جدول الأحداث الكلي

جدول الأحداث الكلي

Highlight
الاتحاد السوفييتي وقضية فلسطين، 1950-1991
بين الأيديولوجيا والواقعية

كان الاتحاد السوفييتي منخرطاً إلى حد كبير في قضية فلسطين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى انهياره سنة 1991. وعلى مدار هذه السنوات الأربعين، واجه الاتحاد السوفييتي باستمرار معضلة تحقيق التوازن بين راديكاليته الأيديولوجية التقدمية والمناهضة للصهيونية من جهة، ورغبته في تحقيق الاستقرار الإقليمي الذي تطلّب الاعتراف بإسرائيل والحاجة إلى تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي من جهة أُخرى. وكان لدى موسكو هدف آخر هو مواجهة نفوذ الولايات المتحدة وهيمنتها في المنطقة وفي الوقت نفسه دفعها إلى العمل المشترك نحو إيجاد تسوية سلمية في الشرق الأوسط.

الاعتراف بدولة إسرائيل الوليدة ومناهضة الصهيونية

يمكن إرجاع جذور هذه المعضلات السوفييتية إلى الفترة التي سبقت سنة 1950. كان الاتحاد السوفييتي على الدوام معارضاً للصهيونية من منطلق أيديولوجي. وفي سنة 1946، قبل عامين من إنشاء دولة إسرائيل، أكد كتاب سوفييتي عن قضية فلسطين الموقف الماركسي اللينيني الذي يرى في الصهيونية "دعاية للإقصاء العرقي والتفوق العنصري والاستبداد واستخدام الإرهاب، جنباً إلى جنب مع الديماغوجية الاجتماعية." لكن هذا العداء للصهيونية لم يمنع موسكو من أن تكون أول دولة تعلن الاعتراف القانوني بإسرائيل في 17 أيار/ مايو 1948، بعد ثلاثة أيام فقط من إعلان قيام هذه الدولة. ولم يكن الدعم الذي قدمته الدولة السوفييتية لإسرائيل خطابياً فحسب، بل سمحت أيضاً لتشيكوسلوفاكيا ببيع الأسلحة للقوات الإسرائيلية التي ثبت أنها كانت حاسمة في نجاحها في الدفاع عن الدولة الجديدة.

وفي أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، كان ستالين ينظر بوضوح إلى المجتمع اليهودي في فلسطين (الييشوف) على أنه أكثر تقدمية نسبياً من الدول العربية الخاضعة للحكم البريطاني، وكان للدعم السوفييتي لإنشاء دولة إسرائيل قيمة مضافة تتمثل في تقويض المخططات الإمبريالية البريطانية. كما كان للتدخل في الشرق الأوسط في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة دور في تأكيد مكانة الاتحاد السوفييتي كقوة عالمية عظمى لم يعد من الممكن تجاهلها دولياً. لكن على الرغم من هذا الموقف المؤيد لإسرائيل، فإن الاتحاد السوفييتي لم يدعم إسرائيل بتاتاً كدولة صهيونية. كان خط دعمه الرسمي يقوم على بناء إسرائيل تقدمية من خلال التعاون بين اليهود والعرب الثوريين المناهضين للصهيونية.

بداية التحول بعيداً عن إسرائيل وفي اتجاه الدول العربية الراديكالية

استمر دعم ستالين لإسرائيل فترة وجيزة. فعندما عُينت غولدا مئير أول سفيرة إسرائيلية لدى الاتحاد السوفييتي في 2 أيلول/ سبتمبر 1948، تجمع بعد شهر من ذلك أكثر من 50 ألف يهودي في موسكو للمشاركة في احتفالات رأس السنة العبرية، الأمر الذي أثار شكوك ستالين وهواجسه ومخاوفه حيال اليهود ونفوذهم، وأدى إلى تقليص حقوق اليهود وشن حملة شعواء ضدهم شملت عملية تطهير في صفوف اليهود المثقفين السوفيات وغيرهم من الشخصيات القيادية. كما تدهور الموقف السوفييتي تجاه إسرائيل بعد أن قررت هذه الأخيرة دعم قرار الأمم المتحدة الصادر في27  حزيران/ يونيو 1950 الذي أدان غزو كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية، وهو الموقف الذي قوَّض سياسة التوازن المدروس التي كانت إسرائيل تتبعها في السابق بين الغرب والشرق. وفي موسكو، صار يُنظَر إلى إسرائيل على نحو متزايد باعتبارها من وكلاء الولايات المتحدة، وازداد الموقف السوفييتي عدائية تجاهها، مما أدى إلى تجميد قصير الأمد للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين من شباط/ فبراير إلى تموز/ يوليو 1953.

بعد وفاة ستالين، انعكس هذا العداء لإسرائيل في تقديم دعم ذي دلالة للعالم العربي. ففي سنة 1955، وافق نيكيتا خروتشوف، السكرتير الأول الجديد للحزب الشيوعي السوفييتي، على أن تزود تشيكوسلوفاكيا مصر وسوريا بالأسلحة، وهما دولتان أطاحت كل منهما بحكومة مؤيدة للغرب وأقامت نظاماً قومياً عربياً راديكالياً ومعادياً للصهيونية. وقد اعترف الاتحاد السوفييتي بنظاميهما، على أساس ما أطلق عليه منظروه الأيديولوجيون اسم "طريق التطور اللارأسمالي"، باعتبارهما نظامين تقدميين من وجهة نظر موضوعية ويتجهان نحو التحول الاشتراكي على الرغم من معاداة مصر الناصرية الصريحة للشيوعية في كثير من الأحيان.

وأثمر رهان خروتشوف على الدور الراديكالي والمناهض للإمبريالية لهاتين الدولتين، وتعززت هيبة الاتحاد السوفييتي بعد أزمة السويس سنة 1956 عندما أعلن دعمه لمصر وأطلق إنذاراً في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر من ذلك العام بوجوب وقف الأعمال العسكرية، واضعاً "علامة استفهام حول وجود إسرائيل ذاته." وقد عُدَّ هذا الإنذار على نطاق واسع مساهمة سوفييتية في إذلال المملكة المتحدة وفرنسا وإسرائيل. وبحلول أوائل ستينيات القرن العشرين، صارت الاتجاهات الاقتصادية لمصر وسورية تتحرك في اتجاه اشتراكي مع تطبيق إصلاحات زراعية جذرية وتأميم الصناعات الرئيسية، بما في ذلك القطاع المصرفي. أمّا الثورة العراقية التي كانت مجموعة من "الضباط الأحرار" قد قامت بها في 14 تموز/ يوليو 1958، وأطاحت فيها بالنظام الملكي الموالي لبريطانيا، فقد أدت إلى تقوية الموقف العربي المناهض للصهيونية.

من الإصلاح الجذري إلى الحرب

في هذا السياق السياسي، نظر الاتحاد السوفييتي إلى معاداة الصهيونية التي تبنتها الدول العربية الراديكالية بإيجابية على أنها عامل في تسريع الراديكالية الاجتماعية والسياسية على المستوى المحلي. لكن الاتحاد السوفييتي أدرك أيضاً أن ترجمة هذا الخطاب المعادي للصهيونية إلى عمل عسكري قد يكون سابقاً لأوانه وقد يهدد "التعايش السلمي" بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وتحقق أسوأ السيناريوهات جراء الهزيمة الشاملة التي لحقت بالجيوش العربية في الحرب العربية الإسرائيلية في الفترة من 5 إلى 10 حزيران/ يونيو 1967. وعلى الرغم من الجدل الدائر حول ما إذا كان الاتحاد السوفييتي قد دعم بشكل مباشر التصعيد العسكري العربي قبل الحرب، فمن المرجح أن السوفيات أساءوا تقدير الموقف، إذ ساهم الاتحاد السوفييتي في زيادة التوترات بتحذير إسرائيل في 21 نيسان/ أبريل 1967 من أنها "تلعب بالنار" في إثر غاراتها الجوية على القوات السورية. وبعد أربعة أيام، في 25 نيسان، قالت مصادر الاتحاد السوفييتي إن إسرائيل تحشد قواتها على الحدود السورية، وهو ما لم يكن صحيحاً على أرض الواقع. وفي 23 أيار/ مايو، قبيل اندلاع الحرب، حذرت وكالة تاس السوفييتية للأنباء إسرائيل من أنها "ستتحمل المسؤولية الكاملة عن الأعمال العدوانية التي تنتهجها." لكن تصريحات موسكو وأفعالها كانت تنطوي على تقديم دعم سياسي للدول العربية، وليس على التحريض على حرب تعتقد أن هذه الدول غير مستعدة لخوضها.

شكلت حرب 1967 هزيمة كبيرة للاتحاد السوفييتي وانتصاراً موازياً للولايات المتحدة وللدعم الذي قدمته لإسرائيل. وفي أعقاب الحرب مباشرة، قطع الاتحاد السوفييتي العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، الأمر الذي لم يؤد سوى إلى إضعاف قدرته على فتح قناة اتصال معها والتأثير عليها. لكن مع انتصار إسرائيل، لم يكن أمام الدول القومية العربية من بديل سوى الاعتماد بشكل أكبر على الاتحاد السوفييتي، وخصوصاً لإعادة بناء جيوشها والسعي إلى إيجاد السبل لاستعادة الأراضي التي احتلتها إسرائيل. وخلال حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل في الفترة 1969 – 1971، تدخل الاتحاد السوفييتي عسكرياً لأول مرة، وتولت القوات السوفييتية توجيه وحدات الدفاع الجوي ضد الهجمات الإسرائيلية في العمق المصري.

لقد أدت إعادة بناء السوفيات للجيوش العربية إلى تشجيع مصر وسورية على المبادرة إلى خوض حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وتحقيق النصر السياسي الكبير لمصلحة الدول العربية. فقد ظهر فيها الأداء العسكري العربي أكثر فاعلية، وهو ما أدى إلى تحسن كبير في الروح المعنوية، كما تعززت هيبة السوفيات بفضل التأثيرات السياسية لإعلانهم عن تحركاتهم العسكرية لدعم الجيش المصري الثالث المحاصر في 23 تشرين الأول.

لكن النتيجة النهائية للحرب كانت أقرب إلى التعادل منها إلى النصر. وما أن توقف القتال حتى طُرح السؤال بشأن سبل التوصل إلى تسوية سياسية للصراع. ومن منظور الاتحاد السوفييتي، كان الخطر يتمثل في أن يستنتج العرب أن السبيل الوحيد إلى السلام يمر عبر واشنطن لا عبر موسكو، نظراً إلى أن واشنطن وحدها هي التي تتمتع بنفوذ مباشر على إسرائيل. وكان الالتزام الأساسي الذي انتظرته موسكو من حلفائها هو تجنب التسويات الثنائية مع إسرائيل من خلال القنوات الأميركية الحصرية، والالتزام بالعمل مع الاتحاد السوفييتي من أجل التوصل إلى تسوية شاملة. إلاّ إن الرئيس المصري أنور السادات أظهر تأييده الضمني لتفرد الدبلوماسية الأميركية من خلال التوقيع على اتفاقية سيناء الثانية في 4 أيلول/ سبتمبر 1975. وتأكد توجهه الحاسم نحو تقويض الدبلوماسية الأميركية السوفييتية المشتركة، ومن ثم التحول من حليف للسوفيات إلى حليف للولايات المتحدة، بصورة واضحة في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر1977 عندما قام برحلته إلى القدس.

وكانت أوساط القيادة السوفييتية نفسها مدركة أنها تفتقر إلى القوة للعمل منفردة للتوصل إلى تسوية سلمية وأنها بحاجة إلى العمل مع الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف، وفي الوقت نفسه العمل بوتيرة حثيثة ضد الولايات المتحدة إذا سعت واشنطن إلى استبعاد السوفيات من العملية.

نحو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية

أدى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964 في القدس، وتحت رعاية مصرية إلى ظهور طرف جديد فاعل دفاعاً عن القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من مناشدات زعيمها أحمد الشقيري، رفض الاتحاد السوفييتي تلبية طلباته بتوفير الدعم السياسي والعسكري لها وهو ما كانت وراءه عدة عوامل. كان الاتحاد السوفييتي طرفاً محافظاً في سياسته الخارجية ويفضل التعامل مع الدول على حساب الجهات الفاعلة غير الدولانية، والتعامل مباشرة مع مصر بدلاً من جهة تابعة لها. كما لم توافق موسكو على موقف الرفض الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية التي سعت إلى هزيمة إسرائيل وإزالتها من خلال الوسائل العسكرية. ورأى صناع السياسات السوفيات أن منظمة التحرير تتعامل مع الأمور من منظار "اليسارية الطفولية" وتفتقر إلى الواقعية. عدا عن ذلك، كانت الإشكالية الأكبر أن المنظمة حظيت بدعم كبير من جانب الصين في عهد ماو تسي تونغ، العدو اللدود حينها للاتحاد السوفييتي 

لقد تغير هذا  التقييم بعد حرب 1967 عندما سيطرت الفصائل الفلسطينية المسلحة على منظمة التحرير، وتولت حركة "فتح" دوراً قيادياً فيها. وساهمت شعبية المقاومة الفلسطينية في العالم العربي الأوسع في تليين الموقف السوفييتي تجاه منظمة التحرير. وفي أواخر حزيران/ يونيو 1968، اصطحب الرئيس جمال عبد الناصر ياسر عرفات خلال زيارة قام بها إلى موسكو، وقدّمه إلى الزعماء السوفيات. وكانت أول زيارة رسمية لزعيم المنظمة ياسر عرفات للعاصمة السوفييتية في الفترة من 9 إلى 20 شباط/ فبراير 1970، وذلك بدعوة من لجنة التضامن الأفرو-آسيوي. ومع ذلك، وخلف المجاملات الدبلوماسية، ظل الاتحاد السوفييتي يبدي العديد من التحفظات حيال منظمة التحرير وأهمها افتقارها الملحوظ إلى الاعتدال السياسي، ورفضها النظر في تغيير موقفها تجاه إسرائيل، واعتمادها الحصري على الكفاح المسلح. كما تكونت لدى موسكو نظرة سلبية تجاه الطبيعة غير المتجانسة للمنظمة، بما تضم من فصائل متعددة متنافسة. في ذلك الوقت، تعامل الدبلوماسيون السوفيات سلباً مع الفصائل الماركسية، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين، وعملوا على تشجيع حركة "فتح" التي تبنت خطاً أكثر اعتدالاً على المستوى السياسي.
لم يتغير الموقف السوفييتي تجاه منظمة التحرير الفلسطينية إلاّ بعد حرب 1973. فبالتوازي مع موقف الدول العربية المجتمعة في قمة الرباط في تشرين الأول/ أكتوبر 1974، اعترفت موسكو رسمياً بمنظمة التحرير بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبهذا تأكدت مكانة المنظمة الرسمية كحليف للسوفيات. كما صار لها دور رئيسي تؤديه لتحقيق الطموحات السياسية للاتحاد السوفييتي المتمثلة في إنجاز اتفاقية سلام عربية إسرائيلية. وفي أجواء الانفراج التي سادت العلاقات  بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، توقعت القيادة السوفييتية أن تعمل واشنطن مع موسكو على إيجاد حل للصراع العربي -الإسرائيلي برعاية القوتين العظميين. وكانت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون قد واقفت، في أعقاب حرب 1973، على فكرة عقد مؤتمر سلام برعاية مشتركة في جنيف. كانت موسكو ترى أن هناك مصالح متبادلة بين القوتين العظميين على أساس أن الاتحاد السوفييتي يتمتع بالقدرة على الضغط على حلفائه العرب في مقابل الضغط الأميركي على إسرائيل. أمّا الرهان الرئيسي الذي راهنت عليه موسكو فهو أن تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل في مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير.

لكن عقبات عديدة حالت دون نجاح هذا السيناريو، أبرزها أن وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر لم يكن ينوي السماح للاتحاد السوفييتي بلعب دور دبلوماسي جوهري، وسعى بدلاً من ذلك لإبرام اتفاقيات ثنائية منفردة بوساطة أميركية حصرية بين إسرائيل ودول المواجهة العربية. ولفترة وجيزة في سنة 1977، في أثناء إدارة جيمي كارتر، تجدد التعاون الأميركي السوفييتي وصدر بيان مشترك في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 1977 حدد شروط استئناف جلسات مؤتمر جنيف. لكن هذا التعاون ما لبثت أن قوضته زيارة أنور السادات إلى القدس في الشهر التالي (19 – 21 تشرين الثاني/ نوفمبر). ويرجع هذا جزئياً على الأقل إلى مخاوف السادات من أن لا تراعي عملية التسوية المشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مصلحة مصر، ومن أن تقوض فرص إبرام تسوية مصرية إسرائيلية منفردة. لكن ما ساهم في خيبة أمل الدبلوماسيين السوفيات أن منظمة التحرير استمرت في رفضها تغيير موقفها بشأن الاعتراف بإسرائيل، على الرغم من الضغوط السوفييتية الكبيرة عليها، وهو ما عطّل فرصة موسكو في أن تلعب بشكل استباقي ورقتها الأساسية بالحصول على التزام من المنظمة بالاعتراف بإسرائيل في مقابل اعتراف إسرائيل بالمنظمة، وهو ما كان يمثل محور استراتيجيتها الدبلوماسية.

العقد الأخير قبل الانهيار

منذ أوائل الثمانينيات، تحوّلت العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي من الانفراج إلى المواجهة، وخصوصاً بعد قيام هذا الأخير بغزو أفغانستان. وبما أنه لم يكن من المتوقع أن يعمل البلدان على نهج مشترك في الشرق الأوسط، انصب تركيز السوفيات على تعزيز موقف حلفائهم العرب المتبقين المناهض للولايات المتحدة والصهيونية. ومع تحوّل مصر نحو الولايات المتحدة، صارت سورية حليف السوفيات الرئيسي، وأعطيت الأولوية لتعزيز القدرة السورية على المواجهة. وفي هذا السياق، تراجعت الأهمية النسبية لمنظمة التحرير الفلسطينية وازداد تعاطف السوفيات مع الفصائل الأكثر راديكالية المؤيدة لسورية داخل المنظمة، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، على حساب حركة "فتح"، التي كان يُنظر إليها على أنها تتجه أكثر نحو "اليمين" مع التخوف من احتمال دخولها في تسوية أو توافق مع الولايات المتحدة. وهذا التراجع في الدعم السوفييتي لمنظمة التحرير يمكننا تلمسه من خلال المقارنة بين الانتقادات السوفييتية الموجهة لسورية بسبب هجماتها على التحالف الفلسطيني - اللبناني اليساري في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، التي تضمنتها رسالة الأمين العام للحزب الشيوعي ليونيد بريجنيف إلى الرئيس السوري حافظ الأسد في11 تموز/ يوليو 1976، وبين الدعم الفاتر الذي لقيه ياسر عرفات من موسكو، بعد سنوات، عندما واجه تمرد "المنشقين" عن حركة "فتح" بدعم من سورية في سنة 1983. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية، التي فقدت قاعدتها الرئيسية في لبنان بعد الغزو الإسرائيلي في صيف سنة 1982، وبدأت بمغازلة الأميركيين، قد أصبحت أقل أهمية من سورية بصفتها فاعلاً استراتيجياً.

لقد تغير كل هذا في النصف الثاني من الثمانينيات. ومع تولي ميخائيل غورباتشوف منصب الأمين العام في آذار/ مارس 1985، وتبنيه سياسة "البيروستريكا" و"التفكير السياسي الجديد"، تحلت الدبلوماسية السوفييتية بروح تعاونية جديدة مع التوجه للعمل مرة أُخرى مع الولايات المتحدة، وليس ضدها، في السعي لإيجاد حل للصراع العربي- الإسرائيلي. وهذه المرة أثمرت الجهود التي بذلها الاتحاد السوفييتي على امتداد سنوات طويلة لتعديل الموقف السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. ففي 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، في إثر انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، صدر إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي تضمن اعترافاً ضمنياً بدولة إسرائيل. وفي أعقاب حرب الخليج الأولى في سنة 1991، حقق الاتحاد السوفييتي، الذي كان على وشك التفكك، أخيراً طموحه الذي طال انتظاره بأن يكون راعياً مشاركاً لمؤتمر دولي لإحلال السلام بين إسرائيل وجيرانها. وانعقد هذا المؤتمر الدولي في مدريد في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 1991. وفي ذلك الوقت، كانت هيبة الاتحاد السوفييتي قد بهتت ولم تمضِ سوى بضعة أشهر حتى أُعلن تفككه في كانون الأول/ ديسمبر من تلك السنة. ولم يكن هناك شك في أن المؤتمر كان في المقام الأول مبادرة أميركية وإنجازاً أميركياً. مع انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة الوحيدة في المنطقة ولم تعد تخشى أي معارضة تبديها موسكو في تأكيد دورها الحصري في حل القضية الفلسطينية.

جدول الأحداث الكلي
E.g., 2025/03/04
E.g., 2025/03/04

يرجى محاولة عملية بحث جديدة. لا يوجد أي نتائج تتعلق بمعايير البحث الحالية. هناك العديد من الأحداث في التاريخ الفلسطيني والجدول الزمني يعمل جاهدا لالتقاط هذا التاريخ.