تتناول هذه الورقة واقع السكّان الفلسطينيين فيما يسمى "المدن المختلطة" في القاموس الإسرائيلي، وتتوقف عند تعريف هذه المدن، متناولة التغيرات التي طرأت على حيّزها الفلسطيني وسكانها الفلسطينيين بعد النكبة . كما تتطرق إلى السياسات الإسرائيلية تجاه هذه المدن ومحاولة تقديم وصف لحال سكانها الفلسطينيين.
تعريف "المدن المختلطة"
يُقصد بـ"المدن المختلطة" إسرائيلياً، وفق تعريف دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية
، المدن التي تسكنها أغلبية يهودية، وفيها أقلية عربية بارزة. لا يعبّر المصطلح عن الواقع الاجتماعي- الاقتصادي الفعلي لهذه المدن، إنما جرى اعتماده كونه يُمثّل حالة استثنائية في دولة إسرائيل، حيث يعيش كل من الفلسطينيين والإسرائيليين في أغلبيتهم الساحقة في تجمعات سكنيّة منفصلة. تدرج دائرة الإحصاء المركزية في قائمة المدن المختلطة حيفا
، ويافا
، واللد
، والرملة
، وعكا
، وهي التي تشكل موضوع هذه الورقة. ولن نعالج هنا مدن مختلطة أخرى توردها دائرة الإحصاء المركزية (القدس
، بما فيها القدس الشرقية
المحتلة سنة 1967، ومعالوت- ترشيحا
، و
لا تظهر الإحصائيات السكانية الرسمية الأعداد الحقيقية للفلسطينيين في هذه المدن، فكثيرون منهم ينتقلون للعيش في هذه المدن بينما يحافظون على تسجيل عنوان سكنهم الرسمي في بلداتهم الأصلية لعدة أسباب، منها المحافظة على حق التصويت في انتخابات السلطات المحلية، أو الحفاظ على أحقية تعليم أبنائهم وبناتهم في بلداتهم الأصلية، خاصة إذا كانت المدينة المختلطة التي يسكنون فيها لا توفر مدارس للعرب.
مع هذا تشير الإحصائيات إلى أن عدد الفلسطينيين في جميع المدن المختلطة في نهاية سنة 2019 قارب 112 ألف أو ما نسبته 8,5٪، تقريباً، من مجمل عدد الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل (أنظر الجدولين 1 و2). تقع أعلى نسبة في مدينتي اللد وعكا، حيث يشكّل الفلسطينيون أكثر من 30٪ من سكان كل منهما. وتقع أدنى نسبة في تل أبيب - يافا، إذ لا تتعدى نسبة الفلسطينيين فيها 5٪ من سكان المدينة. وتبلغ نسبتهم في الرملة حوالي 24٪ من سكان المدينة، فيما تصل إلى ما يقارب 12٪ في حيفا. ويعيش معظم الفلسطينيين في أحياء منفصلة، إلى حد كبير، عن الأحياء اليهودية في هذه المدن.
خلفية تاريخية
كان للنكبة أثر عميق على المدن الفلسطينية التاريخية، فقد تم استهدافها بشكل مباشر ومتعمد بين منتصف نيسان/ أبريل حتى نهاية أيار/ مايو 1948، لتُفرّغ بشكل شبه كامل من سكانها الفلسطينيين. ولم تنته معاناة الفلسطينيين عند النكبة، بل استمرت السلطات الإسرائيلية في استهدافهم عبر سياسات تحاول محوهم جغرافياً وسياسياً وثقافياً.
مباشرة بعد النكبة، فُرض الحكم العسكري على المدن والتجمعات الفلسطينية، ولم يُلغَ إلاّ في نهاية 1966. لكن في المدن المختلطة، فقد استمر الحكم العسكري حتى منتصف سنة 1951 تقريباً. فأُلغيَ عن اللد في تموز/ يوليو 1949، وعن الرملة في حزيران/ يونيو 1949. أما مدينة حيفا التي لم تقع تحت الحكم العسكري رسمياً، فإن جميع ممارسات الحكم العسكري طبقت على سكانها الفلسطينيين وعلى حيّزها العربي. وتشير بعض المصادر إلى أن الحكم العسكري في يافا انتهى في منتصف 1949، وأن عكا بقيت تحت الحكم العسكري حتى منتصف سنة 1951.
قامت السلطات الإسرائيلية خلال تلك الفترة بتجميع القلّة التي تبقت في هذه المدن، في أحياء محددة، اصطلح على تسميتها، بشكل غير رسمي، بالغيتوهات. جُمع 4,000 فلسطيني، من أصل 71 ألف، ممن تبقى في يافا في حي العجمي
. و600- 800 فلسطيني من اللد، من أصل 18,250، جمعوا في منطقتي حي السكنة
وحي المحطة
. وجمع 150 فلسطينياً من الرملة، من أصل 16,380 في حي الجمل
الذي يحمل حتى يومنا هذا اسم "الغيتو العربي". بينما جمع 3,200 فلسطيني، من أصل 75 ألفاً، ممن تبقى في حيفا، في
جدول رقم 1: السكان الفلسطينيون في المدن المختلطة، سنوات مختارة
المدينة | 1932 | 1951 | 2019 | |||||
المجموع | يهود | عرب | عرب (%) | عرب | ||||
المجموع | (%) | المجموع | (%) | المجموع | (%) | |||
حيفا | 47,393 | 12,923 | 27.30 | 34,470 | 72.70 | 10.50 | 33,362 | 11.7 |
عكا | 7,897 | 237 | 3 | 7,660 | 97 | 31.20 | 15,829 | 32 |
الرملة | 10,347 | 5 | 0 | 10,342 | 100 | 12 | 18,300 | 24 |
اللد | 11,250 | 28 | 0.20 | 11,222 | 99.80 | 5 | 23,642 | 30,6 |
يافا | 54,982 | 7,401 | 13.50 | 47,581 | 86.50 | 8* | 20,759 | *4.5 |
* نسبة العرب مما بات يعرف تل ابيب– يافا
المصدر: سليم بريك، "العرب في المدن المختلطة مقارنة للجوانب السياسية" (حيفا: جامعة حيفا، المركز اليهودي- العربي، 2016)، ص 74 [بالعبرية]. أما معطيات سنة 2019 فهي مأخوذة من دائرة الإحصاء المركزية على الرابط cbs.gov.il
جدول رقم 2: سكان المدن المختلطة، 2019
المدينة | المجموع | يهود* | عرب | ||
المجموع | (%) | المجموع | (%) | ||
حيفا | 285,317 | 216,402 | 75.8 | 33,362 | 11.7 |
عكا | 49,380 | 29,369 | 59.5 | 15,829 | 32 |
الرملة | 79,247 | 54,133 | 68.3 | 18,300 | 24 |
اللد | 77,222 | 47,400 | 61.4 | 23,642 | 30.6 |
يافا | 460,613 | 414,231 | 89.9 | 20,759 | 4.5 |
* لا يشمل "آخرون" وهم بحسب تعريف دائرة الإحصاء المركزية، مسيحيون غير عرب، أبناء ديانات أخرى وأشخاص من دون تعريف الانتماء الديني في سلطة السكان والهجرة.
المصدر: دائرة الإحصاء المركزية على الرابط cbs.gov.il
السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في المدن المختلطة
على الرغم من أن المدن المختلطة لا تقع في المنطقة الجغرافية ذاتها، إلاّ أن هناك قواسم مشتركة بينها، ومن أبرزها: هدم أجزاء كبيرة من الأحياء العربية التاريخية في هذه المدن؛ مصادرة ممتلكات وأراضي سكانها الأصليين خاصة أولئك الذين هُجِّروا منها خلال النكبة؛ ضائقة سكنية وإهمال بارز للأحياء التي تركّز فيها الفلسطينيون.
هدمت السلطات الإسرائيلية أجزاء كبيرة من مدينة حيفا، مباشرة بعد احتلالها. وكذلك هدمت أجزاء من حي المنشيّة في يافا، وفي سنوات الخمسينيات هدمت أجزاء من يافا العربية "يافا القديمة". أما في مدينة الرملة فطالت عمليات الهدم المناطق العربية في نهاية ستينات القرن العشرين، وهدمت السلطات حي المحطة في اللد، في نهاية الثمانينات.
مباشرة بعد النكبة، صادرت السلطات الإسرائيلية ممتلكات الفلسطينيين واستولت عليها، وبات غالبية الفلسطينيين ممن يسكنون الأحياء الفلسطينية التاريخية في هذه المدن، "مستأجرين محميين"، يعيشون في بيوت تديرها شركتا "
ولاحقاً، بعد إلغاء الحكم العسكري في المدن المختلطة، تدفق إليها لاجئون وعائلات من القرى المحيطة وسكان قرى ومجموعات فلسطينية اقتلعتها السلطات بعد النكبة من أماكن سكنها الأصلية. بالإضافة إلى ذلك، أسكنت السلطات متعاونين فلسطينيين وعرب من قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان في هذه المدن. وقد أثّرت جميع هذه الأسباب سلباً، في التركيبة السكانية في هذه المدن وانعكست اغتراباً وغربة بين سكانها، إن بشكل متفاوت زمانياً ومكانياً.
الأوضاع التربوية والاقتصادية للفلسطينيين في المدن المختلطة
على الرغم من عدم توفّر معطيات رسمية وافية بشأن الفلسطينيين من سكّان المدن المختلطة، إلاّ أن أبحاثاً موضعية، أجرتها بالأغلب جمعيات فلسطينية محليّة، ألقت الضوء على جوانب مُعاشة لسكان بعض هذه المدن ولاحظت أن سياسات التمييز الممنهجة تجاه سكانها الفلسطينيين، تتسبب في تدني أوضاعهم في جميع المجالات. وتندرج الأحياء العربية في هذه المدن، في معظمها، في العناقيد الثلاثة المنخفضة في المقياس الذي تتبعه دائرة الإحصاء المركزية لقياس المستوى الاقتصادي الاجتماعي للسلطات المحلية والأحياء في المدن الكبرى.
وبشأن الأوضاع التربوية، تبرز معاناة الجهاز التربوي الرسمي من خلال النقص الحاد في المنشآت وفي مستوى تعليمي متدنٍ. وهذا يظهر في ميزانيات وزارة التربية والتعليم. ففي مجال التعليم الابتدائي، تصل الفجوة في ميزانية الطالب والصف العربي في بعض هذه المدن إلى ما بين 10-33٪ لصالح جهاز التعليم العبري. يستمر هذا التمييز أيضا في كل من التعليم المتوسط والتعليم الثانوي وقد يصل الفارق الى 34٪ لصالح التعليم العبري، كما هو الحال في مدينة الرملة، و31٪ في مدينة اللد. وعلى الرغم من أن المدارس الكنسيّة الخاصة توفر بديلاً للتعليم الرسمي في هذه المدن، إلاّ أن نسبة مستحقي شهادات الثانوية العامة (البجروت) والدراسات العليا في هذه المدن ما زالت متدنيّة، مقارنة بمستوى التعليم العام للمجتمع الفلسطيني.
لا يختلف الأمر في مجال العمل ومستوى المعيشة عمَا هو عليه في المجال التعليمي، فعلى الرغم من أن هذه المدن توفّر أماكن عمل، وينخرط الفلسطينيون فيها بنسبة عالية، نسبياً، وخاصة النساء منهم، إلاّ أن هذه النسبة لا تنعكس على مستوى المعيشة والدخل الشهري، كون نسبة عالية من المنخرطين في سوق العمل يعملون في فروع اقتصادية غير مهنية وبأجور منخفضة. ويتجلى هذا الأمر في الفجوات في معدل الأجور بين الفلسطينيين والإسرائيليين، التي قد تصل إلى ما بين 7-26٪ لصالح الإسرائيليين بين الرجال، وبين 9-28٪ لصالح الاسرائيليات بين النساء.
يختلف الوضع، نوعاً ما، في مدينة حيفا التي تتركز فيها نسبة ملموسة من الطبقة الوسطى الفلسطينية الناشئة وتتوفر فيها مساحات ثقافية فلسطينية مستقلة. يعود ذلك إلى عدة أسباب، أهمها: (أ) كُبرُ مدينة حيفا، مقارنة باللد والرملة وعكا، وقدرتها على توفير أماكن عمل للفلسطينيين؛ (ب) قربها من منطقة الجليل التي تضم التجمع الفلسطيني الأكبر في شمال البلاد، مقارنة بمدن يافا واللد والرملة والتي عملت السلطات الإسرائيلية في النكبة على محو الفضاء العربي المحيط بها؛ (ج) وجود جامعة تستقطب الطلاّب والطالبات الفلسطينيين، ومنهم من ينشط، خلال سنوات تعليمه الجامعي، سياسياً واجتماعياً وثقافياً في المدينة، وقد يختار البقاء للسكن في المدينة بعد تحصيله الجامعي؛ (د) تركيز نسبي لجمعيات المجتمع المدني الفلسطيني في حيفا. يساهم كل هذا في تشكّل مجتمع فلسطينيين متعدد في المدينة وفي اتساع الطبقة الوسطى وبالتالي في خلق جيوب ثقافية فلسطينية مستقلة فيها.
المشاركة السياسيّة المحليّة
تختلف أنماط التمثيل في الانتخابات البلدية، لدى الفلسطينيين في المدن المختلطة، عن تلك في المدن والقرى العربية. فالقوائم العربية في المدن المختلطة تمتاز بتمثيل بارز للأحزاب القُطرية، وبتمثيل أقل بكثير للقوائم العائلية والطائفية، وبكونها أكثر مهنيّة وأكثر شفافيّة، وبشمولها تمثيلاً أوسع للنساء.
على الرغم من قلة تأثير ممثلي هذه القوائم في البلديات، بسبب عدم دخولهم في ائتلافات بلدية وبسبب التمييز العنصري تجاههم وتجاه جمهورهم، إلاّ أن نسبة التصويت العربية في الانتخابات البلدية، مشابهة للنسبة العامة للتصويت للبلديات في إسرائيل، ولكنه منخفض مقارنة مع مشاركة الفلسطينيين في المدن والقرى العربية. عموماً تتساوى نسبة التمثيل البلدي للفلسطينيين في المدن المختلطة، مع نسبتهم من سكان هذه المدن (عدا مدينة حيفا). فعلى سبيل المثال، في سنة 2021 انتُخب عضوان عربيان في بلدية الرملة، أي ما يوازي 12٪ من أعضاء البلدية، وأربعة ممثلين عرب في بلدية اللد (21٪)، وخمسة ممثلين عرب في بلدية عكا (29٪)، وثلاثة أعضاء عرب في بلدية حيفا (10٪)، ولم ينجح أي ممثل فلسطيني في انتخابات بلدية تل- ابيب- يافا. ويمكن أن نلاحظ أيضاً زيادة في تمثيل ائتلاف الحركة الإسلامية في بلديات المدن المختلطة، باستثناء مدينة حيفا.
سياسات التحديث المديني والاستيطان الكولونيالي
تميزت السياسات الإسرائيلية تجاه الأحياء العربية بتوجهين يحملان المنطق الاستيطاني الإحلالي نفسه، ولكنهما يختلفان من حيث أدوات تطبيقهما التي تتفاعل مع تغير السياسات الاقتصادية للدولة. فمن ناحية، أهملت مؤسسات الدولة وتهمل الأحياء العربية بشكل متعمد وممنهج، وتواصل سياسات حصر الفلسطينيين في غيتوهات، وهو ما أفقر سكانها الذين يعانون حتى اليوم من ضائقة سكنية واجتماعية واقتصادية. أما التوجه الأخر، الذي بدأ في ثمانينات القرن العشرين، فيستند الى منطق الليبرالية الجديدة الذي يدفع باتجاه خصخصة ملكية العقارات في هذه الأحياء. فقد عمدت بلديات، مثل في يافا وحيفا وعكا، إلى تبني مشاريع ترميم وتطوير في بعض من الأحياء العربية، بهدف عرضها للبيع في السوق الحرّة، الأمر الذي زاد من ثمن العقارات في هذه الأحياء، ودَفَع السكان الأصليين، الفقراء عموماً، لترك هذه الأحياء لمصلحة مواطنين يهود اغنياء. ودمجت البلديات المعنية بين سياسة الخصخصة وبين هدف استقطاب أبناء وبنات الطبقة الوسطى اليهودية، فقدمت سلسلة من الحوافز تضمنت تقديم خدمات في مجالات التربية والتعليم والرفاه الاجتماعي وغيرها بدلاً عن الدولة.
وقد تلاقت هذه السياسة مع توجه مجموعات تابعة لتيار
خاتمة
ليست صدفة ألاّ يشار إلى السكّان الفلسطينيين، بشكل منفصل، في الإحصائيات الرسميّة في "المدن المختلطة". ففي الأمر استمرار طبيعي لمحاولات الدولة العبرية محو تاريخ هذه المدن من خلال هدم حيّزها العربي وتهويده، وتهميش مجتمعه وتشويه نسيجه الاجتماعي من خلال إفقاره وتجهيله.