هاجر الفلسطينيون إلى البيرو
نتيجة العوامل ذاتها التي دفعتهم إلى الهجرة إلى دول أُخرى في
أسباب هجرة الفلسطينيين
فعلى الصعيد الاقتصادي، كانت صناعة الحِرف المنزلية (النسيج، الخياطة، السيراميك، الفخار، الأثاث، وما إلى ذلك) تمر بأزمة خطيرة نتيجة خضوعها للمنافسة من المنتوجات المستوردة من أوروبا. علاوة على ذلك، أدى قانون الأراضي العثماني لسنة 1858 ، الذي سمح بالملكية الخاصة للأرض، وتعميم الاقتصاد النقدي إلى تحول أشكال ملكية الأراضي، وهو ما تسبب في تركيز ملكية الأراضي في أيدي ملاّك كبار، وذلك في فترة نمو ديموغرافي شديد.
من الناحية السياسية، تميزت الحقبة الزمنية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بتراجع قوة الإمبراطورية العثمانية وصعود الحركات القومية فيها. فأتى استيلاء جمعية "تركيا الفتاة " على السلطة في سنة 1908 بهدف تدعيم الإمبراطورية من خلال تعزيز المركزية السياسية والإدارية. وكان من نتائج ذلك، قيام السلطة الجديدة بقمع الحركات القومية الناشئة بعنف. وبعد إقرار قانون التجنيد الإلزامي على غير المسلمين في سنة 1909، فضّل العديد من الشباب المسيحي الفلسطيني الهجرة إلى المنفى بدلاً من الخضوع للتجنيد في الجيش العثماني.
أمّا على المستوى الثقافي والديني، فقد قدمت الدول الأوروبية و
روّاد التجارة الصغيرة في جنوب بيرو
لم تكن البيرو في البدء الوجهة المفضلة للمهاجرين الفلسطينيين، فهي تقع على ساحل المحيط الهادئ وكان من الصعب الوصول إليها بالنسبة إلى المهاجرين الذين كانوا يأتون إلى القارة عن طريق السفن وينزلون في موانئ المحيط الأطلسي، وخصوصاً في
لم تكن البيرو في نهاية القرن التاسع عشر، محرومة تماماً من الموارد، على الرغم من ضعف إمكاناتها، إذ شهد
وتوجه الفلسطينيون من الأرجنتين وبوليفيا إلى منطقة جنوب الأنديز في البيرو، فاستقروا في المدن على طول محطات السكك الحديدية الجديدة، ولا سيما
سمحت الدينامية التجارية للفلسطينيين، جنباً إلى جنب مع مهارتهم، في السيطرة سريعاً على التجارة الصغيرة في جنوب الأنديز والتي لم تكن متطورة في تلك الفترة، لكن نجاحاتهم التجارية هددت مورّدي الجملة الذين كانوا يتعاملون معهم والذين حاولوا القضاء عليهم، لكن هذه المحاولات لم تنجح، بل على العكس نجح التجار الفلسطينيون في الانخراط بالتدريج في تجارة الجملة وحتى في الاستيراد والتصدير.
ويعود النجاح التجاري للفلسطينيين في البيرو بشكل أساسي إلى آليات تنظيمهم العمل، وإلى أخلاقيات العمل التقليدية لديهم. فهم كانوا يعملون كعائلة، وكان موقع عملهم وسكناهم، بصورة عامة، في المكان نفسه، الأمر الذي أتاح لهم العمل ساعات طويلة. فالمحل التجاري كان فضاء للتواصل الاجتماعي كما هي الحال في مدن الشرق. وكان يُنظر إلى التجارة بصفتها خدمة بالمعنى الأقوى للكلمة – من كانت هنا العلاقة الودّية والشخصية التي نشأت بين أصحاب المتاجر وبين عملائهم.
وبحلول عشرينيات القرن الماضي، وبفضل نجاحهم الاقتصادي، شعر الفلسطينيون بثقة كافية للتوجّه إلى العاصمة
التنظيم الاجتماعي والتضامن الإثني
كان أحد مفاتيح النجاح الاقتصادي للفلسطينيين هو تضامنهم القوي مع بعضهم البعض، ويعود ذلك إلى خلفيتهم المشتركة بصورة كبيرة: فقد جاؤوا من منطقة بيت لحم وبشكل رئيسي من بيت جالا، وكانت تربط العديد منهم علاقات قربى، وكانوا جميعهم تقريباً من المسيحيين الأرثوذكس. وسرعان ما برزت بينهم سلسلة قائمة على هياكل اجتماعية تقليدية: العشيرة، والقرية، والمذهب.
شعر الفلسطينيون بمجرد استقرارهم في البيرو بالحاجة إلى إنشاء بنى مجتمعية وجمعيات. وبالنسبة إلى المهاجرين الأوائل، كانت هذه الجمعيات مكاناً للالتقاء والاحتفال بالمناسبات التقليدية، وقد اعتبروها شبكات تضامن متبادل تقوم بمساعدة الوافدين الجدد على الاندماج في المجتمع البيروفي.
وفي وقت لاحق، ولا سيما بعد استقرار معظمهم في ليما، قرر الفلسطينيون في سنة 1954 إنشاء هيكلية مجتمعية موسّعة أطلقوا عليها اسم
تم إنشاء مؤسسات أُخرى لدعم عمل الفلسطينيين في البيرو في مختلف المجالات. نذكر في المجال الخيري
ومع ذلك، فإن بعض الضعف في الروابط المجتمعية أصبح أمراً محسوساً، إذ إن الشباب باتوا أقل حضوراً في النادي من ذويهم الأكبر سنّا. فهم لا يشعرون مثلهم بالحاجة إلى منابع ثقافية خاصة. ولم تعد اللغة العربية هي اللغة التي يتم التحدث بها داخل الأسرة، كما أنه تم الحفاظ على القليل من التقاليد الثقافية الفلسطينية باستثناء تقاليد الطهي المنزلي. لكن، وعلى الرغم من أن الفلسطينيين تبنوا بالتدريج الثقافة الكريولية (Creole) البيروفية، فإن قيمهم الاجتماعية ونوعية علاقاتهم الاجتماعية ، ولا سيما تلك المتعلقة بالأسرة وبشكل أكثر تحديداً بشرف العائلة تبقى ذات مكانة خاصة لديهم.
الولاء الوطني المزدوج للفلسطينيين
لطالما أظهر المهاجرون الفلسطينيون ولاءً كبيراً لبلدهم الأصلي فلسطين وكذلك لبلدهم المضيف البيرو. فقد عملوا على تطوير الهوية الوطنية الفلسطينية بالتدريج مع نمو النضال الوطني في فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضي. وكان تقسيم فلسطين وإنشاء دولة إسرائيل حدثاً صادماً لهم. وسرعان ما شهدوا بعد سنة 1948 وصول مواطنين من فلسطين، مسيحيين ومسلمين، والذين على الرغم من عدم كونهم لاجئين بالمعنى الدقيق للكلمة، فضلوا مغادرة بلدهم بسبب النزاع المستمر وعدم اليقين، بيد أن دعمهم لـ "القضية الفلسطينية" ظل ثابتاً منذ ذلك الحين.
كان لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية
في سنة 1964 والافتتاح الرسمي لمكتب ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في ليما سنة 1976 أثرٌ ملحوظ في تعبئة فلسطينيي البيرو. فقد شجع تمثيل المنظمة في ليما، كما في سائر دول القارة، الفلسطينيين على تشكيل مؤسسات سياسية يمكن أن تدعم عمل المنظمة. وهكذا، تمّ في سنة 1984 إنشاء
لقد كان لوجود مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في ليما، إلى جانب نشاط المؤسسات الفلسطينية في البيرو، تأثير كبير في موقف البيرو من الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. فخلال رئاسته الأولى، عمل
وبفضل قوة نجاحهم الاقتصادي واندماجهم الفعال بشكل متزايد في المجتمع البيروفي، الذي سهلته الزيجات المختلطة مع نساء بيروفيات، وهو ما أصبح أكثر شيوعاً منذ الجيل الثالث من المهاجرين، أخذ الفلسطينيون يشاركون بشكل متزايد في الحياة السياسية المؤسسية في بيرو. وابتداءً من سبعينيات القرن الماضي، بدأ بعضهم في الترشح للمناصب السياسية المحلية، فانتُخبوا رؤساء بلديات، وخصوصاً في مقاطعات العاصمة، بينما عمل آخرون كموظفين حكوميين رفيعي المستوى في الدولة، واستلم عدد منهم حقائب وزارية. وأبرز الأمثلة على ذلك سيمون جودي (عودة)
وهو حفيد مهاجر من بيت جالا أصبح رئيساً للوزراء في 2008-2009، ودانييل أبو غطاس مخلوف
وهو الرئيس السابق للاتحاد الفلسطيني في البيرو (FPP) والذي أصبح رئيس
إن ولاء الفلسطينيين الوطني لوطنهم الجديد، البيرو، لا يمكن إنكاره، فهم أنفسهم يؤكدون في كل مناسبة وعلناً أنهم بيروفيون تماماً. وهم لا يرون أي تناقض بين هذه الوطنية وبين ولائهم الوطني العربي، الذي لا يزال حياً إلى حد كبير، لفلسطين. ومن وجهة نظرهم، فإن هاتين الهويتين الوطنيتين لا تتنافسان، ربما لأنه لا يتم التعبير عنهما في الظروف نفسها. إن ولاءهم المزدوج هذا ليس مزيفاً، بل هو يتوافق مع الهوية المختلطة التي بنوها بالتدريج، فهم يعتبرون أنفسهم بصدق بيروفيين وفلسطينيين على حد سواء.
جالية فلسطينية صغيرة راسخة في بيرو
اليوم، هنالك نحو عشرة آلاف من مواطني البيرو من أصل فلسطيني. وكان عدد قليل من المهاجرين قد عاد، في السنوات الأولى من الهجرة، إلى فلسطين. ثم باتت أي خطة للعودة الدائمة إلى وطنهم الأصلي مشروعاً وهمياً، نظراً من جهة إلى نجاح المهاجرين الاقتصادي والاجتماعي في البيرو، ومن جهة أُخرى، إلى الأوضاع الاقتصادية والسياسية السائدة في فلسطين مع صعود
لقد بعثت اتفاقية أوسلو (1993) واحتمال إقامة دولة فلسطينية أملاً كبيراً لدى الفلسطينيين في البيرو، وشجعت بعض الأفراد على محاولة العودة إلى فلسطين. لكن هؤلاء كانوا من المهاجرين الوافدين حديثاً إلى البيرو ولم تكن تربطهم بعد علاقة قوية بالبلد. على كل حال، أدت خيبة الأمل التي أعقبت الاتفاقية واستئناف الصراع المسلح سنة 2000 إلى وضع حد لأي حلم بالعودة.
واليوم، لدى الفلسطينيين في بيرو صلة عاطفية، وأحيانا سياسية، بفلسطين، وهي دائما متينة بما يكفي كي يشعروا بقلق عميق إزاء مستقبل بلدهم الأصلي. إنهم يستمرون في تشارك لحظات قوية من التعايش المجتمعي والحفاظ على تضامن متبادل قوي فيما بينهم، وبهذه الطريقة يساهمون في تشكيل الجالية الفلسطينية في البيرو وتوطيدها.
لورنس، هنري. "مسألة فلسطين، المجلد الأول، 1799-1922: اختراع الأرض المقدسة". القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2006.
Abugattas, Juan. “The Perception of the Palestinian Question in Latin America.” Journal of Palestine Studies, vol. xi, no.3 (Spring 1982), pp. 117-28.
Baeza, Cecilia. “Palestinians in Latin America: Between Assimilation and Long-Distance Nationalism.” Journal of Palestine Studies, vol. xliii, no.2 (Winter 2014), pp. 59-72.
Cuche, Denys. “Un siècle d’immigration palestinienne au Pérou: La construction d’une ethnicité spécifique.” Revue européenne des migrations internationales, vol. 17, no. 3 (2001), pp. 87-118.
_________. Les Palestiniens chrétiens du Pérou: Anthropologie d’une diaspora de Chrétiens orientaux. Paris: L’Harmattan, 2019.
محتوى ذو صلة
سياساتي - برامجي مؤسساتي
الدورة الأولى للمجلس الوطني الفلسطيني، القدس
1964
28 أيار 1964 - 2 حزيران 1964
سياساتي - برامجي مؤسساتي
الدورة العشرون للمجلس الوطني الفلسطيني، الجزائر
1991
23 أيلول 1991 - 28 أيلول 1991