إضاءة على –

لجنة التحقيق الأنغلو-أميركية، 1946

إضاءة على –
لجنة التحقيق الأنغلو-أميركية، 1946
النزعة الإنسانية على حساب العدالة

عرض جدول الأحداث

لجنة التحقيق في فلسطين

آذار 1946
Source: 
Matson photo service, Library of Congress

جرى إيفاد "لجنة التحقيق الأنغلو–أميركية " إلى فلسطين في سنة 1946 بغرض "تفحّص مسألة يهود أوروبا، ومن أجل... مراجعة المسألة الفلسطينية في ضوء هذا الفحص". وكانت إدارتا الولايات المتحدة وبريطانيا تعتبران محنة آلاف الأشخاص اليهود المهجّرين في أنحاء أوروبا في نهاية الحرب العالمية الثانية ، والصراع على فلسطين، وتطوير الشرق الأوسط مسائل ذات أهمية قصوى. وتمثّل هدفٌ آخر لمهمة اللجنة، التي امتدّ عملها على مدى 120 يوماً، في "الاستماع إلى وجهات نظر شهود مؤهّلين والتشاور مع عرب ويهود لهم صفة تمثيلية بشأن مشاكل فلسطين".

وكان وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفين قد أعلن، يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1945، تشكيل اللجنة بعضوية ستة محققين بريطانيين وستة محققين من الولايات المتحدة. وجاءت هذه المبادرة كمحاولة من البريطانيين لإشراك الأميركيين في سياستهم في فلسطين وللالتفاف على دعوة رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان للسماح بدخول 100,000 مهاجر يهودي الى فلسطين.

تشكيل اللجنة

كانت لدى حسين فخري الخالدي ، رئيس بلدية القدس سابقاً وأمين سر الهيئة العربية العليا ، شكوك بشأن جدوى تشكيل لجنة تحقيق إضافية أُخرى، إذ كان يرى أن العرب سيدفعون الثمن في حال تعاونوا مع الولايات المتحدة، نظراً إلى روابطها الوثيقة مع الحركة الصهيونية . وسيتبيّن أـنه كان، بشكل ما، صاحب بصيرة؛ فأحد أعضاء اللجنة الأميركيين وأكثرهم فاعلية ومجاهرةً برأيه كان جيمس ماكدونالد ، المفوّض السامي السابق لشؤون اللاجئين في عصبة الأمم ، الذي كان معروفاً بمناصرته الحركة الصهيونية، وبقي على صلة بالصهيونيين طوال عمل لجنة التحقيق، وكان يدعم النزعة القومية اليهودية بقوة، وهو موقف بدا واضحاً في أعين زملائه في اللجنة كما كان جلياً خلال جلسات الاستماع والتداول.

ولم يكن ماكدونالد الوحيد الذي يحمل مواقف متحيّزة خلال عمله الاستقصائي. فقد تم تعيين عضو أميركي ثانٍ مناصر للحركة الصهيونية، هو بارتلي كرام ، الذي أوصى به (وبماكونالد أيضاً) سكرتير ترومان، ديفيد نايلز ، والذي كان هو نفسه ناشطاً صهيونياً. وقد عمد كرام ، ومعه ماكدونالد، إلى تسريب معلوماتٍ عن عمل اللجنة إلى الصهيونيين، وكذلك فعل فرانك و. باكستون ، رئيس تحرير "بوسطن هيرالد". ولم يُظهِر أيٌ من أعضاء اللجنة الأميركيين الآخرين ما يمكن اعتباره موقفاً "مناصراً للعرب"، إذ كان القاضي الأميركي جوزف هاتشيسون  يُقدّم نفسه بصفته ليبرالياً، كما كان حال فرانك أيديلوت ، الرئيس السابق لـكليّة سوارثمور Swarthmore ومدير مؤسسة الدراسات المتقدمة في برنستون . وشدّد كلاهما على "التوازن" و"الإنصاف" في سياق معالجة المطالب المتناقضة لليهود والعرب في فلسطين، متجاهلين بذلك واقع كون فلسطين آنذاك بلداً ذا غالبية عربية كاسحة.

أمّا بين أعضاء اللجنة البريطانيين، فكان ريتشارد كروسمان ، وهو نائب اشتراكي عن حزب العمال ، معجباً بـ "الشعب اليهودي" وما اعتبره التجربة الاشتراكية لهذا الشعب في "أرض صهيون". وقد أبدى درجة معيّنة من الاستخفاف بالمواقف العربية، وهو ما تجلى في الرسائل التي كان يكتبها إلى زوجته في بريطانيا في أثناء تقديم الشهادات العربية أمام اللجنة. وكان رئيس اللجنة من طرف المملكة المتحدة ، وهو السير جون سينغلتون ، قاضياً في المحكمة العليا. وكان هو، وعضو اللجنة الآخر الميجر ريجينالد مانينغهام-بولر (الذي سيصبح لاحقاً اللورد دلهورن )، العضو المحافظ في مجلس العموم، حريصَين على حماية ممتلكات البريطانيين وسمعتهم في فلسطين. وكان إرنست بيفين يعتقد أن المفوّض الصناعي الرئيسي، السير فريديريك ليغيت ، الذي كان كذلك عضواً في اللجنة، هو مفاوض من الطراز الأول. كما عُيّن في اللجنة كلٌ من ويلفريد كريك ، وهو مستشار اقتصادي لـبنك ميدلاند  ومحاضر في كلية لندن للاقتصاد، واللورد موريسون  من أعيان حزب العمال. أمّا السكرتير البريطاني للجنة، وهو هارولد بيلي ، فقد كان مؤرخاً ومستشاراً لبيفين، ويًوصف بأنه "طويل القامة، نحيل، ومتحذلق".

مداولات اللجنة

استمعت اللجنة إلى صهيونيين، وعرب، وعرب أميركيين، ورسميين بريطانيين، ومفكّرين بارزين من أمثال ألبرت أينشتاين واللاهوتي البروتستانتي الأميركي راينهولد نيبور .

قدّم حاييم وايزمن ، رئيس الوكالة اليهودية والرئيس المستقبلي لإسرائيل، شهادة واسعة ومتشعّبة أمام اللجنة. فشدّد على "أن اليهود يفتقدون وطناً لهم"، وذلك "منذ قرونٍ طويلة قبل هتلر "، وقبل اللاسامية المعاصرة. وأشار إلى "الطاقة الاستيعابية" لفلسطين والتي بإمكانها استقبال 900,000 يهودي إضافي بفضل عملية الاستيطان التي قاموا بها، "بدون التفكير بإزاحة أحد". وطالب بصورة محدّدة بإدخال 100,000 مهاجر يهودي "على الفور" وبإلغاء الكتاب الأبيض البريطاني لسنة 1939 الذي حدّ من الهجرة اليهودية والاستيطان في فلسطين. وبكلمات وايزمن، فإن نظام انتقالات الأراضي لسنة 1940 الذي استوحي من الكتاب الأبيض حشر اليهود "بشكل أو بآخر في غيتو". كان هدف وايزمن الأوسع إقناع اللجنة بإقامة دولة يهودية، وقد استفسرت اللجنة بشأنها، مركّزةً على ما يمكن أن تحدِثَه من تأثير على اللاسامية، وكذلك على الانعكاسات المحتملة لقيام مثل هذه الدولة على العرب. وأقرّ وايزمان باحتمال معارضة العرب دولة كهذه، مؤكّداً أنه ليس على اللجنة السعي من أجل الكمال في استخلاصاتها، نظراً إلى "عدم وجود عدالة مطلقة في هذا العالم. ما أنتم تحاولون تحقيقه... هو مجرد عدالة إنسانية تقريبية". واعترف بأنه "يمكن أن يكون هناك بعض الظلم البسيط على الصعيد السياسي إذا تحوّلت فلسطين إلى دولة يهودية"، لكنه طمأن اللجنة بأن "العرب كأفراد لن يعانوا". وأكد أنهم لن يعانوا لأن اليهود عرفوا المعاناة، ولن يبدأوا في اضطهاد العرب، موضحاً أنه "ليس بإمكانك أن تصنع العجّة من دون أن تكسر بعض البيض"، ومعتبراً أن على العرب الاكتفاء بالممالك والبلاد العربية التي لديهم.

وكانت الوكالة اليهودية قد ألزمت كل مكوّناتها بتبنّي مطلب الدولة اليهودية في الشهادات أمام لجنة التحقيق. وعليه، لم تقم أحزاب مثل الحزب العمالي هاشومير هاتسعير ، الذي كان يدعو إلى دولة ثنائية القومية، بعرض الموقف الذي كان يتبناه أمام اللجنة. لكن إملاءات الوكالة اليهودية لم تستطع منع يهودا ماغنس ، زعيم حركة إيحود ورئيس الجامعة العبرية في القدس، من الدعوة إلى وحدة عربية- يهودية في دولة ثنائية القومية.

المشاركة العربية وإنهاء عمل اللجنة

أثارت مسألة المشاركة في مداولات لجنة تحقيق إضافية جدلاً في الأوساط العربية.  فمنذ أن تولّى البريطانيون سلطة الانتداب بقرارٍ من عصبة الأمم، قَدِمت إلى فلسطين لجان استقصائية عديدة وغادرت، من دون أن يتحقق سوى القليل في لجم تعديات الصهيونية الاستعمارية على أراضيهم وحيواتهم. لكن بعد أن كان الفلسطينيون قد تأخّروا، حتى اللحظة الأخيرة، في قبول المثول أمام  لجنة بيل الملكية في سنة 1936، حثّ البعض على المشاركة الفلسطينية في هذه "الغزوة" الاستقصائية الأخيرة. وكان موسى العلمي ، المستقلّ سياسياً، أحد هؤلاء الذين لم يرغبوا في تكرار خطأ الامتناع عن التحضير أو التأخّر في المشاركة؛ فهذا، ما جعل الشهادات الفلسطينية، في تقديره، غير كافية في المرة السابقة. ومضى العلمي ليؤدي دوراً مهماً في إدارة عمل المكتب العربي، الذي أصدر كمّاً كبيراً من الوثائق والمحاججات (أكثر من ألف صفحة باللغة الإنكليزية) لتقديمها إلى لجنة التحقيق. كما قدّر آخرون كُثُر أن هذه اللجنة مهمة، وهو ما عكسته "جريدة فلسطين " العربية التي قامت، بعد أن تمّ الإعلان للمرة الأولى في سنة 1945 عن هذه اللجنة، بنشر ستة وستين مقالاً عنها في أعداد شهرَي تشرين الثاني وكانون الأول/ ديسمبر من ذلك العام.

إن معظم الممثّلين العرب الذين ستستمع إليهم اللجنة – وبينهم أناس وصفهم ريتشارد كروسمان، العضو البريطاني في اللجنة، بأنهم "قادة سياسيون رديئون وغير كفؤين، وكسالى، وفاسدون، يبدّدون وقتنا"- حضروا أمام اللجنة في القدس، حيث كانت اللجنة تجري جلسات استماع يومية تمتدّ إلى سبع ساعات. وكان الأمر "مُرهقاً إلى حدٍ ما"، الأمر الذي جعل اللجنة تصبح "سريعة الانفعال بشكل كبير، وتشعر بالملل"، وفق ما سجّله كروسمان في يومياته. وبنظر جيمس ماكدونالد، العضو الأميركي في اللجنة، كانت مساهمة عوني عبد الهادي "عرضاً لمعطيات تاريخية مملاً جداً، ومتكلّفاً ونزقاً" نالت من صبر اللجنة، وكذلك الادّعاء بأن اليهود استولوا على المناطق الأكثر خصوبة في فلسطين. وفي الاتجاه نفسه، وصف فرانك أيديلوت، العضو الأميركي الآخر في اللجنة، شهادة العرب في القدس بأنها "بضاعة قديمة". وعلى النقيض من نظرته إلى شهادات العرب، رأى كروسمان أن حاييم وايزمن كان "الشاهد الأول الذي أقرّ بصراحة وبصورة واضحة بأن المسألة ليست خياراً بين ما هو صائب وما هو خاطئ، وإنما بين الإجحاف الأكبر والإجحاف الأقلّ".

وفيما حاول ممثلو القضية الفلسطينية، خلال إفاداتهم، الاستمرار في التركيز على القيم القانونية والديمقراطية، جهدوا لإقناع مستجوبيهم بإنسانيتهم وصدقية تعاطفهم مع اليهود. واستند المكتب العربي، وهو فريق العلاقات العامة الصغير الذي تولّى إدارة تقديم الموقف العربي، إلى حجج قانونية بصورة مطّردة. وبتوجيه من ألبرت حوراني ، المؤرّخ المتخرّج في أكسفورد والمنحدر من أصول لبنانية، الذي استقطبه موسى العلمي للإشراف على تحضيرات اللجنة، تضمن البحث المنهجي الذي قام به فريقهما من أجل إقناع اللجنة بحق العرب في الاستقلال، إثباتات اقتصادية كذلك تفنّد ادعاءات الصهيونيين بأنهم يقومون بتطوير فلسطين من أجل منفعة العرب. وطوّر حوراني وفريق المكتب العربي، الذي نظّم العديد من شهادات الفلسطينيين أمام اللجنة، مقترحات مفصّلة بشأن دستور تحكم دولة فلسطين نفسها على أساسه ويضمن المواطنة الكاملة لليهود فيها.

وفي شهادة ألبرت حوراني أمام لجنة التحقيق، ذكّر اللجنة بأن "الشعب العربي... أكّد مرة تلو أُخرى بأن الحلّ العادل والعملي الوحيد لمشكلة فلسطين يتمثل في إقامة فلسطين... كدولة تحكم ذاتها، بغالبيتها العربية، ولكن مع حقوق كاملة للمواطنين اليهود... دولة ينبغي أن تنضمّ لهيئة الأمم المتحدة ... على قدم المساواة مع الدول العربية الأُخرى؛ دولة تُتّخذ فيها القرارات بشأن القضايا التي تهمّ الجميع، مثل الهجرة، من خلال العملية الديمقراطية العادية، بما يتوافق مع إرادة الأغلبية". وتكون حكومتها "ممثلة لجميع المواطنين الفلسطينيين على أساس المساواة المطلقة بين الأفراد". وفي إطار الرؤية التي قدمها المكتب العربي، جرى التشديد على حقوق اليهود المقيمين حتى ذلك الحين في البلد بصفتهم مواطنين شرعيين، وعلى اعتبار أن "المواطنين الفلسطينيين، عرباً ويهوداً على حد سواء، سيكونون مسؤولين عن رفاه مجمل الشعب في البلد". وأكدت الوثائق الأُخرى التي قُدّمت لـلجنة ضرورة تشكُّل الحكومة من خلال جمعيتين، دستورية وتشريعية، وإنجاز قانون انتخابي، وضمانات أُخرى، على أن "يجري تكريس" كل ذلك في قرار يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لكن لا يبدو أن الحجج الفلسطينية والعربية الأُخرى تركت تأثيراً يُذكر على المفوّضين، الذين قام البعض منهم بذمّ العرب لـ"عنادهم" ومواقفهم المتصلّبة. ولم يتمكّن ممثلو القضية الفلسطينية، مثل فيليب حِتّي ، المؤرّخ اللبناني- الأميركي في جامعة برنستون، من إقناع هؤلاء المحكِّمين بفكّ الرابط المُحكَم بين فكرة الدولة اليهودية وقضية اللاجئين اليهود، وذلك على الرغم من قيام فيليب حِتّي وغيره بتفنيد فكرة كون الدولة اليهودية وحدها يمكن أن تخفّف من معاناة ضحايا المحرقة المشرّدين. وأعلن فايز صايغ في مداخلته أمام اللجنة: "إن محاولة تخفيف عذابات اليهود، من خلال إحداث عذابات موازية لشعب آخر ليست فقط مسعىً غير عقلاني ... وليست فقط محاولة غير حكيمة ... وإنما هي أيضاً وبالدرجة الأولى محاولة ظالمة". وعلى المنوال نفسه، أكّد ألبرت حوراني، في تفاعله مع اللجنة، ضرورة إبقاء أبواب أوروبا وأميركا مفتوحة أمام ضحايا الحرب الأوروبية، وليس "الأرض المقدسة" الهشّة سياسياً، وحيث أن العرب ليسوا مسؤولين عن المشكلة. وفي مداخلة المكتب العربي المكتوبة التي حملت عنوان "مستقبل فلسطين"، جرت التوصية بأن تُحال مسألة اللاجئين إلى "تحكيم من قبل هيئة الأمم المتحدة... بحيث يتحمّل كل الأعضاء مسؤوليتهم بصورة متساوية"، مع التأكيد، كما فعل شهود آخرون، بأن مشكلة لجوء اليهود هي مسؤولية عالمية.

وفي محاججتهم، أقرّ الفلسطينيون بأن هناك وجهتَي نظر في جذر النزاع: فإمّا أن يتمّ منح الأغلبية في فلسطين – العرب- حقوقها الديمقراطية؛ أو أن تتمَّ التضحية بهذه الحقوق، ويتمَّ تحويل ما أحدثته الهمجية الأوروبية في اتجاه آخر، بحيث يُمنح ضحايا هذه الهمجية دولة في فلسطين باسم "النزعة الإنسانية".

لكن مأساة اليهود الأوروبية استُخدمت في المحصّلة للتوصّل إلى قرار سياسي قضى بالتجاوب مع المطالب الصهيونية الرئيسية، والدفاع عن هذا القرار، في تعارض مع كل المبادئ والإجراءات الديمقراطية.

توصيات اللجنة

في تقريرها الذي صدر في 20 نيسان/ أبريل 1946، كان من بين التوصيات النهائية للجنة، إصدار تصاريح هجرة لـ 100,000 يهودي إلى فلسطين، بما يلبّي مطلباً صهيونياً ويدفع في اتجاه تمكين الصهيونيين من تأمين أغلبية في البلد. وأوصى التقرير كذلك بألّا تكون الهجرة اليهودية إلى فلسطين مرتبطة بموافقة العرب، وبأن يتمّ إلغاء جميع القوانين التي تحدّ من بيع الأراضي العربية إلى اليهود. إزاء هذا الموقف، قام معهد الشؤون العربية الأميركية بتأنيب اللجنة لعدم تجاوبها مع المطلب العربي الداعي إلى التعامل مع فلسطين "في إطار المبادئ الديمقراطية ذاتها التي تسري في [الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى]". وحاول مرة أُخرى التشديد على حجّة الديمقراطية بقوله: "ينبغي أن تُطبّق حقوق الإنسان الأساسية وغير القابلة للتصرّف التي توفّرت لتلك الأمم على عرب فلسطين"... لكن ذلك لم يُكتب له أن يحدث.

وبين الاستخلاصات الأُخرى للجنة، والتي لم تلقَ اهتماماً كافياً في حينه، كانت التوصية بأن تعمل جميع الحكومات معاً من أجل "إيجاد أماكن لجوء جديدة لكل ’الأشخاص المشرّدين’، بغض النظر عن العقيدة أو القومية". بيد أن هذه التوصية لم تلقَ آذاناً صاغية في ظل إلحاح الرئيس هاري ترومان على منح تصاريح الهجرة إلى فلسطين لـ 100,000 يهودي. وأظهرت التوصيات الأُخرى رغبة في السعي للموازنة بين مصالح اليهود والعرب، وهو ما دلّ على أن اللجنة لم تستخلص أي درس من ممارسات الانتداب البريطاني الذي كان يدّعي رغبته في مراعاة هذا التوازن في الوقت الذي يقر بعجزه عن ترجمته عملياً. ودعت اللجنة إلى وقف الإرهاب وإلى استمرار الانتداب حتى تصبح فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة، مع النصّ على أنه "ينبغي على الوصي أن يعلن أن مبدأ التقدّم الاقتصادي والتعليمي والسياسي العربي له أهمية متساوية مع التقدم اليهودي"، والدعوة، في الوقت نفسه، إلى تسهيل الهجرة اليهودية. ودعت التوصيات أيضاً إلى نقض نظام انتقال الأراضي لسنة 1940 و"استبداله بنظام يرتكز على سياسة حرية بيع الأرض وتأجيرها أو استخدامها، بمعزلٍ عن العرق أو الطائفة أو العقيدة"، مع توفير الحماية لصغار الملّاكين والمزارعين المستأجِرين للأرض. وفي تكرار لفكرة التوازن و"المعقولية"، دعت اللجنة إلى نظام تعليمي حيادي ومتوازن لكل من العرب واليهود، بإشراف من الحكومة في سبيل "التخلّص من التهييج الراهن القائم على العرقية ومن إساءة استعمال التعليم لأهداف دعاوية" اللذين يسودان في المدارس اليهودية.

وكان هناك تنوعٌ في الآراء بين أعضاء اللجنة ولدى الأشخاص الذين قدّموا شهاداتهم أمامها بشأن تأييد أو معارضة تقسيم فلسطين. وفي التقرير، عارضت اللجنة فكرة قيام دولة يهودية أو دولة عربية في فلسطين كلها. واعتبر أعضاء اللجنة أن تقريرهم أظهر موقفاً "منصفاً" على أساس مبدأ "عِش ودَعْ غيرك يعيش"، كما وصفه رئيس الفريق الأميركي في اللجنة جوزف هاتشيسون.

ردات الفعل

فيما دعم وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفين التقرير، عارضه رئيس الحكومة كليمنت أتلي ، خشيةَ أن يثير غضب العرب واليهود، معترفاً بأن تحديد فلسطين بصفتها البلد المعني وحده باستيعاب المهجَّرين الذين بقوا في قيد الحياة بعد المحرقة يثير مشكلة. وعبّر ترومان عن سعادته بدعوة اللجنة للهجرة الجماعية اليهودية إلى فلسطين وإبطال الكتاب الأبيض، فيما غضّ النظر عن التوصيات الأُخرى، التي تناولت "العديد من القضايا الأُخرى المرتبطة بالتوجّهات السياسية بعيدة المدى وبمسائل القانون الدولي" باعتبارها تتطلّب "دراسة مدقّقة"، متعهّداً بـ"معالجتها بروية".

ورحّب الصهيونيون بقرار السماح بدخول 100,000 مهاجر يهودي إلى فلسطين، لكن خاب أملُهم لعدم حصولهم على تزكية لإقامة الدولة اليهودية. وكانت ردّة الفعل العربية، في المقابل، سلبية بشكل إجماعي، وهو ما دفع الهيئة العربية العليا للدعوة إلى إضراب عام للاحتجاج على التقرير. وانتقد ألبرت حوارني التقرير على أساس أن "ليست له فضائل فكرية، ولا يتّسم بفهم عميق، ولا بقوة حجة منطقية". وكما كان موقف القائد السياسي محمد عزة دروزة ، رأى رئيس الهيئة العربية العليا الموجود في الخارج، المفتي الحاج أمين الحسيني ، أن التقرير متحيّز إلى أبعد حدود؛ وأنه لا يُظهر أي صدق، أو نزاهة أو منطق. (حتى ديفيد بن غوريون أقرّ بأن العرب حصلوا على نتائج سيئة).

ومرةً أُخرى، لم تُحدِث الحجج العربية المنطقية المستندة إلى القيم الليبرالية والديمقراطية أي تغيير في ديناميات سياسات القوى الكبرى. وبدلاً من ذلك، شكّل البريطانيون لجنة جديدة لتحديد كيفية ترجمة المقترحات الأنغلو-أميركية عملياً. فقامت هذه اللجنة بتقديم ما عُرف بـ"خطة موريسن- غرادي "، وهي خطة وصفها المؤرّخ ويليام روجر لويس ، بأنها "حل كلاسيكي لوزارة المستعمرات تُطبّقه على مشكلة فلسطين الفريدة"، وتعيد فيه إنتاج قالب جاهز لاستقلال ذاتي إقليمي (مناطقي) ووصاية بريطانية مركزية. وقد رفض ترومان والصهيونيون مشروع الحكم الذاتي الموقت الذي انطوى عليه المشروع الذي قدمته هذه اللجنة، كما رفضه العرب لكونه يُرسي، في نظرهم، الأساس للتقسيم.

قراءات مختارة: 

حلة، محمد علي. "اللجنة الإنجليزية الأمريكية لبحث المشكلة الفلسطينية، 1945-1947". القاهرة: د.ن.، 1992.

دروزة، محمد عزة. "مذكرات محمد عزة دروزة: سجل حافل بمسيرة الحركة العربية والقضية الفلسطينية خلال قرن من الزمن". بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1993.

الشقيري، أحمد. "أربعون عاماً في الحياة العربية والدولية". بيروت: دار النهار، 1969. 

Allen, Lori. A History of False Hope: Investigative Commissions in Palestine. Stanford, CA: Stanford University Press, 2020.

Allen, Lori. “Determining Emotions and the Burden of Proof in Investigative Commissions to Palestine.” Comparative Studies in Society and History 59, no.2 (2017): 385–414.

The Arab Office, Jerusalem. The Problem of Palestine. Evidence Submitted by the Arab Office, Jerusalem, to the Anglo-American Committee of Inquiry, March 1946.  Washington, DC, 1946.

Beinin, Joel. “Arab Liberal Intellectuals and the Partition of Palestine.” In Partitions: A Transnational History of Twentieth-Century Territorial Separatism, edited by Arie M. Dubnov and Laura Robson, 203–23. Stanford, CA: Stanford University Press, 2019.

Khalidi, Walid. On Albert Hourani, the Arab Office, and the Anglo-American Committee of 1946.” Journal of Palestine Studies 35, no.1 (2005): 60–79.

Louis, Wm. Roger. The British Empire in the Middle East: 1945–1951: Arab Nationalism, the United States, and Postwar Imperialism. Oxford: Clarendon Press, 1984.

t