صوفي حلبي
ولدت صوفي حلبي في 26 حزيران 1905 في القدس. والدها: جريس نقولا حلبي. والدتها: أولغا فاناهود، روسية الأصل. أخوها: نقولا حلبي. أختها: انستازيا (آسيا) حلبي.
انتقلت صوفي حلبي مع عائلتها، عند اندلاع الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، إلى مدينة كييف، هرباً من الظروف المعيشية الصعبة في مدينة القدس وخشية تعرض والدتها للملاحقة على أيدي السلطات العثمانية التي كانت تخوض الحرب ضد روسيا.
تلقت صوفي حلبي تعلميها الأولي في مدارس مدينة كييف، ثم التحقت، بعد عودتها مع عائلتها إلى القدس لدى انتهاء الحرب، بالمدرسة الإنكليزية الثانوية للبنات في القدس والتي أسستها المبشرة البروتستانتية مابل كلاريس واربورتن قبل أن يتغير اسم المدرسة في سنة 1922 ليصبح كلية القدس للبنات.
نشأت صوفي حلبي في بيئة عائلية مثقفة، إذ كان والدها واسع المعرفة يعمل مترجماً للكنيسة الروسية وكانت والدتها معلمة. وبحكم انتسابها إلى المدرسة الإنكليزية، فقد ترعرعت في بيئة تميّزت بتعدد اللّغات والثقافات، وتخرّجت فيها في سنة 1924، بحصولها على شهادة الدراسة الثانوية، وبإتقانها أربع لغات هي العربية، والروسية، والإنكليزية، والفرنسية.
بعد تخرّجها، عملت صوفي حلبي في دوائر حكومة الانتداب البريطاني في مدينة القدس، واجتازت بنجاح امتحانَ القبول في جامعتَي أكسفورد وكامبردج البريطانيتين، لكن وعلى الرغم من مؤهلاتها لم تتم تسميتها لترقية مهنية في عملها، وقد ذكرت صوفي في أكثر من مناسبة أنها تعرضت مع زملائها وزميلاتها العرب الفلسطينيين للتمييز واللامساواة فيما يتعلق بالرواتب والمعاملة. وبعد أربعة أعوام، تركت العمل في سنة 1928 وتفرغت للفن.
استطاعت صوفي حلبي تطوير أدواتها الفنية، بفضل احتكاكها بفنانين عالميين استقروا في مدينة القدس، ومشاركتها في تظاهرات ومعارض ثقافية وفنية بين سنة 1924 وسنة 1928، كان معظمها من تنظيم "جمعية الشبان المسيحية"، فضلاً عن مواظبتها على المشاركة في ورشات القراءة ومناقشة الكتب، التي كانت تنظمها رابطة خريجات كلية القدس للبنات. وقد تعرّفت في مدينة القدس، في تلك الفترة، إلى الفنان الروسي المهاجر جورج أليف، الذي ركّز في لوحاته على إظهار الملامح الطبيعية والعمرانية والحياتية للمدينة، والذي تركت أعماله تأثيراً فيها، ساهم في جذبها نحو تيار الفن التشكيلي الانطباعي، ودفعها إلى رسم جملة من المناظر الطبيعية من فلسطين.
دراسة الفن في باريس
نالت صوفي حلبي، في سنة 1929، منحة لدراسة الفن التشكيلي في مدينة باريس، قدمها لها آنذاك القنصل الفرنسي في القدس جاك دومال، وذلك في إطار برنامج منح للحاصلين/ات على شهادة الثانوية، فكانت من من أوائل السيدات اللواتي حصلن على تلك المنحة.
فور وصولها إلى مدينة باريس، استقرت صوفي في "بيت الطالبات العالمي" القائم في جادة السان ميشيل، الذي كان ملاذاً للفنانين والمثقفين، وهو ما أتاح فرصة التعرف إلى فنانات عالميات واكتشاف أعمال فنانين من مدارس فنية متنوعة. وفي فترة إقامتها في العاصمة الفرنسية، عرضت أعمالها في غاليري (Salon du Tuileries) الذي اشتُهر بأنه كان يعرض أعمالاً فنية جديدة لم تحظَ باهتمام المعارض والمتاحف الرسمية في حينه. وهكذا، وفي سنة 1932، عرضت صوفي أربعة أعمال لها: "فلسطين"، "القدس"، "زاوية في مونبرناس" و"طبيعة صامتة"، ثم عرضت في سنة 1933: "زهور وطبيعة صامتة". وفي العام نفسه، نالت جائزة مقدمة من أكاديمية الفنون الجميلة في باريس عن عملها: "بورتريه امرأة".
رسومات كاريكاتورية سياسية
بعد إنهاء دراستها في العاصمة الفرنسية وعودتها إلى مدينة القدس، على أعتاب اندلاع ثورة 1936، عملت صوفي حلبي معلمة في كلية "شميدت" للبنات، وشاركت مع زميلات لها، من خريجات كلية القدس للبنات، في النضال الوطني من خلال نشرها رسومات نقدية مناهضة لسياسات الانتداب المتواطئة مع الاستيطان الصهيوني، ونشرت على صفحات مجلة (Palestine & Transjordan) الأسبوعية النقدية التي كانت تُعنى بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، وتصدر باللغتين العربية والإنكليزية، ثماني رسومات كاريكاتور، خاطبت فيها الإدارة البريطانية التي اعتبرتها تارة متواطئة مع الحركة الصهيونية، وتارة أُخرى ساذجة وطفولية خاضعة لإملاءات زعامات هذه الحركة.
تباينت موضوعات رسومات الكاريكاتير تلك ما بين رفض تصريح بلفور ورفض قرار التقسيم والنقد اللين لجهات بريطانية تؤدي دور الموجّه وتمثّلها الإدارات البريطانية والمنظومة السياسية، من جهة، والنقد اللاذع لطموحات الحركة الصهيونية وسعيها إلى سلب كامل فلسطين من خلال التلاعب بالحكومة البريطانية، من جهة ثانية. وأظهرت صوفي حلبي فيها امتعاضها من طبيعة العلاقة القائمة بين زعماء الحركة الصهيونية والمسؤولين البريطانيين التي كانت، بحسب تصورها، تشوبها الغباوة وتدفع بالحكومة البريطانية ممثلة بونستون تشرشل نحو الهاوية. ونبّهت فيها إلى خطر الهجرات اليهودية وادعاءات اليهود بأن مساحة فلسطين قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة الوافدة منهم من أنحاء العالم بإذن من الحكومة البريطانية. كما وظفت القصص التوراتية مثل قصة دليلة وشمشوم للفت النظر إلى السلطة التي تمارسها المنظمات الصهيونية على شخصيات متنفذة في الحكومة البريطانية، وأشارت أيضاً إلى دور الأموال في مصادرة الأراضي، وعتب الطبقة البورجوازية الفلسطينية آنذاك على الانتداب البريطاني الذي كانت تتوقع منه حماية الشعب من أعمال العنف والسلب. وقدمت، أخيراً، في رسوماتها تلك نقداً لمنظومة التعليم القائمة على الدعاية الصهيونية الموجهة، التي تستغل جميع المنابر لحجب الانتباه عن أعمال العنف التي تقوم بها الجماعات اليهودية ضد الأحياء والقرى الفلسطينية.
مشوارها الفني
بعد اندلاع الإضراب العام في فلسطين في نيسان/أبريل 1936، واستجابة لأحد مطالب الحركة الوطنية لدعم الاقتصاد الفلسطيني، سَجّلت صوفي حلبي مهنتها، بصفتها سيدة أعمال تعمل على بيع بطاقات بريدية تحمل مناظر طبيعية من فلسطين، في دليل التجارة العربية الشامل للصناعات والأشغال اليدوية والمهن في فلسطين وشرق الأردن (1938-1937).
بعد القضاء على الثورة الكبرى، وجدت صوفي حلبي في الرسم ملاذاً للحفاظ على فلسطين كما عرفتها قبل ضياع الأرض، فراحت ترسم مناظر المدن والقرى المحيطة بالقدس، ترصد من خلالها الموروث الفلسطيني العمراني والمعالم الثقافية والحضارية الفلسطينية، وذلك بغية تثبيت المشهد قبل أن يتآكل ويتلاشى بفعل انتشار البناء الشرس للمستوطنات التي باتت تغطي التلال المحيطة بمدينة القدس. وهكذا، رسمت بمهارة عالية طوبوغرافيا المساحات الشاسعة والتلال المحيطة بالقدس وبيت لحم وأريحا. وقد اعتمدت البساطة في نقل المشهد، ورصدت، بإتقان وحساسية شديدة، ألوان الأمكنة معيرة اهتمامها للإضاءة.
اتسمت الأعمال الفنية التي أنجزتها، في تلك الفترة، برسم المشاهد الطبيعية بالألوان المائية بدقة وعناية شديدة وبانتقاء التفاصيل التي تمحورت حول المناظر الطبيعية والعمرانية للمدينة، ولوحات الطبيعة الصامتة ولا سيما الزهور والفواكه، ورسم الجسد والبورتريه. وكان مما عثُر عليه من أعمالها لوحة لسور القدس يلتف حول المدينة ويطل زهر الأقحوان من خارج المشهد، ولوحة بستان جبل الزيتون الجثمانية ولوحة كنيسة القيامة، إضافة إلى لوحات ترصد الفن العمراني في أماكن إقامتها في أوروبا.
النكبة والنكسة
هُجّرت صوفي حلبي مع أفراد عائلتها من منزلهم في حي القطمون في القدس الغربية في سنة 1948 بعد سلسلة اعتداءات عنيفة شنتها العصابات الصهيونية، أدت إلى احتراق العديد من المنازل القريبة من منزلهم وتهجير جيرانهم، ومن بينهم عائلة خليل السكاكيني وعائلة توفيق كنعان. ولجأت صوفي إلى المصرارة، التي هُجّرت أيضا منها لتستقر في شارع نور الدين في وادي الجوز حتى وفاتها.
في سنة 1967، قامت صوفي وأختها آسيا بإخفاء عشرة جنود أردنيين كان الجيش الإسرائيلي يبحث عنهم بغية قتلهم. وتمكنت صوفي وأختها من تدبير أمرهم عدة أيام، ومن تأمين ملابس مدنية لهم من الجيران لمساعدتهم على التخفي والهرب. وقامتا بعد ذلك بحرق البدلات العسكرية على مهل كي لا تثيرا اشتباه الجنود الإسرائيليين.
عرضت صوفي حلبي أعمالها في مدينة القدس، إذ إنها استغلت الفرص المتاحة في أروقة جمعية الشابات المسيحية منذ منتصف الخمسينيات. كما شاركت في المعرض الجماعي "المرأة الفلسطينية معرض الفنون" بقيادة فيرا تماري وفاتن طوباسي في "الحكواتي" في سنة 1986. وكذلك، استغلت الواجهة الزجاجية لمتجر أختها في شارع الزهراء في القدس الشرقية لعرض لوحاتها. وفي سنة 2009، عرض "غاليري حوش" للفن الشعبي الفلسطيني في القدس أعمالها ضمن معرض "القدس أبجدية الألوان" والذي جمع أعمال رواد الفن التشكيلي الفلسطيني.
توفيت صوفي حلبي في 21 أيار/ مايو 1997 في القدس الشرقية ودفنت في مقبرة جبل الزيتون، وفي رصيدها مئات الأعمال الفنية لكنها خسرت الكثير منها، وخصوصاً بعد أن تعرضت لعملية نصب واحتيال بعد وفاتها من المحامي الذي كان يُعتبر صديقاً للعائلة، والذي استولى على ممتلكات عائلة حلبي وتخلص من أعمالها الفنية. وقام بعد ذلك جامعو المقتنيات الفنية من الجيل الجديد باقتناء ما أمكن إنقاذه. واعتبرت الفنانة الفلسطينية سامية حلبي أن خسارة أعمال صوفي حلبي خسارة فادحة للموروث الفلسطيني الفني وشاهد على ضياع الممتلكات الفلسطينية الذي سببه الاحتلال.
صوفي حلبي واحدة من رواد الفن التشكيلي في فلسطين والعالم العربي، كانت صاحبة شخصية متحفظة للغاية، إذ لم تسمح للأصحاب والمعارف بزيارة مشغلها الذي كانت ترسم فيه، ولم تعرض جميع أعمالها؛ اتسم نمط حياتها بالتقشف الاجتماعي، وعرف عنها حس الفكاهة، واشتهرت في محيطها في القدس بالفنانة التي درست في السوربون والتي علّمت قطتها استخدام الشوكة والسكينة. ويذكر الفنانون والفنانات الذين عرفوها عن قرب، مثل فيرا تماري وفلاديمير تماري، مهارتها التقنية العالية في الرسم، إذ كانت قادرة على رسم المشاهد الطبيعية بسرعة استثنائية في أثناء السفر بالسيارة من القدس إلى أريحا. ويذكر الفنان المقدسي كمال بلاطة، في شهادته عنها، أنه كان يسترق النظر إلى لوحاتها المعروضة في متجر أختها، آسيا حلبي، في طريقه إلى المدرسة في القدس، وينتظر كل ما هو جديد بفارغ الصبر.
المصادر:
Ari, Nisa. “Speaking in a Different Key: The Life and Art of Sophie Halaby. ” Jerusalem Quarterly, no. 81 (Spring 2020): 155-63.
Boullata, Kamal. Foreword to Sophie Halaby in Jerusalem: An Artist’s Life, xi-xvi. New York: Syracuse University Press, 2019.
Halaby, Samia. “Sophie Halaby, Palestinian Artist of the Twentieth Century.” Jerusalem Quarterly, no. 61 (Winter 2015): 84-100.
Schor, Laura. Sophie Halaby in Jerusalem: An Artist’s Life. New York: Syracuse University Press, 2019.
Related Content
دبلوماسي استعمار
خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947
تمهيد الطريق للنكبة الوشيكة