على خلاف الشعر الفلسطيني، الذي صعد في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، ممثلاً بقصائد مطلق عبد الخالق وأبي سلمى(عبد الكريم الكرمي ) وإبراهيم طوقان ، لم تظهر الرواية، في شكلها الحديث، إلاّ مع رواية جبرا إبراهيم جبرا "صراخ في ليل طويل"، التي كتبها في القدس سنة 1946. أعطى جبرا الشاب عملاً طليعياً متميزاً، بالمعايير الفنيّة جميعها، لا يزال يحتفظ بتميزه إلى اليوم.
كان بعض الكتاب الوطنيين حاول، بعد
بيد أن ما يلفت النظر، في الفترة الزمنية التي سبقت عمل جبرا إبراهيم جبرا التأسيسي، ماثل في محاولة قام بها نجيب نصّار في كتابه "مفلح الغساني"، احتضنت ما يشبه سيرة ذاتية محدّدة الزمن، سرد فيها المؤلف ما عاناه من العثمانيين. وهناك رواية إسحق موسى الحسيني
(1904- 1991) "مذكرات دجاجة" (1943) التي قدّم لها طه حسين
وظهرت في مصر
، أكثر من مرة. ذهب نجيب نصّار إلى روايته مدفوعاً بما قرأ من روايات إنكليزية، بلغة
إلى جانب الترجمة والقصة القصيرة والنقد التشكيلي، واظب جبرا إبراهيم جبرا (1920- 1994) على الكتابة الروائية في منفاه العراقي جاعلاً من القدس - أجمل مدن الدنيا كما كان يقول - محوراً لأعماله، بدءاً من روايته "صيادون في شارع ضيق"، إلى عمله الأكثر طموحاً "البحث عن وليد مسعود"، مروراً بإنجازه الروائي الأكبر "السفينة"، وهي إحدى الروايات الأكثر تكاملاً في تاريخ الرواية العربية الحديث. أرست هذه الروايات هويته الفلسطينية- الروائية بوضوح لا مزيد عليه، ما جعل أعماله اللاحقة إضافات محدودة القيمة بما في ذلك عمله المشترك مع عبد الرحمن منيف "عالم بلا خرائط".
وإذا كان جبرا قد قيد نفسه إلى فلسطيني فائق الصفات، ينتظر انتصاراً أكيداً، وإلى منظور رومانسي قوامه فرد متفوّق لا يشبه غيره، فإن غسان كنفاني (1936- 1972)، الذي مارس بدوره المقالة والمسرحية والقصة القصيرة، ذهب إلى طريق مغاير. أراد كنفاني رواية "واقعية مئة في المئة"، كما كان يقول، فوصف مآسي الخروج وعثار اللاجئين في مخيماتهم، ومسارهم السائر، بالضرورة، من "الكمون إلى اليقظة"، ولاحق شكلاً روائياً متغيراً يرصد الحالة الفلسطينية كما هي قائمة، وكما يجب أن تكون. ولعل قلق الشكل، الذي لازم تجربته القصيرة، كان وراء رواياته التي لم تكتمل، مثل رواية "العاشق"، و"الأعمى والأطرش"، و"برقوق نيسان". ومهما تكن قيمة إنجاز الروائي، تظل روايته "رجال في الشمس" (1963) هي العمل الأكمل، والوحيد، الذي قبض على عمق المأساة الفلسطينية، متخذاً من مقولة "العار" مجازاً، قرأ به أحوال الفلسطينيين الذين رضوا بالرحيل عن وطنهم، ومهما تكن أحوال "الرحيل" وأسبابه، السؤال الذي عالجه لاحقاً في رواية جريئة المقاربة هي: "عائد إلى حيفا ".
جسد جبرا روائياً، لاجئاً فلسطينياً يضمن تفوّقه الروحي عودة أكيدة إلى الوطن السليب وبحث كنفاني عن ضمان عملي، قوامه الفعل والإرادة والوعي الصحيح، مثل حال "أم سعد" الفقيرة الصامدة، التي كرّس لها رواية تحمل اسمها، البعيدة عن المرأة الخانعة التي وصفها في روايته "ما تبقى لكم". أما إميل حبيبي
، المَعْلم الثالث، فوصل إلى الرواية عن طريق الصدفة، إن صح القول، مستفيداً من عمله الصحفي، الذي لازم "التزامه الحزبي" كعضو في
أنتج الكفاح المسلح الفلسطيني رواية تحتفي به وتعد بنصر قريب، بدءاً من غسان كنفاني وصولاً إلى جيل لاحق تمثّل بـيحيى يخلف
، في رواياته المتلاحقة. غير أن المنظور المتفائل، القريب من الشعارات السلطوية، لم يعمر طويلاً، بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، فظهر منظور روائي نقدي متشائم، تجلى في عملين لـسحر خليفة
هما "باب الساحة"، التي تأملت
أفضى الخروج من بيروت، كما اتفاقية أوسلو
، إلى "تحرر الرواية الفلسطينية"، فجاءت سامية عيسى
بنقد أقرب إلى الهجاء في عملَيها "حليب التين" و"خلسة في
وإذا كان الصعود الوطني الفلسطيني، بعد سنة 1965، حرّض على الكتابة الروائية، فإن الإحباط الذي وقع على الفلسطينيين، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، اختصر تلك الرواية في أعمال قليلة. وما أن استقروا في وضع يتوزّع على اليأس والأمل حتى ولدت أصوات روائية جديدة، تقرأ الحاضر بلا "شعارات"، وتلتفت إلى الوراء باحثة عن هوية وطنية "واضحة" يصعب، اليوم، بناؤها. كتب أكرم مسلّم عن اغتراب الإنسان في زمن "السلطة الموقتة" عملاً ممتازاً عنوانه: "العقرب الذي يتصبب عرقاً"، ونقد عاطف أبو سيف ما وصلت إليه اليوم غزة في روايته "حياة معلّقة"، واستذكر الفلسطيني المقيم في دمشق حسن حميد القدس في "مدينة الله"، ورسم ربعي المدهون الراهن الفلسطيني، كما هو، من دون زيادة أو نقصان، في "سيدة من تل أبيب " و"مصائر"، اللتين ساءلتا الأفق الوطني الفلسطيني، وعاد محمود شقير إلى شيء من الماضي في "مديح لنساء العائلة"، وشاء يحيى يخلف أنا يضيء الحاضر بدرس من الماضي، فعاد إلى يافا 1795، في "راكب الريح".
ولا تمكن قراءة الرواية الفلسطينية اليوم، من دون التوقف أمام أمرين: الشتات الواسع الذي يعيشه الفسطينيون، وغياب المؤسسة التعليمية- الثقافية الجامعة، ذلك أن صعود الجنس الروائي ارتبط، تاريخياً، بنشوء الدولة الوطنية وتطورها، فقد رحل غسان كنفاني في بداية مساره الروائي ولم يتح لجبرا إبراهيم جبرا أن ينشئ مع غيره تصوراً روائياً للعالم، وبقي إميل حبيبي مع تجريبه الروائي القائم على "الإبداع اللغوي". إن غياب المؤسسة الثقافية الفلسطينية "الموحِّدة"، حاصر تكامل الجهود، ووزع الرواية على جهود مفردة، أكانت داخل "فلسطين المحتلة" أو خارجها.
ولهذا لم تعرف الرواية الفلسطينية ظاهرة "ما قبل جبرا وبعده"، حال الرواية المصرية التي اتكأت على نجيب محفوظ وامتدت في أعمال غيره مثل جمال الغيطاني وبهاء طاهر ورضوى عاشور ، ومحمود الورداني الذين أعادوا كتابة رواية نجيب محفوظ بأشكال مختلفة. كما منع زمن المنفى وحدة المكان الفلسطيني مقارنة بالرواية اللبنانية، على سبيل المثال، التي عالجت موضوع الحرب الأهلية متخذة من بيروت مركزاً، أكان ذلك في أعمال هدى بركات وإلياس خوري أو في أعمال ربيع جابر ، فعلى خلاف ذلك توزعت الأقدار الفلسطينية، روائياً، على الكويت وبغداد وبيروت ودمشق، وعلى منافي لم تهجس بها الرواية العربية أبداً. بل أن في القدر الفلسطيني ما أجبر الروائيين على محاولة "أدب المضطهَدين"، الذي يأمر، بالضرورة، بمنظور متفائل، لا يتفق مع التصور الروائي للعالم، الذي ينوس بين الاغتراب والضياع ومواجهة عالم متهدم لا يمكن التعايش معه.