قادة الصهاينة في فلسطين يؤسّسون الهستدروت ("الاتحاد العام للعمال في أرض إسرائيل") في حيفا .
لم تعرف فلسطين، في عهد السيطرة العثمانية، أي تجربة على صعيد التنظيم النقابي، إذ إن قانون الجمعيات العثماني لسنة 1909 لم يكن يسمح للحرفيين والعمّال سوى بتشكيل جمعيات تعاونية ترعى مصالح أعضائها وتسعى إلى رفع مستوى وعيهم الثقافي.
في مطلع عشرينيات القرن العشرين، بدأ يظهر، مع توسع حجم الطبقة العاملة وزيادة تمركزها نسبياً، توجّه بين العمال العرب نحو التنظيم النقابي، وخصوصاً في قطاعات العمل الثابتة، كقطاع سكك الحديد، الذي كان يخضع مباشرة لسلطات الاحتلال البريطاني ويعمل فيه مئات من العمال العرب، الذين توفرت لهم فرصة التعرف إلى تجارب العمل النقابي عن طريق الاحتكاك بالعمال المصريين الذين استخدمهم البريطانيون للعمل على مد خط سكة الحديد بين حيفا
والقاهرة
، وبالعمال اليهود الذين كانوا قد خبروا العمل النقابي في البلدان الأوروبية التي قدموا منها، والذين انتظموا، بعد وصولهم إلى فلسطين، في إطار الهستدروت
("الاتحاد العام للعمال في
ومنذ أواخر سنة 1922، سعى عدد من العمال العرب العاملين في قطاع سكك الحديد إلى الانتظام في صفوف نقابة عمال سكك الحديد التابعة لـ"الهستدروت". وبعد مماطلة استمرت أكثر من عام، وافقت قيادة هذه النقابة على ضم هؤلاء العمّال إلى صفوفها. وفي مطلع سنة 1925، كانت نقابة عمّال سكك الحديد تضم نحو 400 من العمّال العرب الذين كانوا موزعين على محطات حيفا ويافا والقدس واللد . وعلى الرغم من أن هؤلاء العمّال كانوا يمثلون أغلبية أعضاء هذه النقابة، فإن قيادتها ظلت في أيدي العمّال اليهود، ما أثار حفيظة عمّالها العرب الذين قرروا، في ربيع العام نفسه، الانسحاب منها والسعي إلى إقامة تنظيم نقابي خاص بهم.
كانت محطة سكك الحديد في حيفا مركزاً رئيسياً للنشاط النقابي العربي في العشرينيات. وفي مطلع سنة 1923، استطاع عدد من العمّال العرب، بقيادة عبد الحميد حيمور ، الانتظام في إطار "اللجنة الأخوية لعمّال سكك حديد فلسطين "، وذلك بالاستقلال عن نقابة عمال سكك الحديد التابعة لـ"الهستدروت". وقد انحصر نشاط هذه اللجنة في تقديم العون إلى المرضى والمحتاجين من العمّال وتقديم المساعدات المادية إلى عائلاتهم في حالات الوفاة.
لم تمضِ سوى أشهر قليلة على قيام هذه اللجنة، حتى تقدم مؤسسوها إلى السلطات البريطانية بطلب تأسيس جمعية عمالية عربية مستقلة يكون مقرها الرئيسي في مدينة حيفا. وبعد مرور عام ونصف العام تقريباً، أجازت السلطات البريطانية هذا الطلب، وأُعلن رسمياً في 21 آذار/ مارس 1925 عن قيام "جمعية العمّال العربية الفلسطينية ". وقد تحوّلت هذه الجمعية إلى منظمة نقابية حقيقية بعد انضمام العمّال العرب، الذين انسحبوا من نقابة عمّال سكك الحديد التابعة لـ"الهستدروت"، إلى صفوفها.
وفضلاً عن "الهستدروت" وعن "جمعية العمّال العربية الفلسطينية"، اهتمت "الكتلة العمالية" التابعة لـ الحزب الشيوعي الفلسطيني ، اهتماماً كبيراً، بتنظيم العمّال العرب، وخصوصاً بعد حصول الحزب على اعتراف قيادة الأممية الشيوعية (الكومنترن) في شباط/ فبراير 1924 وسعيه إلى تعريب صفوفه. وقد شجع الحزب، في البدء، العمال العرب على الانضمام إلى النقابات التابعة لـ"الهستدروت"، ودعا إلى النضال من أجل قيام حركة نقابية أممية موحدة، لكن تصميم العمّال العرب على الانتظام بصورة مستقلة عن نقابات "الهستدروت" دفع الحزب إلى دعم "جمعية العمّال العربية الفلسطينية".
كذلك اهتمت بعض القوى السياسية التقليدية وأصحاب العمل بمسألة تنظيم العمّال العرب، وفي هذا السياق قام أحد كبار أصحاب العمل في مدينة نابلس ، في سنة 1923، بتشكيل "حزب العمّال العرب في نابلس "، نجح في استقطاب عدد من عمّال معامل الصابون وعمّال المشاغل الحرفية.
وفي مدينة يافا، نشطت، في سنة 1927، منظمة عمّالية باسم "جمعية العمّال المسيحيين في يافا " ضمت عدداً من العمّال والحرفيين والتجار. وبعد أشهر قليلة على حل هذه الجمعية، بادر "الحزب الحر الفلسطيني "، في مطلع سنة 1928، إلى تشكيل عدد من المنظمات النقابية، ولا سيما في قطاع البناء وفي قطاع التجارة، كانت تضم العمّال وأصحاب العمل جنباً إلى جنب. كما شهدت مدينتا الناصرة وحيفا نشاطاً نقابياً اتسم بطابعه الديني والطائفي، إذ انعقد في سنة 1928 في الناصرة مؤتمر للعمال المسيحيين ترأسه القس مرقص عبد المسيح ، وجرت، في الفترة نفسها، محاولة لتنظيم العمال العرب في حيفا في إطار منظمة دينية إسلامية تزعمها شخص ينتمي إلى عائلة الحاج إبراهيم.
عقب اندلاع
بيد أن النشاط النقابي الأبرز، الذي شهده النصف الأول من الثلاثينيات، تمثّل في النشاط الذي قام به، بين العمّال العرب في مدينتَي القدس ويافا، فخري النشاشيبي الموظف في بلدية القدس وأحد أقرباء زعيم "المعارضة" راغب النشاشيبي . ففي آب/ أغسطس 1934، استغل فخري النشاشيبي ضعف حضور "جمعية العمّال العربية الفلسطينية" في القدس وقام بجمع بعض أنصاره وأسس معهم "جمعية العمّال العرب في القدس "، ونصّب نفسه رئيساً لها. وفي أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، نجح النشاشيبي في تأسيس جمعية عمّالية في يافا باسم "جمعية العمّال العرب في يافا ". بيد أن هذه الجمعية الثانية، تمكنت من الانعتاق سريعاً من سيطرته بعد أن انضم إليها عدد من العمال الشيوعيين وسارعت إلى تنظيم العديد من الحاميات العمّالية العربية التي راحت تتصدّى لسياسة "تهويد العمل" الصهيونية.
فضلاً عن هاتين الجمعيتين، شهدت تلك الفترة ظهور تنظيمات نقابية صغيرة، مثل "جمعية عمّال النقل في اللواء الجنوبي " التي تشكّلت بمبادرة من الشيوعيين، و"نقابة سائقي وأصحاب السيارات " التي تشكلت بمبادرة من المحامي حسن صدقي الدجاني .
انحسر النشاط العمّالي في فلسطين عقب اندلاع الإضراب العام والثورة المسلحة في سنة 1936، ودخلت الحركة العمّالية النقابية في مرحلة ركود. وساعد على إضعاف هذه الحركة اغتيال ميشيل متري ، رئيس "جمعية العمّال العرب في يافا"، في كانون الأول 1936، لم يكتشف التحقيق مرتكبها، ثم قيام السلطات البريطانية، في سنة 1937، باعتقال عدد من قادة "جمعية العمّال العربية الفلسطينية".
مع نشوب الحرب العالمية الثانية ، وتحوّل فلسطين إلى محتشد للجيوش البريطانية وقاعدة لتموينها في المنطقة، سارعت السلطات البريطانية إلى إقامة العديد من المعسكرات والمشاغل والورش، وإلى تشجيع نشوء صناعات محلية جديدة لتلبية احتياجات قواتها، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة في أعداد العمّال العرب، وإلى انتعاش حركتهم النقابية من جديد. فاستعادت "جمعية العمّال العربية الفلسطينية" في حيفا برئاسة سامي طه حمران ، منذ مطلع سنة 1942، نشاطاتها، ثم قامت، في السنة التالية، بإنشاء فروع جديدة لها في يافا والقدس وبيت لحم وعكا والرملة وطولكرم ، وبذلت جهوداً كبيرة لتنظيم العمّال العرب في المعسكرات البريطانية. كما قامت بإنشاء تعاونيات عديدة، وأسست صندوق توفير للعمّال، وبدأت تخطط لتنفيذ مشروع إسكان وصندوق لمساعدة المرضى. وبينما قدّرت قيادة الجمعية عدد الأعضاء المنتسبين إليها، في تلك الفترة، بنحو ثلاثين ألف عامل، قدّرت دائرة العمل الحكومية عدد منتسبيها بخمسة آلاف عضو.
وفي ظروف انتعاش الحركة العمّالية في البلاد، بادر عدد من المثقفين والعمّال الشيوعيين إلى تشكيل منظمة نقابية عربية جديدة في مدينة حيفا باسم "اتحاد نقابات وجمعيات العمّال العرب
"، استطاعت، بعد فترة قصيرة من تأسيسها، استقطاب المئات من العاملين العرب في
وبينما احتجت "جمعية العمّال العربية الفلسطينية" على سياسة التمييز في الأجور بين العرب واليهود التي تنتهجها حكومة الانتداب، وطالبت دائرة شؤون العمل بتعيين موظفين عرب في دوائرها، كما دعت الحكومة إلى الموافقة على طلب إصدار صحيفة تنطق باسم العمال العرب، ركّزت قيادة "اتحاد نقابات وجمعيات العمّال العرب" جهودها على ضمان اعتراف الحكومة رسمياً بالنقابات العربية، وتمثيل العمّال العرب في اللجان الرسمية التي تبحث قضاياهم، والسماح لهم بإصدار صحيفة، كما دعت إلى تشكيل مجلس عمّالي عربي يوحد جميع المنظمات النقابية في البلاد ويناضل من أجل رفع الحد الأدنى للأجور، ومساواة الأجور عند تساوي الكفاءات دون تمييز بين عربي ويهودي، وسن نظام للتأمينات الاجتماعية. بيد أن إصرار قيادة "جمعية العمّال العربية الفلسطينية" على عدم الاعتراف بـ"اتحاد نقابات وجمعيات العمّال العرب" أفشل جميع محاولات تشكيل مجلس عمالي عربي؛ وفي حين فشلت قيادة الجمعية في إصدار صحيفة عمّالية، نجحت قيادة الاتحاد، في أيار/ مايو 1944، في الحصول على ترخيص رسمي بإصدار جريدة أسبوعية باسم "الاتحاد".
في سنة 1945، وبعد أن كان الشيوعيون العرب قد انتظموا في إطار "عصبة التحرر الوطني في فلسطين
"، نشأ خلاف بين قيادة "جمعية العمّال العربية الفلسطينية" ممثلة بسامي طه حمران، وبين الشيوعيين وأنصارهم الذين حافظوا على عضويتهم في فروعها ولم ينضموا إلى "اتحاد نقابات وجمعيات العمّال العرب". وقد دار ذلك الخلاف حول مطالبة الشيوعيين باللجوء إلى الانتخابات وبأن يكون التمثيل أكثر ديمقراطية في هيئات الجمعية القيادية، وتفجّر لدى اختيار مندوبَي الجمعية إلى مؤتمر عالمي للنقابات العمّالية مزمع عقده على مرحلتين في
لم تتأثر "جمعية العمّال العربية الفلسطينية" طويلاً بالانشقاق الذي حصل داخل صفوفها، إذ شهدت في سنة 1946 تزايداً ملحوظاً في حجمها العددي. وساعدها على ذلك اعتراف قيادة الحركة الوطنية العربية بها، بصفتها الممثل الوحيد للعمّال العرب في فلسطين، وتعزز علاقاتها مع "
أما "مؤتمر العمّال العرب في فلسطين"، فقد عقد مؤتمره الأول في نيسان/ أبريل 1946 في مدينة القدس بمشاركة 55 مندوباً يمثلون 25 فرعاً، كان في عدادهم عاملتان لأول مرة في تاريخ الحركة العمّالية العربية في فلسطين، انتخبت إحداهما في لجنته المركزية. وقد تعرض "مؤتمر العمّال العرب في فلسطين"، في إثر انعقاد مؤتمره الأول هذا، إلى حملة شديدة شنتها ضده القيادة التقليدية للحركة الوطنية العربية ممثلة بـجمال الحسيني ، وذلك بعد أن تبنّى مشروعاً سياسياً مستقلاً عن المشاريع التي كانت تطرحها هذه القيادة التقليدية، رفض فيه الخلط بين السكان اليهود في فلسطين والقيادة الصهيونية المسيطرة عليهم ودعا إلى إقامة حكم وطني ديمقراطي يضمن حقوق السكان اليهود في فلسطين، كما طالب بإجراء انتخابات شعبية ديمقراطية وبتمثيل الطبقة العاملة في قيادة الحركة الوطنية. وفي أيلول 1947، انعقد المؤتمر الثاني لـ"مؤتمر العمّال العرب في فلسطين" تحت شعار "المطالبة بالجلاء والاستقلال التام دون قيد أو شرط"، وذلك بمشاركة 94 مندوباً يمثلون 30 فرعاً، فضلاً عن عمّال المعسكرات ودائرة الأشغال العامة وشركات البترول. وفي ختام أعماله، شجب المؤتمر الجريمة التي أودت بحياة الزعيم النقابي سامي طه حمران.
كان المؤتمر الثاني لـ"مؤتمر العمّال العرب في فلسطين" آخر تظاهرة عمّالية نقابية عربية تشهدها فلسطين قبل وقوع النكبة التي أدت إلى تمزيق الكيان الفلسطيني وتشتت الشعب الفلسطيني وتشرده.