بحجة حماية المسيحيين قاطني الأراضي المقدسة، وفي الحقيقة من أجل إرساء نفوذها في الإمبراطورية العثمانية
المتداعية، تتسابق الدول الأوربية إلى افتتاح قنصليات في القدس
: بريطانيا العظمى
سنة 1838، بروسيا
و
في أيار/ مايو 1865، اجتمعت مجموعة من الشخصيات العامة البريطانية في
لمحة تاريخية
أملت سياسة بريطانيا العظمى
في بلاد الشام خلال القرن التاسع عشر اعتبارات عدة: التنافس مع دول أوروبية أُخرى، وخصوصاً
وعلى امتداد القرن التاسع عشر، ظهرت في لندن جمعيات دينية وثقافية مرتبطة بالأراضي المقدسة. ففي سنة 1805 أُنشئت "
في أعقاب الاضطرابات الطائفية التي شهدتها دمشق
]وعُرفت باسم طوشة النصارى[، في الأسبوع الثاني من تموز/ يوليو 1860، والتي قُتل فيها آلاف المسيحيين، أُنشئت في لندن "
أمضى جون إيروين ويتي ما يقرب من عام في منطقة القدس، وفي خريف سنة 1863 نشر تقريره تحت عنوان "إمدادات المياه والصرف الصحي المقترحة للقدس مع وصف وضعها الحالي ومواردها السابقة." وفي ذلك التقرير، الذي تضمن مسحاً شاملاً لإمدادات المياه في القدس، جادل ويتي بأن جيولوجية القدس ليست مناسبة للآبار الارتوازية، وقال إن إعادة تأهيل قناتين تاريخيتين، إحداهما نسبها إلى زمن هيرودس والأُخرى إلى زمن الملك سليمان ، سيضمن بصورة أفضل جر مياه الأمطار إلى المدينة عبر أنابيب من مصادر تقع خارجها. ومع ذلك، فإن الاستنتاج الذي استخلصه من بحثه الطبوغرافي المحدود أظهر أن اهتمامه انصب على إعادة تعريف القدس ضمنياً على أساس أهميتها الدينية والروحية باعتبارها الأرض المقدسة الواردة في النصوص التوراتية.
في سنة 1864، تم إنشاء "
استمرت مهمة ويلسون في القدس من تشرين الأول/ أكتوبر 1864 إلى أيار 1865. ولم تُضف البعثة الكثير إلى تقرير ويتي الصادر سنة 1863 عن أنظمة المياه. كانت النتيجة الرئيسية لمهمتها وضع خريطة للقدس وضواحيها بمقياس 1:10.000 وبمقياس 1:2.500 للمدينة المسوّرة، بالإضافة إلى وصف تضاريس القدس والآثار القديمة فيها، وألبوم صور يضم 76 صورة فوتوغرافية. وشمل المسح الذي أجرته البعثة المباني والمواقع المهمة بما في ذلك الجدران والمقابر داخل الأسوار وخارجها، كما أُجريت حفريات تحت مجمع الحرم الشريف وكنيسة القيامة ، وقيست الاختلافات في الارتفاع من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الميت . وقد اكتسى ذلك المسح، عدا عن كونه ضرورياً لوضع خطط إمدادات المياه، أهمية عسكرية واضحة، وخصوصاً أن ضباطاً عسكريين بريطانيين هم من نفذوه. وبالنتيجة، صار مخطط القدس المساحي الحافز والأساس لمسعى أكثر طموحاً، وهو "صندوق استكشاف فلسطين".
بعثة صندوق استكشاف فلسطين
في 12 أيار 1865، وقبل وقت قصير من عودة بعثة الكابتن تشارلز ويلسون، عُقد في لندن اجتماع لمناقشة إنشاء جمعية هدفها إجراء عملية "استطلاع" في فلسطين، وحظيت هذه المبادرة بدعم
- أن يجري العمل على إنشاء صندوق بغرض التشجيع على استكشاف الأراضي المقدسة.
- إن استكشاف القدس والعديد من الأماكن الأُخرى في الأراضي المقدسة عن طريق الحفريات كفيل على الأرجح بإلقاء الكثير من الضوء على الآثار والمواقع الأثرية العائدة للشعب اليهودي.
- بالإضافة إلى الأبحاث التي نثمنها عالياً والتي أجراها الرحالة الفرنسيون والإنكليز ومن دول أُخرى في الأراضي المقدسة، من المرغوب فيه بشدة إجراء مثل هذا المسح المنهجي الذي سيحدد مجمل الخصائص الجغرافية والجيولوجية الحقيقية لتلك المنطقة الرائعة.
- من المرغوب فيه أن يجمع مراقبون مختصون، على أرض الواقع، الحيوانات والنباتات والمعادن الموجودة في الأراضي المقدسة، وأن يتولوا تدوين الوقائع المطلوبة لوضع وصف منهجي لتاريخ وجودها.
- يجب أن يحصل علماء الكتاب المقدس على المساعدة التي تمكّنهم من توضيح النص المقدس من خلال الملاحظة الدقيقة لآداب سكان الأراضي المقدسة وعاداتهم.
في خطابه الافتتاحي للاجتماع الأول لصندوق استكشاف فلسطين في 22 حزيران/ يونيو 1865، قال رئيس الأساقفة وليام طومسون: "إن تلك البلاد فلسطين هي ملك لي ولكم. إنها في الأساس ملك لنا." وأكد على ضرورة أن يلتزم الصندوق المبادئ العلمية وأن يبتعد عن الجدل. وكرر أنه لا يجب أن يبدأ مشروع صندوق استكشاف فلسطين أو يُدار على أنه محفل ديني. ومع ذلك فقد شدد على أهمية فلسطين بالنسبة إلى الإنجيليين: "لا يجب أن يستحوذ أي بلد على مثل هذا الاهتمام من جانبنا غير ذلك البلد الذي كُتبت فيه وثائق إيماننا، وجرت فيه الأحداث المهمة التي ترويها. وفي الوقت نفسه، لا يوجد أي بلد تلح الحاجة لرسم معالمه أكثر من هذا البلد [فلسطين]."
لا يمكن تجاهل نيات مؤسسي صندوق استكشاف فلسطين الرامية إلى إيجاد أدلة على أفكار الدعاة الإنجيليين المسبقة ونظرياتهم. لقد تأثر نهجهم ونطاق اهتمامهم إلى حد كبير بأعمال
الاستكشافات والحفريات ورسم الخرائط
في سنة 1865، وضعت لجنة صندوق استكشاف فلسطين على عجل خطة عمل مفصلة حددت مجالات الاهتمام. ففيما يتعلق بالآثار، رأت اللجنة أنه بمجرد الانتهاء من المسح "الراهن" "فوق الأرض" في القدس، يجب تركيز المسح "تحت السطح" على المواقع التالية في فلسطين: جبل جرزيم
، وقبر يوسف
، وبيسان
، وأريحا
، و
وقررت اللجنة كمهمة أولى، إرسال الكابتن تشارلز ويلسون إلى فلسطين مجدداً في تشرين الأول 1865 لإجراء دراسة جدوى للاستكشاف المخطط له، لجهة تحديد الأماكن التي يجب التركيز عليها والوقت والتكلفة. عاد ويلسون في آب/ أغسطس 1866، بعد أن حقق بعض الاكتشافات ومهَّد الطريق لمزيد من التقصي والاستكشاف. ثم قام بعده اللفتنانت
في بداية مهمته، أعلن وارن أن خطة التنقيب التي وضعها تشمل منطقة الحرم والقبر المقدس (كنيسة القيامة). لكنه سرعان ما واجه مشكلات مع السلطات العثمانية ومع رجال الدين المسلمين والمسيحيين. كانت السلطات العثمانية على استعداد للسماح بالحفريات "العلمية" في أي مكان، باستثناء الجزء الداخلي من الحرم والمقامات الإسلامية والمسيحية الأُخرى. حاول وارن الحفر بالقرب من أسوار الحرم، لكنه مُنع كذلك من الحفر في مسافة تقلّ عن 12 متراً من هذه المنشآت الدينية. فلجأ إلى إقامة حُفر رأسية على مسافة أبعد وحفر أنفاق تصل إلى الجدران. لكنه واجه معارضة مرة أُخرى واضطّر إلى التوقف في حزيران 1869. ومنذ ذلك الوقت فصاعداً، صار رسم الخرائط مهمة صندوق استكشاف فلسطين الرئيسية. أمّا حفريات الصندوق في القدس فلن تُستأنف قبل سنة 1890.
تمثلت إنجازات وارن في رسم خريطة البلدة القديمة في القدس
وبواباتها وتفحص جزء كبير من محيط الحرم الشريف وموقع كنيسة القيامة. وكانت بعض استنتاجاته غير متسقة مع النتائج التي توصل إليها
عاد وارن إلى
منشورات صندوق استكشاف فلسطين من 1881 - 1889
في لندن، عمل فريق صندوق استكشاف فلسطين، بمساعدة مكتب الحرب، على جمع الخرائط الميدانية (الموصوفة بـ "الآثار") المرسومة في كل موقع من المواقع، وترتيبها، تمهيداً لرسم خريطة فلسطين. وغطت خريطة فلسطين المنطقة الممتدة من نهر الليطاني شمالاً إلى وادي غزة وبئر السبع جنوباً ونهر الأردن شرقاً. وفي سنة 1880، نُشرت الخريطة التي تضمنت 26 ورقة بمقياس 1:63.360، وكان قياس كل ورقة 54×66 سم. وفي سنة 1881، نُشر مجلَّد مكوّن من 438 صفحة يحتوي على قوائم بجميع الأسماء التي تظهر في صفحاتها الست والعشرين (نحو 9000 اسم) تحت عنوان "قوائم الأسماء العربية والإنكليزية التي جُمعت أثناء المسح." في ذلك الوقت، اُعتبرت الخريطة بأنها شديدة الدقة. لكن مؤخراً وجد فيها الباحث الفلسطيني سلمان أبو ستة "أخطاء كبيرة في تحديد المواقع تصل إلى 450 متراً في اتجاه الشرق وحتى ± 60 متراً في اتجاه الشمال."
نشر صندوق استكشاف فلسطين نتائج مسح غرب فلسطين في المجلدات التالية:
- مقدمة لمسح غرب فلسطين (1881).
An Introduction to the Survey of Western Palestine (1881)
- مذكرات الطبوغرافيا والتضاريس الجبلية والهيدروغرافيا والمواقع الأثرية: أ. الجليل (1881)؛ ب. السامرة (1882)؛ ج. يهودا (1883)
Memoirs of the Topography, Orography, Hydrography, and Archaeology: I. Galilee (1881); II. Samaria (1882); III. Judaea (1883)
- أوراق خاصة عن الطبوغرافيا والمواقع الأثرية والآداب والعادات وما إلى ذلك (1881)
Special Papers on Topography, Archeology, Manners and Customs, Etc. (1881)
- القدس (1884)
Jerusalem (1884)
- حيوانات فلسطين ونباتاتها (1885)
The Fauna and Flora of Palestine (1885)
- مذكرات عن الجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية للبتراء العربية وفلسطين والأقاليم المجاورة (1886)
Memoir on the Physical Geology and Geography of Arabia Petraea, Palestine and Adjoining Districts (1886)
- الفهرس العام (1888).
- General Index (1888).
رعى صندوق استكشاف فلسطين أيضاً مشاريع موازية، بما في ذلك الأعمال الأثرية للدبلوماسي الفرنسي
خاتمة
كان البريطانيون في العهد الفيكتوري في القرن التاسع عشر مبشرين دينيين إنجيليين ومؤيدين للتوسع الإمبريالي للإمبراطورية البريطانية. ولإرضاء طموحاتهم الرامية إلى تعزيز بنيان الإمبراطورية، تمثلت مهمتهم في رعاية المشاريع التجارية والأعمال الخيرية والأبحاث والمسوحات المتصلة بالكتاب المقدس. وكان عمل صندوق استكشاف فلسطين يلبي هذه المصالح في المنطقة. واعتمدت وزارة الحرب في سنة 1912 مشاريع صندوق استكشاف فلسطين وصارت مسؤولة عن نشرها، كما استفادت على نحو جيد من الخرائط والملاحظات التي جمعها مهندسو الجيش عشية الحرب العالمية الأولى
وخلالها. وفي سنة 1920، موّل صندوق استكشاف فلسطين "