع هويتهم، ما بين إنكارها ومعاداتها واستعادتها. وقد وضع المخرج مازن غطاس الرواية على خشبة المسرح جاعلاً منها إحدى أهم أيقونات المسرح الفلسطيني وأكثرها عرضاً وتجوالاً.
الصلة بالأرض ونبض الشارع
أخذت، في هذه الفترة، تظهر أعمال فنية تشكيلية في مناطق الـ 67، تضع الأرض وعلاقة الفلسطيني الذي اتخذ غالباً صورة الفلاح والفلاّحة بها في قلبها، مركزةً على القرية ببيوتها ومشهدها الطبيعي وأشجار زيتونها وطقوسها (كما في أعمال سليمان منصور، ونبيل عناني، وعصام بدر، وتيسير شرف، وكامل المغني، وفتحي غبن). كان كثير من فناني الضفة يخرجون إلى قرى حولهم ويرسمونها، على اعتبار أنها منبع لوجود الفلسطيني الأصيل فيها، وتجذره بالأرض، ومصدر لكثير من رموز تلك الأصلانية.
أمّا فنانو الشتات والمنافي فكانوا يستحضرون صورة الأرض من ذاكرتهم محاولين إعادة بناء ماضيهم فيها عبر الذاكرة والخيال، فأنتجوا لوحات رعوية تصور فلسطين فردوساً مفقوداً مفعم بالأمل والنشوة والتناغم ما بين الفلسطيني والمشهد الطبيعي بحقوله وبياراته ومواسمه. (كما في أعمال إبراهيم غنام، إسماعيل شموط، وتمام الأكحل، وإبراهيم هزيمة وتوفيق عبد العال وغيرهم).
ويمكن رؤية ذلك في إطار مسعى بناء سردية فلسطينية تحاول تأصيل علاقة الفلسطيني بأرضه وماضيه، وتفنيد سردية المشروع الصهيوني الدخيل. حتى أن مبدعين وباحثين عادوا إلى الجذور الكنعانية للوجود الفلسطيني، الأمر الذي لم يسلم من النقد كونه مثّل، كما يرى زكريا محمد، انزلاقاً إلى مهاوي الميثولوجيا، وتساوقاً مع التاريخ الذي تقدمه الصهيونية على شكل ميثولوجيا وأسطورة، وتشتيتاً للخطاب الذي يرى في المشروع الصهيوني مشروعاً أوروبياً دخيلاً، وتعزيزاً لادعاء مئير باعيل في مقولته بأن الحركة الصهيونية التي بدأت بخلق جماعة قومية إسرائيلية، انتهت بخلق جماعة قومية فلسطينية كذلك.
حظيت الأعمال الفنية والأدبية التي تمجد علاقة الفلسطيني بالأرض، سواء من خلال فلاحتها أو الدفاع عنها، بصفتها مسرح الصراع ومادته، بمكانة مهمة في عملية بناء الهوية الوطنية وبلورتها. وكرست هذه العملية صورة المرأة الفلسطينية كما مثلها الفن التشكيلي كفلاحة جميلة قوية البنية ترتدي الثوب الفلسطيني، وتشارك الرجل في حضورها في المشهد الطبيعي وفِلاحة الأرض وجني ثمارها وحصادها، أو كحبيبة إلى جانب حبيبها الفدائي. كما غدت صورة المناضلة ليلى خالد بالكوفية على رأسها، والبندقية بين يديها إحدى أهم الصور الأيقونية للمرأة الفلسطينية كفدائية في زمن الثورة في بيروت. هذا إضافة إلى تقديم المرأة كرمز للمخيم (أم سعد مثالاً")، أو للقرية/الأرض (لوحة "صحوة القرية") أو للأرض/الحبيبة كما في قصائد لدرويش في دواوينه الأولى.
أخذ كثير من التعبيرات الثقافية الفلسطينية يركز على الفولكلور مستدعياً رموزه وطقوسه وممارساته، كما أخذ يخلق رموزاً جديدة (مثل الزيتونة، والكوفية، والبرتقالة، والصبار، والمفتاح، والخارطة، وغيرها) في محاولة للقبض على عوالم مفقودة. وقد زاد فن الملصق، لطبيعته الاختزالية وسهولة انتشاره، من وتيرة طغيان تداول الكثير من تلك الرموز، بشكل سيصل حد الاجترار والاستنفاذ، بما يشكله من عبء وتبعات على العملية الإبداعية وجمالياتها، وعلى سوية الذائقة العامة.
زخر الكثير من الأعمال التشكيلية في هذه المرحلة كذلك بحضور الشخوص فيها، وذلك لتأكيد حضور الفلسطيني وممارساته في المكان، سواء من حيث علاقته بالأرض أو دفاعه عنها من جهة، ولقدرة الشخوص على حمل طيف من الرموز، والإشارات، والدلالات والمشاعر من جهة ثانية.
عانى حقل الفن التشكيلي في فلسطين المحتلة 48 من محدودية تأثيره في هذه الفترة بسبب ظروف العزلة التي نشأ فيها، وعلاقته الإشكالية بالمشهد الفني الإسرائيلي، وظل الأمر كذلك حتى توقيع اتفاقية أوسلو حتى أصبح متاحاً التعرف عن قرب على تجارب فنانين مثل عبد عابدي، وأسد عزي، وإبراهيم نوباني، وعاصم أبو شقرة وشريف واكد وغيرهم بما انطوت عليها من تناول لأسئلة مركبة للهوية.
أمّا سينما الثورة فكانت تسجيلية، باستثناء "عائد إلى حيفا" (1982) أخرجه قاسم حول، ولم يكن تداولها أمراً سهلاً، لكنها مثلت معملاً لخلق ونشر صور متعددة للصمود والمقاومة والفدائي، وخصوصاً خارج فلسطين، وحقلاً واسعاً آخر استقطب العديد من السينمائيين العرب والأجانب. وفعلاً لتوسيع دائرة التضامن.
وقد تميز الجزء الأكبر من الفعل الثقافي الفلسطيني بقدرته على التفاعل الجدلي مع نبض الشارع، ومواكبة ما يمر به الوجود الفلسطيني بتعدديته من أحداث وتحولات صغيرة وكبيرة. وتناوب المبدع على أداء دور الدليل والرائي والمستبصر للطريق، وكذلك دور المعلق على الحدث والرحلة والتجربة. ويمكن ملاحظة ذلك في أحداث كثيرة مثل "يوم الأرض" (1976) التي مثلت بداية لبلورة وعي فلسطينيي الداخل بذاتهم كجماعة وطنية واحدة، وضخت دفقة جديدة من الفعل الثقافي الذي يركز على تشبث الفلسطيني بأرضه وهويته (مثل النصب التذكاري "يوم الأرض" لعبد عابدي وقصيدة "الأرض" لمحمود درويش) والكثير من الأغاني والأشعار التي تحيي ذكراها عبر الأجيال. كما نجد ذلك في حادثة استشهاد لينا النابلسي في العام ذاته، وتجلياتها الفنية المتعددة التي يمكن أن نرصد فيها مثالاً على صناعة الأيقونة (في لوحة سليمان منصور، وقصيدة فدوى طوقان، وصوت الشيخ إمام، ثم قصيدة حسن ظاهر وغناء أحمد قعبور، إلخ) وكذلك الأمر بالنسبة إلى "مجزرة تل الزعتر" التي سجلها إسماعيل شموط في لوحات مائية شديدة القسوة والشفافية، وخلدها درويش في قصيدة "أحمد الزعتر" (ديوان "أعراس")، بما كرسته من وجع الفلسطيني وشعوره بالخذلان والتآمر من أخيه العربي، مؤسسة لصرخة فلسطينية جديدة "آه يا وحدي"، والتي ستصبح "وحدنا" في "مديح الظل العالي"، و "أنا يوسف يا أبي " في ديوان "ورد أقل" وجميعها حفرت في روح الفلسطيني وهويته. كما كرست "أحمد الزعتر" صورة المخيم بصفته ذهاباً مستمراً إلى الوطن، وباباً مفتوحاً على البحر والمنفى والمجهول، وحيث يصطدم الفلسطيني بنقيضه. وقد أشارت الباحثة نادية يعقوب أنه في أعقاب مجزرة تل الزعتر تم إنتاج سبعة أفلام توثق ما يفعله الناس العاديون في أثناء المجزرة، وهو ما شكل انزياحاً عن صورة الفدائي والبندقية، وتركيزاً على الناس، واتساعاً في مفهوم المقاومة والصمود.
واصل المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال حشد طاقاته الكامنة، من خلال تصاعد دور الحركات والمنظمات الجماهيرية والطلابية والنقابية، وتأسيس العديد من الجمعيات التي بدأت تأخذ زمام المبادرة في حقول الثقافة والصحة والزراعة وغيرها. وقد واصل الفعل الثقافي المحلي مهمات تمسكه بحفظ الذاكرة والموروث الثقافي بهدف تعزيز هوية الفلسطيني، وحثه على الصمود والمقاومة. وفي هذا السياق، انطلقت فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية في سنة 1979، لتساهم بشكل لافت في بعث الموروث الشعبي حياً على خشبة المسرح واستخدامه أداة في المقاومة، وفي تكريس مكونات الهوية الفلسطينية المرتبطة بالأرض.
شهدت حقبة الثورة تصاعداً لحضور صورة الشهيد في الإنتاج الثقافي الفلسطيني بتجلياته المتنوعة، شعرياً رسخها درويش في ديوان "أعراس"، وربط صورة الشهيد بصورة العريس، والشهادة بالعرس والزفاف، حيث تحضر الزغاريد والحناء، لتتكرر هذه الصور في كثير من الأغاني التي ستشيع في فترة الانتفاضة الأولى، ولتغص الأعمال التشكيلية بصورة الشهيد الذي غالباً يظهر محمولاً على أكف الجموع وملفوفاً بالعلم.
المثقف الفلسطيني في الغرب
ساهم مثقفون فلسطينيون كبار أخذ يلمع نجمهم في سماء الغرب، لمساهماتهم الفكرية والثقافية والأدبية والفنية المتعددة، في اتساع رقعة حضور الفلسطيني في منابر أكاديمية وثقافية وفنية عالمية، وفي تقديم صور أكثر تنوعاً عن الفلسطيني كان من أبرزهم إدوارد سعيد، الفلسطيني الأميركي الذي لازمه ذلك الجرح في هويته ولغته واسمه. وإبراهيم أبو لغد الذي تواصل نضاله في أميركا للتعريف بعدالة القضية الفلسطينية من خلال ندواته ومقالاته ومؤلفاته ومبادراته، وسلمان أبو ستة الذي أخذ يكرس الكثير من جهوده للبحث في الذاكرة الفلسطينية وحفظها. وسلمى خضرا الجيوسي وجهودها العظيمة في تقديم الأدب العربي شاملاً "موسوعة الأدب الفلسطيني" لقراء الإنكليزية، وما ترتب على ذلك من آثار على صورة العربي والفلسطيني، وعلى الثقافة العربية وعلاقتها بالعالم. وقد أخذ الحضور الثقافي الفلسطيني يزداد بشكل متواصل على المستوى الكوني، ويتخذ أشكالاً أكثر تنوعاً ستصل في عقود لاحقة مديات غير مسبوقة.
الالتزام وحرية الإبداع
بشكل عام، ارتبطت تلك عملية بناء الهوية، ببنى ثقافية واجتماعية محافظة، أو بنى سياسية وتنظيمية صارمة لا تتسع، كثيراً، للتعبير الفردي خارج نسق الجمعي، وغير قادرة، بالضرورة، على نقد السياقات التي أنتجتها، كما أنها لم تألُ مسألة التنوع والمغايرة اهتماماً خاصاً، ما قاد، أحياناً، إلى تجاهل وتهميش تجارب إبداعية مهمة حملت جماليات وانشغالات وأسئلة مغايرة، لذرائع متعددة ارتبط بعضها بأولويات المرحلة التي تضع موضوع الوطن وتحرره فوق كل المواضيع والحريات، كما حدث مع رسمي أبو علي في قصته "قط مقصوص الشاربين اسمه ريس"، والتي مثلت مساساً بتابوهات الثورة وبالصورة المثالية للمقاتل الفلسطيني، حيث اعتذر محمود درويش عن نشرها في "شؤون فلسطينية" على الرغم من إعجابه الشديد بها. وقد واصل أبو علي مع آخرين من بينهم علي فودة محاولاتهم، من خلال الكلمة المختلفة والصادمة، لتغيير الواقع وإحداث ثورة في الثورة وهز ركائز بيروقراطيتها. فلم يكن في مرحلة السبعينيات متسعٌ لصوت الفرد أو لاختلافه تحت سطوة الصوت الجماعي، وهو ما وضع الحرية الإبداعية، أحياناً، في موقع التناقض مع الواجب الوطني. وهنا تجدر الإشارة إلى تجربة الشاعر طه محمد الذي حملت قصائده صوتاً شعرا فريداً في لغته ونثريته ونبرته. وفي واحدة منها، "عبد الهادي يصارع دولة عظمى"، يقدم طه صورة للعربي الفلسطيني الطيب والبسيط والمضياف حد السذاجة. أخرّت هيمنة قوة التيار الرئيسي للشعر الفلسطيني، الانتباه لفرادة هذه التجربة وأهميتها، وهو ما سبق حدوثه مع توفيق صايغ وسيحدث، بمستويات متفاوتة، مع مبدعين آخرين، وخصوصاً في حقل الفنون البصرية، كون تجاربهم الفنية، اتخذت آفاقاً وجماليات أُخرى ابتعدت في سماتها عن تلك التي هيمنت على الفن التشكيلي الفلسطيني في هذه المرحلة، كان من أهمهم سامية حلبي وكمال بلاطة، وليلى الشوا ومنى حاطوم وفلاديمير تماري وبول غيراغوسيان وجوليانا ساروفيم وصوفي حلبي. وإن تباين حضور القضية الفلسطينية في أعمال هؤلاء لأسباب جمالية وهوياتية معقدة، إلاّ إنها بدت عميقة وضمنية وكامنة في كثير من أعمالهم وتجاربهم التي فتحت نفسها لتأثيرات شخصية وفنية واسعة وعلى لغة معاصرة وكونية.
تكريس الرموز والصور الأيقونية وتمجيد التراث
أفضى التعاقد الذي بدا صارماً ما بين الحقل الثقافي والمشروع الوطني إلى خلق وتكريس كثيراً من الصور الأيقونية والرموز الذي بدأ تداولها وانتشارها في أوساط الفلسطينيين كمفردات جامعة تشعرهم بوحدة الماضي والحاضر والمصير. فحظيت، شجرة الزيتون، والكوفية، والمفتاح بمكانة رمزية عالية في الحقل الدلالي الفلسطيني، وتم رفع الدبكة والتطريز إلى مصاف المُقدس الثقافي. كما حازت، أيضاً، شجرة البرتقال مكانة مهمة باعتبارها ترمز إلى مدن الساحل الفلسطيني، ولا سيما يافا، وبالتالي كان في حضورها إلى جانب الزيتونة جمع لشقي الوطن الواحد بما يمثل من جبل وساحل. وباعتباره شاهداً متجدداً على وجود القرية الفلسطينية المدمرة، ولارتباطه بمفهوم الانتظار والعودة، احتل الصبّار مكانة رمزية عالية في التعبيرات الثقافية الفلسطينية المتعددة (أعمال توفيق عبد العال وعاصم أبو شقرة). كما دفعت آلام الفلسطيني ومعاناته على طريق الحرية إلى استدعاء تجليات صور الصليب والمسيح وفعل الصلب إلى قاموس رموزه وحقله الدلالي والاستعاري، وتزايد ظهورها في كثير من الأعمال الشعرية والأدبية والإنتاجات البصرية. كما أدت تجربة السجن ولا سيما في فلسطين المحتلة، إلى حضور السجن بتجلياته المتعددة في الأدب والفن والبوستر والغناء الشعبي، على اعتبار أنه جبهة مهمة أُخرى من جبهات المواجهة المباشرة مع المحتل، والنضال والتحرر، وبالتالي مكوناً أساسياً في وعي الفلسطيني واحتمالات وجوده.
وقد مثلت فترة السبعينات ذروة استدعاء الفولكلور ورموزه في الإنتاج الثقافي. ويرى زكريا محمد في وصول تلك الظاهرة حدَّ الهوس عَرَضاً لانفصال الجماعة القومية عن ماضيها، وأن عبادة الفولكلور قد ازدهرت في وقت الانقطاع عنه.
جاء الحضور الطاغي للقرية بصفتها مكاناً يمثل الماضي والجذور والأصل في التعبيرات الثقافية ما بعد النكبة، واستحواذها على مساحة كبرى في عملية تشكيل وبلورة الهوية الفلسطينية على حساب المدينة، بصفتها مشروع للمستقبل، بعد أن كانت النكبة قد عصفت بمدن الساحل الفلسطيني، بما كانت تمثله من مشروع حداثة فلسطينية، ولا سيما يافا التي كانت تنافس القدس في مركزيتها. فإلى جانب حيفا التي حازت مكانة لافتة في الأدب، ولا سيما في أعمال إميل حبيبي، وأشعار محمود درويش، ولوحات عبد عابدي وغيرهم الكثير، تظل القدس، المدينة الأكثر حظاً من التمثيل في أشكال التعبير الثقافي والفني المتعددة، وهو ما جعلها تشكل رمزاً موحداً للفلسطينيين، وقبلة لأحلامهم، وحلقة صلتهم الأمتن مع امتدادهم العربي والإسلامي وأبعد.
المسرح والموسيقى والملصق
شهدت القدس ولادة فرقة الحكواتي أهم تجربة مسرحية فلسطينية، والتي قادها فرانسوا أبو سالم مع مسرحيين مجايلين له اتخذ عملهم الروح الجماعية، في تناغم مع روح المقاومة في عقد السبعينيات. وقدمت الفرقة العديد من العروض على جغرافيات الأرض الفلسطينية وفي الخارج (مثلاً "محجوب محجوب" قدمت 120 مرة)، وتوجت هذه التجربة بتأسيس المسرح الوطني الفلسطيني الحكواتي (1984). وقد انبثقت هذه التجربة من حراك مسرحي مبكر شهدته مدينتا رام الله والبيرة بداية السبعينيات، انبثق عنه العديد من الفرق المسرحية الأُخرى التي انخرطت جميعها في إنتاج أعمال فنية ملتزمة سياسياً واجتماعياً وقادرة على طرح أسئلة فلسطينية من منظور فني وإنساني مركب. ويعتبر الفنان المسرحي خليل طافش مؤسس المسرح الفلسطيني في الشتات (عمّان ثم دمشق) بعد النكبة.
لعبت الموسيقى دوراً فاعلاً في بلورة الوجدان الفلسطيني والتعبير عنه في زمن الثورة، وذلك عبر إذكاء روح النضال والمقاومة، وتمجيد التضحية والشهادة، وقد غلب عليها طابع الغناء الجماعي/الجوقة على النتاج الموسيقي. (مثل "فرقة العاشقين" وأغاني الثورة التي كانت تبث عبر صوت فلسطين)، ويمكن ملاحظة مساهمة شعراء كبار مثل أحمد دحبور ومحمد حسيب القاضي في كتابتهما الكثير من كلمات أغاني الثورة. وساهم زجالون مثل أبو عرب، وراجح السلفيتي، وسعود الأسدي، ولاحقاً موسى الحافظ وغيرهم الكثير في حمل فلسطين بأشعارهم وحناجرهم عبر الأجيال في منابر سياسية واجتماعية وثقافية متعددة. وقد ظهرت في القدس تجربتان موسيقيتان لافتتان مثّل أولها مصطفى الكرد، أمّا الأُخرى، فقدمها جورج قرزم من خلال فرقة براعم، بما حملته معهما من روح احتجاجية ومقاومة وتحدياً لسلطة الاحتلال، وفرادة فنية كذلك.
وأصدرت فرقة صابرين ألبومها الأول "دخان البراكين" (1984) الذي ضم عدداً من الأغنيات لقصائد من شعر المقاومة محمولة على صوت وأداء كاميليا جبران وألحان سعيد مراد، ثم ألبومها الثاني "موت النبي" (1987) قبيل اندلاع الانتفاضة الأولى، والذي ركز على جوانب من حياة الفلسطيني في تلك الفترة، وحمل تحريضاً صريحاً للفلسطيني للتمرد على واقعه وشروط وجوده تحت الاحتلال وحياة اللجوء والمخيم. وكما مثلت تجربة فرقة الفنون انطلاقاً لموجة كبيرة من فرق الرقص والغناء الشعبيين، ولنهضة هذا الشكل التعبيري وتطوره لاحقاً، مثلت تجربة صابرين فتحاً موسيقياً ساهم في تطور وعصرنة الأغنية والموسيقى الفلسطيني ونشرها، وأخذت تؤسس لذائقة جديدة مقدمة صورة أكثر تعقيداً للفلسطيني، وللواقع الذي يعيش فيه. كما وضعت أسساً لنهضة الحقل الموسيقى وانتشاره وانفتاحه على الكثير من أشكال التعبير الموسيقي، بما حملت معها من موضوعات متعددة، كانت الهوية ومساءلتها وإعادة تشكيلها في مركز اهتمامها. وبشكل عام، شهدت الساحة الفنية، ولا سيما في فلسطين المحتلة سنة 1967، تنامياً للإنتاجات الثقافية المحرضة على المقاومة والثورة (لوحة "هوية" 1984 لفتحي غبن مثالاً) والتي يعتبر البعض أنها حملت نبوءة لاندلاع الانتفاضة الأولى وقد تمت طباعتها كبطاقة بريدية على غرار كثير من لوحات أيقونة أُخرى لتسهيل تداولها.
وكما مثل الغناء مجالاً لتداول وانتشار الكثير من القصائد الأيقونية التي حفرت عميقاً في الوجدان الجمعي، فإن البوستر شكل أداة لنشر وتداول أعمال تشكيلية أيقونية، وأداة فعالة في تشكيل مفردات بصرية ولغة رمزية قادرة على مخاطبة الفلسطيني، تنهل من الرصيد الرمزي والدلالي الذي راكمه الفعل الثقافي في مواكبته للثورة والمشروع الوطني الفلسطيني. كما هدف البوستر إلى مقارعة آلة الدعاية الصهيونية في عمليه تسويغها لمشروعها الاستعماري في فلسطين، وساهم في إحياء مناسبات وأحداث وشخصيات وطنية وثقافية مهمة. كما مثل مساحة فعّالة لإظهار فعل المشاركة والتضامن. وقد راكمت حركة النضال الوطني والثقافي الفلسطيني رصيداً هائلا واستثنائياً من الملصقات يؤرخ لتفاصيل وأحداث مهمة في تاريخ الشعب الفلسطيني، ومسيرة بنائه لهويته الوطنية.
حقبة بيروت ودورها
حاولت مؤسسات منظمة التحرير العمل على مركزة الفعل الثقافي والإعلامي، ولا سيما عقب قرار تأسيس دائرة الإعلام الموحد (1972) كتوجه لتوحيد شتات العمل الفصائلي في حقل الإعلام والثقافة. لكن لم يدم الأمر طويلاً بعد اقتراح حل التسوية.
منحت بيروت، بموقعها ومكانتها الثقافية، وبما وفرته من انفتاح ثقافي وحرية، الفعل الثقافي الفلسطيني زخماً كبيراً، وانفتاحاً على البعد العربي والإنساني، ساهم في تطوره وتوسيع دائرة حراكه وأدواته ومفرداته وتمثيلاته، كما ساهم في انفتاح الهوية الفلسطينية على الآخر، وأصبح بذلك مفهوم أن تكون فلسطينياً يعني الانتماء إلى القضية الفلسطينية بما تمثله من قيم الحرية والعدالة. وقد مثّل تنظيم "المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين" (1978) والذي بادر إليه عز الدين قلق تظاهرة كبيرة للتضامن الفني العالمي مع فلسطين في حينه.
فقد مثّل الحقل الثقافي الفلسطيني في بيروت فضاء حيوياً وجبهة متقدمة للعمل المشترك والتضامن العابر للقوميات والحدود، الأمر الذي من شأنه أن يطرح سؤالاً مهماً حول مفهوم الثقافة الفلسطينية في هذه الحقبة، ما يجعل من عدم الإتيان على ذكر مساهمات كثيرين من كتّاب وفنانين غير فلسطينيين (على سبيل المثال: إلياس خوري الذي ارتبطت مسيرته النضالية والمهنية والإبداعية والكثير من إنتاجه الثقافي والروائي بفلسطين وقضيتها، إلى حد اعتبار روايته "باب الشمس" تمثل الرواية الكبرى عن القضية الفلسطينية، ما جعله يعتبر أعظم روائييها) يصيب هذا المقال بالنقصان. إلى جانب السينما وفن البوستر، والمجال البحثي، تحمل لنا تجربة "دار الفتى العربي" مستوى آخر من العمل الذي أخذ سمة مستقلة نسبياً، وتم توجيهه لفئه الأطفال والفتيان، لصوغ هوية جيل الناشئة الفلسطيني والعربي كجيل للتحرير، عبر حشد طاقات الكثير من المثقفين والكتاب والفنانين الفلسطينيين والعرب مثل إبراهيم أبو لغد، وكمال بلاطة وإحسان عباس، وزكريا تامر، وصنع الله إبراهيم، وفنانين مثل حلمي التوني واللّباد، وكركتولي، وسليمان منصور وغيرهم، وبتمويل من مجموعة كبيرة من الأثرياء الفلسطينيين.
نجح المشروع الوطني والثقافي في مرحلة بيروت في لملمة شتات الشعب في هوية جامعة؛ مقاوِمة في روحها، متفائلة في توقها إلى الحرية، ومنفتحة على البعد العربي والإنساني في سعيها لإنجاز مشروع التحرر. ففي الوقت الذي ركز فيه فن الداخل الفلسطيني على تجليات صورة الفلسطيني بعلاقته الفلاحية بالأرض، فإن مرحلة الثورة في بيروت عملت على ترسيخ صورة الفلسطيني المقاوم والفدائي في توقه إلى العودة والحرية من خلال الكفاح والمقاومة، معززة حضور المرأة في مسيرة المقاومة والثورة.
شكل خروج الثورة من بيروت بعد حصارها (1982) نحو تونس، ودمار مركز الأبحاث الفلسطيني، نكسة للفعل الثقافي الفلسطيني وقتئذ، وفقدان لقاعدته الأهم وتشتيتاً لفواعله، كما أدى ضياع أرشيف السينما الفلسطينية قطعاً في مسيرة تطور السينما الفلسطينية. مثل ذلك الخروج لحظة تراجيدية في مسيرة الثورة الفلسطينية، وابتعاداً عن أرض الحلم الفلسطيني، بما تسبب به من خفوت للأصوات الحاملة له، وتصاعد لأصوات أكثر تشاؤماً، إذ وصف محمود درويش حزنه لرؤية الثورة تقيم في فندق على شاطئ البحر. لكن ياسر عرفات سارع إلى محاولة إعادة بناء مؤسسته في تونس، بإصدار "شؤون فلسطينية"، واستمرار عمل دائرة الإعلام والثقافة، ودعوة درويش لاستئناف إصدار مجلة "الكرمل"، فعمل على إصدارها من قبرص، بينما اتخذ من باريس محلاً لإقامته. وقد شهدت هذه الفترة تفتح مشروعه الشعري الكبير، وانفتاحه على آفاق إنسانية وجمالية واسعة، أصّل خلالها لمفهوم المنفى، كأحد جغرافيات الهوية الفلسطينية ومركبات وعيها، كون الذاكرة متلازمة اللجوء والمنفى. وربما كان جبرا إبراهيم جبرا من أوائل الكتاب الفلسطينيين الذين تناولوا موضوع المنفى في كتاباته من منفاه الاختياري ببغداد.
صدر العديد من النصوص والكتب التي تتناول تجربة بيروت (مثل: "آه يا بيروت" لرشاد أبو شاور، و"بيروت: وعي الذات 82" لأحمد أبو مطر، و"نشيد الحياة" ليحيى يخلف). وربما الكتابات الأكثر شهرة حول تلك المرحلة كانت لمحمود درويش، وتحديداً كتابه" ذاكرة للنسيان" وقصيدتيه الملحميتين "بيروت" و"مديح الظل العالي" بما حملته من ذاكرة للوجود الفلسطيني في بيروت، ووداع الفلسطيني لها، وتجربته فيها بما انطوت عليه من بطولة وتراجيديا، بما في ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا والتي مثلت جرحاً فلسطينيا نازفاً آخر في وعي الفلسطيني.
في هذه الاثناء، كانت الضفة وقطاع غزة تشهدا تصاعداً في حركة الاستيطان، وتغلغلاً لسيطرة الحكم العسكري على مفاصل الحياة فيهما، وتزايداً في عدد العمالة الفلسطينية داخل اسرائيل بما حمل ذلك من مشاعر اغتراب وإحباط وتعايش مع ذلك الواقع القاسي وتجلياته على الأرض، ومن إعمال التخريب والتفكيك في المجتمع الفلسطيني، والذي ستكون ظاهرة قتل العملاء في الانتفاضة الأولى إحدى حصاداته. واقع ستتناوله سحر خليفة في روايتها "باب الساحة" التي ستتناول فيها واقع المرأة الفلسطينية. يرى الناقد فخري صالح المرأة في هذه الرواية بصفتها شخص مهدور الحقوق في مجتمع يتشكل ببنيته الاجتماعية والسياسية في ظل الاحتلال، والعلاقة المتشابكة بين هذه المرأة والثورة ودورها فيها.
تم تأسيس أهم الجامعات الفلسطينية في عقد السبعينيات، وأخذت تؤدي بمنظماتها الطلابية والجماهيرية دوراً وطنياً وتنموياً ريادياً، ما جعلها تغدو مسارح لحراك وطني وثقافي فاعل ومؤثر. وكان عقد السبعينيات قد شهد تنامياً في الأصوات الشعرية داخل الأرض المحتلة تطرق حسين البرغوثي لإنتاجها الشعري في كتابه "أزمة الشعر المحلي" مشيراً إلى تواضع تلك التجربة بشكل عام.
الانتفاضة الأولى
أعادت الانتفاضة القضية الفلسطينية بقوة غير مسبوقة إلى واجهة الحضور عربياً ودولياً منهية بذلك حقبة من الخوف على طمس القضية، ومن هيمنة خطاب ثقافي مركزي مثقل بالبلاغة والرمزية، حيث ساهمت الانتفاضة كثيراً في تحرير الفعل الثقافي، من تلك المهمة التاريخية، فشعر عدد كبير من المبدعين الفلسطينيين في الخارج بشيء من الانعتاق من ضغط الوطني والواجب على حريتهم وخياراتهم الفنية.
فأخذ يظهر جيل جديد من الأصوات الشعرية الفلسطينية المهمة التي تمثل تجارب وتحولاًت جوهرية في القصيدة الفلسطينية، ليساهم في تحرير القصيدة من وطأة الجماليات المهيمنة نحو قصيدة أكثر هدوءاً وخفوتاً وحساسية لروح العصر، ويحتل فيها عالم الشاعر وتجربته وانشغاله بلغته ونبرته الخاصة مكانة أساسية، كان من أهم شعرائها غسان زقطان وزكريا محمد ووليد الخزندار، ويوسف عبد العزيز وطاهر رياض وزهير أبو شايب ويوسف أبو لوز وخالد درويش وراسم المدهون وغيرهم، إضافة إلى شعراء آخرين أخذت تجاربهم مسارات أُخرى مثل محمد القيسي، وإبراهيم نصر الله وغيرهما.
جعلت الانتفاضة الكلمة الفصل وفعل القيادة للشارع وليس للشاعر، وللداخل وليس الخارج، وإن سارع سميح القاسم لمشاركة الجماهير الغاضبة بقصيدته" تقدموا"، ومحمود درويش بـ " عابرون في كلام عابر" المستقطعة من وقت انكبابه على مشروعه الشعري في باريس، علماً أن استجابة درويش الإبداعية والمتريثة للانتفاضة جاءت في "مأساة النرجس ملهاة الفضة"، كما قدم سليمان منصور لوحته الشهيرة "صحوة القرية"(1987) التي صور فيها امرأة فلسطينية عملاقة تحتل جزءاً من مشهد القرية الفلسطينية، ويخرج من بين ساقيها رجال ونساء قرويون، تشف ملامحهم على الثقة والعزم والإرادة ومعرفة الوجهة والمهمة، وقدم فنانون مثل فتحي غبن وعبد الرحمن شلا وفايز الحسني وغيرهم لوحات تحتشد بطاقة تعبيرية كبيرة تصور الانتفاضة والفلسطيني بحضوره البطولي المتعدد والمتنوع، وبأدوات نضاله الجديدة من حجارة ومقلاع.
تميزت الانتفاضة بمشاركة واسعة للمرأة الفلسطينية في كل أشكال الفعل النضالي والمجتمعي، فاتحة المجال لتَفتّح طاقاتها على الفعل والمبادرة، إلى جانب الرجال والشباب والأطفال. وهيمنت خلال الانتفاضة أشكال بديلة من الممارسات الثقافية والفنية سريعة التداول والانتشار في ظل القمع والحصار. فبرز فن الجدران، الغرافيتي المحرض على المقاومة الشعبية، وصدحت الأغاني التي واكبت نبض الشارع، وتصدرها فنانون محليون (مثل ثائر البرغوثي ووليد عبد السلام وغيرهما) ، إضافة إلى مساهمات فرق محلية مثل "صابرين" التي كانت قد اصدرت ألبومها الثاني "موت النبي"، والذي مثل بدوره ثورة على مستوى الموسيقى والكلمات والأداء، وفرقة "يعاد" الجليلية التي قدمت مئات العروض في أرجاء الوطن والخارج مقدمه قصة الشعب الفلسطيني ورحلة تشريده وأحلامه، وأصدرت فرقة "الرحالة" التي أسسها الموسيقي جميل السايح وحسين البرغوثي بداية الانتفاضة، ألبومها الأول "رصيف المدينة" (1989)، إضافة إلى العديد من المساهمات الفنية والأدبية المحلية والعربية، ما يعطي فكرة عن التأثير الغامر للانتفاضة التي استطاعت أن تستفز بروحها الهائلة طاقات إبداعية كامنة ساهمت بدورها في إذكاء جذوتها.
حملت الانتفاضة معها تحولات في حقل الفن التشكيلي كان أهم تجلياتها مجموعة " التجريب والإبداع" والتي ضمت سليمان منصور ونبيل عناني وفيرا تماري وتيسير بركات الذين سعوا إلى تبني نهج ورؤى أكثر ثورية من خلال العمل بخامات محلية وعضوية ومقاطعة الخامات التي كان مصدرها السوق الإسرائيلي، والانخراط بممارسات انطلاقاً من هذه الخامات والرؤى. وشهدت هذه الفترة ولادة مؤسسات جديدة مثل "مركز الفن الشعبي" (1987) الذي اهتم بتطوير فرق الرقص والغناء الشعبي، وتعميق دورها في بناء الهوية الوطنية، و"مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي" (1989) على يد التربوي منير فاشة استجابة لحاجة المجتمع المحلي إلى أدوات جديده تجعله أكثر إنتاجية. ونشطت في هذه الفترة فرق شعبية كثيرة في الدبكة والرقص والغناء الشعبي (فرقة سرية رام الله وشرف الطيبي وجذور وغيرها) تستنهض في الجمهور روح الجماعة والتلاحم والانتماء إلى الأرض. وشهد الفعل المسرحي حضوراً فاعلاً، وخصوصاً من خلال مسرح الحكواتي، الذي أنتج وعرض عدة أعمال مسرحية؛ مثل "كفر شما"؛ و"العصافير" و"موتى بلا قبور" إضافة إلى مسرحية " أنصار" التي تناولت موضوع أسرى الانتفاضة في معتقل النقب الصحراوي. وفي هذه الفترة، أخذت تظهر تجارب مسرحية جديدة مهمة ولافتة من حيث رؤيتها وانشغالاتها وجمالياتها، مثل أعمال المخرج يعقوب إسماعيل، مؤسس "مسرح الرحالة" (1984) في رام الله، والذي يُعتبر رائد التجريب في المسرح الفلسطيني، إضافة إلى أعمال المخرجين سامح حجازي ومازن غطاس. وقد أخذ هؤلاء وغيرهم يقدمون تجارب مسرحية مهمة تستلهم الكثير من النصوص العالمية، في سعي لتطوير المسرح الفلسطيني وإغناء انشغالاته، وموضوعاته ومقارباته الإنسانية وجمالياته وأسئلته حول الهوية.
سينمائياً شهدت هذه الفترة صعود السينما الروائية الفلسطينية، إذ قدم ميشيل خليفي فيلمه الروائي الأول "عرس الجليل" (1987) ويُعتبر الأول الذي يصور داخل فلسطين المحتلة. قدم الفيلم مفهوماً آخر للمقاومة من خلال حفلة عرس في قرية جليليه في أثناء الحكم العسكري، تبعه فيلمه الديكيودراما "نشيد الحجر" الذي تناول مفهوم جديد للتضحية كما استلهمها من الانتفاضة الأولى. وأنتج إيليا سليمان وجويس سلوم "مقدمات لنهايات جدال" (1990) حول تمثيلات الفلسطيني والعربي في السينما الغربية، ثم فيلمه " تكريم بالقتل" (1991) الذي ينتقد حرب الخليج الثانية التي مهدت الطريق أمام اتفاقية أوسلو. وتبع ذلك رشيد مشهرواي بفيلمه الروائي الأول "حتى إشعار آخر" (1993) الذي تدور أحداثه في مخيم بغزة أواخر الانتفاضة التي طالت كثيراً، ويتناول حالة التضامن والصمود بين الناس في أثناء فرض الاحتلال منع التجول.
نشر محمود درويش "أحد عشر كوكباً" في سنة 1992، الذي يستدعي فيه آخر عهد العرب بالأندلس وسقوط غرناطة في إحالة إلى ما هو على وشك الضياع والسقوط، كما جاءت قصيدته الطويلة" خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض" في سياق محاكمة اللحظة الفلسطينية وقتئذ، والمتمثلة بمفاوضات السلام التي تجلت بمؤتمر مدريد (1991) وصولاً إلى توقيع اتفاقية أوسلو (1993)، التي كانت لحظة فارقة في التاريخ الفلسطيني المعاصر.
أبو علي، رسمي. "قط مقصوص الشاربين اسمه ريّس". "الأخبار"، 5 كانون الأول/ ديسمبر 2014.
بلاطة، كمال، "استحضار المكان: دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر". تونس: المنظمة العربية للتراث والثقافة والعلوم، 2000.
بولص، عيسى، "الأغنية الفلسطينية ومجريات تطورها وانحسارها منذ الحرب العالمية الأولى حتى أوسلو". محاضرة في معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، 2023.
حسن، شاكر فريد." الثقافة الفلسطينية بعد معركة بيروت". "الحوار المتمدن"، 7 حزيران/ يونيو 2011.
خليفي، جورج، "الفيلم الوثائقي: دليل مقترح للتدريس في الجامعات الفلسطينية". مركز تطوير الإعلام في جامعة بيرزيت. 2015.
دراج، فيصل. "الرواية الفلسطينية: أدب المضطهَدين في جغرافيا مشتَّتة". الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.
الزبيدي، قيس."السينما الفلسطينية من خدمة الثورة إلى التعبير الإبداعي". الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.
زريق، قسطنطين. "معنى النكبة". بيروت: دار العلم للملايين، 1948.
شبلي، عدنية. "عرافات: فن تذكر المستقبل"، مؤسسة عبد المحسن القطان، 2020.
شبيب، سميح. "الذاكرة الضائعة: قصة المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني". رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2005.
صالح، فخري. "الرواية الفلسطينية في الوقت الراهن: إشارات". "مجلة الدراسات الفلسطينية". العدد 22 (ربيع 1995)، ص 157-168.
الطاهر، معين. "بيروت الفلسطينية". "مجلة الدراسات الفلسطينية". العدد 124 (خريف 2020)، ص 182-186.
كنفاني، غسان. "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2012.
محمد، زكريا. "في قضايا الثقافة الفلسطينية". رام الله: مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2002.
دحبور، احمد. "أدب النكبة: خواطر وأسئلة". "الاتحاد ملحق الجمعة"، 5 حزيران/ يونيو 1998.
عبد العال، تغريد. "الفن الفلسطيني المعاصر وسؤال الهوية". "مجلة الدراسات الفلسطينية". العدد 130 (ربيع 2022)، ص 205-208.
الشوملي، فارس. "نداءات الثورة والفنّ: تصوير ذاتي للممارسة الفنيّة". 9 كانون الأول/ ديسمبر 2021.
https://alhoashgallery.org/نداءات-الثورة-والفنّ/
الناشف، إسماعيل. "في اللا/تحوّل في الممارسة والخطاب: إشكاليّة الثقافيّ الفلسطينيّ". 16 أيلول/ سبتمبر 2011.
https://www.qadita.net/featured/esmail/
وادي، فاروق، "إسماعيل شموط: مسيرة نصف قرن من المقاومة". "جريدة الفنون". عدد 17، 1 أيار/ مايو 2002.