إضاءة على –

الفلسطينيون في تشيلي

إضاءة على –
الفلسطينيون في تشيلي
جالية وازنة، تشيلية الانتماء، وملتزمة تماماً بفلسطين

عرض جدول الأحداث

تظاهرة في سانتياغو، تشيلي

14 تشرين الأول 2023
Source: 
Comunidad Palestina De Chile

تعد الجالية الفلسطينية في تشيلي ، التي يقدّر عددها بنحو 500 ألف شخص وفق أرقام سنة 2023، أكبر جالية فلسطينية خارج العالم العربي.

حافظ الفلسطينيون التشيليون على روابط ثقافية وسياسية قوية مع فلسطين من خلال الشبكات والمؤسسات ونشاطات التعبئة والمناصرة. كما أدوا دوراً رئيسياً مؤثراً في علاقات تشيلي الخارجية تجاه فلسطين وإسرائيل.

الشتات الفلسطيني في تشيلي

يندرج الوجود الفلسطيني في تشيلي ضمن علاقات واسعة بين الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية ، نشأت بفضل حركات الهجرة التي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. وتشير التقديرات إلى أن نحو 1.2 مليون مواطن عثماني هاجروا إلى الأمريكيتين بين سنتَي 1860 و1914. واستقرت مجتمعات كبيرة وفدت من "بلاد الشام " (من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن اليوم) في جميع أنحاء القارة، من تشيلي إلى هندوراس إلى الولايات المتحدة . وتعود جذور معظم الفلسطينيين المقيمين بتشيلي إلى مدن بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور التي كان يغلب عليها الطابع المسيحي.

ما الذي دفع الفلسطينيين إلى الهجرة إلى تشيلي؟ روى البروفيسور التشيلي الفلسطيني أوجينيو شهوان قصة انتقال أسلافه إلى تشيلي بقوله إن أحد أفراد عائلات فلسطينية، الذين كانوا يعملون في بيع التحف والمشغولات الدينية ويشاركون في معارض عالمية في إيطاليا ، وهو جورج هرمس من بيت لحم، التقى  بشقيق رئيس تشيلي الذي دعاهم إلى بلده. فقَبِل هرمس الدعوة وأخذ معه جورج شهوان وجورج منصور .

إن قصة "ثلاثة رجال حملوا اسم جورج"، وهاجروا إلى تشيلي، هي مثال لما مرّ به كثيرون ممن قاموا بهذه الرحلة الطويلة؛ إنهم شباب مسيحيون عازبون تمتلك عائلاتهم متاجر للهدايا التذكارية وتبيع الأيقونات الدينية وكانوا يبحثون عن أسواق جديدة؛ كان لديهم المال اللازم لتمويل رحلتهم ونظرة منفتحة إلى العالم بفضل تلقيهم التعليم في المدارس التبشيرية. وقد ورد في السجلات التاريخية، مثل  الدليل الاجتماعي للجالية العربية في تشيلي الذي نُشر سنة 1941، أن الجيل الأول من المهاجرين الفلسطينيين إلى تشيلي شمل أشخاصاً من ديانات متعددة جاءوا من مختلف المدن وكانوا يمارسون مهناً متنوعة.

تطورت الهجرة الفلسطينية إلى تشيلي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وتقلّبت على وقع الأحداث السياسية والتاريخية. وأدى تضافر قانون التجنيد الإجباري لغير المسلمين، الذي أقرّته الإمبراطورية العثمانية في أواخر العقد الأول من القرن العشرين، والوضع الاقتصادي المتدهور خلال الحرب العالمية الأولى ، إلى ازدياد عدد الوافدين إلى تشيلي؛ وشهدت تلك الفترة والسنوات التي تلت سقوط الدولة العثمانية سنة 1923 وصول أغلبية أسلاف الفلسطينيين التشيليين. ثم استؤنفت موجات الهجرة إلى تشيلي عشية النكبة وغداتها في 1947-1948، وعقب حرب حزيران / يونيو 1967، والانتفاضة الأولى والثانية ، أواخر الثمانينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين. وكان المحرّك الرئيسي لموجات الهجرة تلك لمّ شمل الأسر وعقد الزيجات، لكن الأعداد ظلت أقل بكثير مما كانت عليه في الفترة ما بين سنتي 1900 و1930. وفي سنة 2008، أعادت حكومة ميشيل باشليه توطين 117 لاجئاً فلسطينياً من العراق في تشيلي. وبينما حظي ذلك الحدث بتغطية إعلامية كبيرة، سارع المجتمع الفلسطيني المستقر إلى الترحيب بهم وتسهيل اندماجهم.

وعلى مدى القرن الماضي، استقرت أغلبية الفلسطينيين في العاصمة سانتياغو ، لكن مجتمعات فلسطينية كبيرة راحت تنتشر في جميع أنحاء البلد؛ حتى إن مثلاً تشيلياً قديماً يقول إن "في كل مدينة هناك ثلاثة أشياء: كاهن، وشرطي، وفلسطيني."

التأقلم و"النجاح"

كان سعي المهاجرين الفلسطينيين لبناء حياة أفضل في تشيلي صعباً جداً في البداية؛ فقد واجهوا العنصرية والتحيّز وصُنفوا على أنهم أتراك بسبب جوازات سفرهم العثمانية. وكانت سياسات الهجرة في جميع أنحاء المنطقة تحبذ على نحو واضح الأوروبيين البيض، وصوّرت الصحافة المحلية التشيليين العرب على أنهم "طفيليون"، وسخرت من رواد الأعمال العرب وصورتهم على أنهم يستغلون العمال والمستهلكين التشيليين.

وبحلول أوائل القرن العشرين، تغيرت هذه الصورة، وأثبت المهاجرون الفلسطينيون أنهم تجار ورجال أعمال ناجحون. وفي الواقع، من المعروف اليوم أن العائلات الفلسطينية هي من أغنى العائلات في البلد. فعلى سبيل المثال، تُعتبر عائلات يعرور وسومر وسعيد وهرمس رموزاً لصناعة النسيج وأصحاب الثروات. لقد ملأوا الفراغ في قطاع كان متخلفاً في تشيلي، كما ساهموا بشكل كبير في التصنيع السريع للبلد وغامروا في جميع مجالات الاقتصاد الوطني تقريباً. ودعمت مساعيهم اندماج الفلسطينيين في المجتمع التشيلي وعززت ارتقاءهم الاجتماعي والثقافي.

ومع أن من المهم ملاحظة تنوع التجربة الفلسطينية واختلافها تبعاً للطبقة أو الهوية أو الإرث الثقافي، إلاّ إن الروابط الثقافية والسياسية بين الفلسطينيين في تشيلي ظلت قوية.

هوية تشيلية فلسطينية

أُنشئ العديد من المؤسسات الاجتماعية والثقافية الفلسطينية في تشيلي. ويمثل النادي الفلسطيني  في سانتياغو الذي أُسس سنة 1939، محور النشاط الاجتماعي للجالية، إذ لا يُقبل في عضويته سوى أولئك الذين هم من أصل فلسطيني. ويستضيف النادي مجموعة من النشاطات الترفيهية والثقافية المتعلقة بالحياة الفلسطينية في تشيلي، ويعد في أكثر الأحيان بمثابة نقطة التقاء مركزية لأفراد الجالية. وكان المهاجرون الفلسطينيون إلى تشيلي قد أسسوا في سنة 1916، فريقهم الخاص لكرة القدم باسم النادي الرياضي الفلسطيني  الذي احتفظ بمشجعيه المخلصين، وما زال من بين أفضل الفرق في دوري الدرجة الأولى التشيلي حتى يومنا هذا. وفي حي باتروناتو ، حيث استقر العديد من الوافدين الأوائل إلى تشيلي في سانتياغو أولاً، تدّل محلات الحلويات والمطاعم العربية على الحضور الفلسطيني المستمر في النسيج الاجتماعي.

يمكن تقديم مثال آخر على المكانة المهمة للهوية العربية والفلسطينية في تشيلي في القطاع التعليمي. إذ تعتمد الكليات العربية في فينيا ديل مار (التي أُسست سنة 1972)، وفي سانتياغو (سنة 1977)، وكونسيبسيون (سنة 1983) مناهج دراسية تقوم على رؤية متعددة الثقافات وعلى ثنائية اللغة. كما قام مركز الدراسات العربية في جامعة تشيلي الذي يستضيف العديد من الأكاديميين من أصل عربي وفلسطيني، بنشر أعمال أكاديمية نقدية تتعلق بالعالم العربي، وهو يوفر دروساً في اللغة العربية ومحاضرات عن الدراسات الفلسطينية.

في السنوات الأخيرة، سعت الأجيال الشابة من الفلسطينيين التشيليين إلى إعادة التواصل مع وطنهم الأم، يحركهم شعور عميق بالانتماء إلى فلسطين. ويتم التعبير عن ذلك من خلال الاهتمام المتزايد بالتقاليد والثقافات الفلسطينية، ولا سيما اللغة والموسيقى والطعام، وأيضاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمشاركة في المنظمات الشبابية التشيلية الفلسطينية والاجتماعات التي تنظم مع شباب فلسطينيين آخرين من أمريكا اللاتينية الرحلات المنظمة إلى فلسطين.

التأثير والتعبئة السياسية المتسقة والمتسعة

لقد أثبت التجذّر في الثقافتين التشيلية والفلسطينية فاعليته في إيجاد مساحة فلسطينية مميزة ذات تأثير كبير في السياسة التشيلية. ويقوم رؤساء البلديات والنواب وأعضاء مجلس الشيوخ من أصل فلسطيني باستمرار بوضع القضية الفلسطينية في مقدمة جدول الأعمال السياسي. وينتمي هؤلاء السياسيون أيضاً إلى مختلف الأطياف السياسية في البلد، ومن بينهم شخصيات مثل فؤاد شاهين (الرئيس السابق لـ الحزب الديمقراطي المسيحي الوسطي)، وفرانسيسكو شهوان (رئيس حزب التجديد الوطني اليميني)، ودانيال جادو (المرشح الرئاسي الأخير عن الحزب الشيوعي ). وتعد المجموعة البرلمانية التشيلية الفلسطينية واحدة من أكبر الكتل في الكونغرس التشيلي .

اضطلعت النخب التشيلية الفلسطينية تاريخياً بدور مركزي في تشكيل السياسة الخارجية التشيلية تجاه فلسطين. ولقد تمكنت نخب الشتات، بفضل الرأسمال السياسي  الذي امتلكته، من التأثير في جميع مستويات الدولة التشيلية، واستخدمت ذلك الرأسمال وسيلة للتعبئة حول الوضع في فلسطين. فعلى سبيل المثال، امتنع الوفد التشيلي عن التصويت في الأمم المتحدة سنة 1947 لمصلحة قرار تقسيم فلسطين بعد ضغوط من المجتمع الفلسطيني. وافتُتح مكتب لـمنظمة التحرير الفلسطينية في تشيلي سنة 1978 وتحوّل إلى سفارة رسمية في سنة 1991. وفي سنة 2011، اعترفت الحكومة التشيلية رسمياً بالدولة الفلسطينية، وهو اعتراف تحقق كذلك بفضل المساهمات التاريخية للمجتمع التشيلي الفلسطيني. 

كما شاركت المنظمات الفلسطينية في تشيلي في تعبئة الجالية، والمجتمع التشيلي الأوسع، سياسياً واجتماعياً وثقافياً. وكان الحدث الذي اضطلع بدور رئيسي في هذه التعبئة هو الانتفاضة الثانية ، عندما شُكلت مجموعة من الجمعيات والمنظمات الفلسطينية، أو ازداد نشاط تلك القائمة منها في المجتمع التشيلي. وقد انضوت هذه الجمعيات والمنظمات تحت مظلة الجالية الفلسطينية في تشيلي ، وضمت منظمات طلابية مثل الاتحاد العام لطلبة فلسطين ، ومنظمة التضامن مع فلسطين  في الجامعة الكاثوليكية ، ومنظمات خيرية مثل مؤسسة بيت لحم 2000  واتحاد الخير العربي ، وجمعية  سيدات فلسطين . وقد نشطت هذه الجمعيات والمنظمات المتنوعة سياسياً في تنظيم الفاعليات والحملات، مثل التجمعات الثقافية وجمع التبرعات والمناظرات والاحتجاجات، بهدف رفع مستوى الوعي وتعبئة المجتمع التشيلي حول الوضع في فلسطين.

تتمتع الجالية الفلسطينية في تشيلي بمكانة راسخة في المجتمع المدني التشيلي الأوسع. على سبيل المثال، لدى اندلاع الحرب في 2023 على غزة ، أقامت الجالية تحالفاً واسعاً من منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية، ونسقت نشاطها،  لمطالبة الحكومة التشيلية باتخاذ إجراءات دبلوماسية من أجل وقف إطلاق النار وفرض عقوبات على إسرائيل.

الروابط الوطنية والتضامن من تشيلي إلى فلسطين

على مدى أكثر من مئة عام، وعلى الرغم من البعد الجغرافي عن فلسطين، فإن المجتمع التشيلي الفلسطيني خلق مساحات وفضاءات فلسطينية مميزة في جميع أنحاء المجتمع التشيلي ووسّعها وساهم في تعبئتها. لقد شكل التجذر القوي لأعضاء الجالية وتنظيمهم الجيد ونشاطهم الفعال، فضلاً عن اهتمام الأجيال الشابة بإعادة اكتشاف جذورهم الفلسطينية، الأسس التي دعمت، وتدعم، المكانة المركزية التي يحتلها الفلسطينيون التشيليون في إطار الشتات الفلسطيني والحركة العالمية من أجل تحقيق العدالة في أرض أجدادهم.

قراءات مختارة: 

Baeza, Cecilia. (2014). “Palestinians in Latin America.” Journal of Palestine Studies 43, no.2 (Winter 2014): 59-72.

Beaume, Victor. “Politics Resettled: The Case of the Palestinian Diaspora in Chile.” Refugee Studies Centre, Working Paper Series. 2019.

Elsey, Brenda. Citizens and Sportsmen: Fútbol and Politics in Twentieth-Century Chile. Austin: University of Texas Press, 2011.

Glick, Edward B. “Latin America and the Palestine Partition Resolution.” Journal of Inter-American Studies 1, no.2 (April 1959): 211–222.

Mattar, Ahmad Hassan. Guía social de la colonia árabe en Chile [Social Guide to the Arab Colony in Chile]. 1941.

Norris, Jacob. The Lives and Deaths of Jubrail Dabdoub: Or, How the Bethlehemites Discovered Amerka. Stanford: Stanford University Press, 2023.

Paarlberg, Michael Ahn. "Turcos and Chilestinos: Latin American Palestinian Diaspora Nationalism in a Comparative Context." in Arab Worlds Beyond the Middle East and North Africa, edited by Mariam F. Alkazemi and Claudia E. Youakim, 11-28. Lexington Books, 2021.

Saffie, Nicole and Agar, Lorenzo. “A Century of Palestinian Immigration to Chile: A Successful Integration.” In V. Raheb, ed., Latin Americans with Palestinian Roots. Bethlehem: Diyar Publishers, 2012.

Schwabe, Siri. Moving Memory: Remembering Palestine in Postdictatorship Chile. Ithaca, NY: Cornell University Press, 2023.

t